صحيفة المثقف

ميمون حرش: "ألــو"...

ميمون حرشقديماً كان إنسان الصحراء- والدنيا كانت كلها صحراء- يمتطي دابته، ولا يكاد ينزل، ينتقل، كقطع الشطرنج، من مكان لآخر، له من الألفة مع الأمكنة ما يجعله منسجماً مع واقع صعب، لكن محتمل.. الفضاء، والليل، والنجوم، والسحَر، والندى، والطيور.. أشياء حية يعانقها حباً وهياماً، يعيشها، يتلمسها، تملأ كيانه، وتمده بطاقة هو في حاجة إليه، أكثر من ذلك كان الليل، لوحده، عالما جميلا ينثال المرء فيه كما الأرنب انثيالا، يهتدي بنجمه، ويسهر ليله، هو السكن مها طال أو قصر..واليوم.؟! آه من اليوم ! الزمن غير الزمن، كل شيء فيه مقلوب، الليل مثلا ما عاد أحد يتمتع بجماله، وحضوره؛ ببساطة لأننا، بالكهرباء، أقصيناه، فلم نعد نعرف سوى النهار.

أجدادنا كانوا يسهرون على ضوء الشموع، في جو حميمي مخملي، أما صغارنا، ففي حضن الجدات يستمتعون بحكايات جميلة عن " ثامزا"، والسعالي، والسندباد، وحوريات البحر.. تُروى لهم بلغة ريفية جميلة، وبديعة.. الجلسات كانت حميمية، والأسر كانت فعلا خلايا، الكل منصهر، و(أنا) ضمير ما كان يعني سوى (نحن). اليوم الآباء ما عادوا يجلسون مع صغارهم، تعطلت لغة الكلام فيما بينهم، ينتفي الحوار معهم ومع غيرهم بتاتاً، الأطفال منشغلون، بل غارقون في الشات عبر غرف الدردشة، ومنصهرون في الفيس- بوك،  والوات ساب، وحتى حين يضطر المراهق للكلام مع أبيه، قد يهاتفه من غرفة إلى أخرى في نفس البيت، والأب من جهته يجاريه، ويسمع له، رغم أن الفاصل بينهما هو مد اليد؛و الجدات حائرات ماعدن يجدن إلى جنبهن لا الحفيد، ولا أباه.. مما ولد لدينا نوعا خاصاً من الجدات، متأقلمات مع الوضع، فلا يكون التعويض لديهن سوى المسلسلات، أما التسبيح، والأذكار فعُـوضت بكلام منساب عبر هواتف صارت مطروحة كما حبات الرمل، لا ينتهي أبداً في الليل كله.

والجار كلمة موجودة في المعاجم فقط، وفي الأحاديث النبوية الشريفة لمجرد الاستهلاك الشفوي، والبيت المجاور ماهو سوى كوم أحجار لا علاقة لأصحابه بمن يحيط به، لا شرقاً، ولا شمالا، لا غرباً، ولا جنوباً، وحين يغلق المرء الباب دونه لا أحد يدقه، ويصبح الطرق على الأبواب، في زمن اليوتوب، ليس حماقة فقط بل عيباً..وتبادل الزيارات، وصلة الأرحام صارت موضة قديمة، إذ يكفي للهاتف المحمول أن يؤدي غرض السؤال، ولا وقت لأحد من أجل أن يتجشم تعب قطع المسافة مهما كانت صغيرة لتفقد حبيب، أو صديق..شركات الهواتف تعي هذا جيداً، وتعمل له ألف حساب، لذا هي منكبة دوماً على ضخ الزائد في الهواتف، الهدف عندها إنساني بحت، ولِمَ لا صدقة جارية.. فكلمة (ألـو) تقدم وجبات تواصلية فورية، وبها وعبر الأثير يتواصل الأحبة، أما عبارة: "لا ينقصنا سوى النظر في وجهكم العزيز" فولّت مع الرسائل التقليدية، لذلك أغلب الأسر لا يهمها النظر في الوجوه بقدر ما هي مهتمة بما هو فوري في كل مجالات الحياة، فليس في الوقت متسع لا لزيارة الأحباب، ولا لكتابة رسائل لهم، ولا للنظر في الوجوه العزيزة.. بهذا يصبح الهاتف سبباً في تدهور العلاقات الأسرية وتفككها، فكم من لقاء أثيري بين الأحبة أقصته كلمة" ألو"، وكم من أيادٍ كانت كشقيْ مقص لن تتصافح أو تربت على أكتاف الأحبة في عناق حار وحميمي، وكم من أذرع حيرت أصحابها حين لم يجدوا أين يلقونها ؛ لسان حال التكنولوجيين، اليوم، يجمع :

" بالهاتف، ومن بعيد، وحتى من قريب، نعبر لكم عن حبنا، لكننا لا نرغب في رؤيتكم، فـ "نوكيا"، أو "أوبو "، أو هواوي، أو أي هاتف آخر ينوب عنكم، وحسْب صوتكم أن يقوم مقام النظر في وجهكم العزيز".

بكلمة: الأسر تفككت، والمبادئ صار لها لون آخر غير الذي تربينا على تبنيها، والعمل بها، وآخر ما يمكن أن يخطر على بال هو بناء القيم في زمن التكنولوجيا الحديثة، زمنٍ يحرص فيه الاستعمار الجديد على القضاء على هويتنا، وأصالتنا بسلاح العولمة.

الكاتب الألماني أوزفالد في كتابه القيم " تدهور الحضارة الغربية " وجه انتقاداً لاذعاً للتكنولوجيا، وذهب إلى أن الإسراف في تعاطيها من العوامل التي تدمر المشاعر الإنسانية التي يمكن أن تجمعنا تاريخياً، وجغرافياً، وحياتياً.

 

ميمون حرش

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم