صحيفة المثقف

فتحي مهذب: قاع السجن

فتحي مهذبالبحار الذي غرق في قاع السجن

كان على الطبيب أن لا يوقظني سنة ١٩٩٤

كان عليه أن يعلن وفاتي على الساعة الواحدة بعد منتصف الليل

أن يقرع النواقيس ويجلب الغيوم

أن يضحك طويلا مثل غوريلا

بما أن رأسي مسطح ومليء بالذئاب النافقة

كان عليه أن يثقب رأسي شاقوليا لتقفز شياه كوابيسي الواحد تلو الآخر

يعتني جيدا بذكرياتي المريضة

يشرع النوافذ

لتصعد روحي مثل ملكة موقرة

ليلقي كبير الملائكة كلمة تأبين فخمة

ويشعل الهنود الحمر النار في الكلمات

ليضعوا باقة جوريات على جثماني

كان على الطبيب أن يقطع إصبعي

ويستفرد بخاتمي الذي أهدانيه قبار في غابة مظلمة

كان على الطبيب أن يربط الأشباح بحبال شراييني.

يشم رائحة النساء اللواتي خطفن مكعبات الضوء من شرفة قلبي

النصوص التي ماتت بطلق ناري

في مفترق الجنون

كان على الطبيب أن يفصل الصخرة عن ظهري المقوس

يملأ فراغ المشرحة بسنواتي المضطهدة

كان على الطبيب أن يفكر جيدا

أن يفتح النار على طيور النوستالجيا

يستدرج إوزة التفكير إلى حديقة النسيان.

كان عليه أن يقاتل الوحش المختبئ في عظامي

كان عليه أن يدحض حجة الغراب.

يحمل جثتي في سيارته الليموزين

لأكون عشاء فاخرا للكلاب السائبة.

**

بنبرة العارف قال الطبيب:

قريبا يا ولدي ستخسر عينيك الكستنائيتين.

ستخسر العالم الخارجي

سيخذلك النور في الأماكن الحرجة

لن ترى الشمس أمام بيتك

توزع المصابيح على العناصر

لن ترى شجرة الصفصاف

تقاتل بساق واحدة

منذ مائة عام

لن ترى الباص المكسو بالتجاعيد

الذي أفنى عمره مزدحما بالأشباح

لن ترى جارتك السمراء

تعلق مريلة الندم على حبل الغسيل

لن ترى فراشة واحدة تشرب الضوء بجناحيها الصغيرين.

لكن يمكن أن ترى بعيون المخيلة

تنهل إيقاع الأشياء من إناء أذنيك .

يمكن أن تذهب إلى قلبك

في الخلوة

ليساعدك على حمل أثقال المحسوسات.

**

قال لي كارلوس

لا تحزن يا أبتي

لم تمت سمكة واحدة في إكواريوم  رأسي

لم أنس جيراني القرويين

وهم يدفنون موتاهم في مخيلتي

على إيقاع نواقيس الماعز

لم أنس الشيطان الأشقر

الذي يحمحم في عروقي

سأقاتل وحوش الساعات الهرمة

الأصوات المليئة بالحصى والطحالب

أضرب النهار عل قفاه مثل ثعلب ضال

يا أبتي

لا تحزن

في السجن بمرور الوقت

يصبح السجان بألف عين

كما لو أنه عفريت من ألف ليلة وليلة

أو قائد أوركسترا في خيمة

زرقاء اليمامة

الشمس هنا شبه ضريرة

تدخل من النوافذ مثل إمرأة حامل

ليجامعها السجناء خلسة

ثم تختفي قبل أن يكشفها الحراس

كارلوس إبن جيد

يشرب الويسكي الفاخر

في كل غارة ليلية

يخطط لانقلاب عسكري

لطرد القدر الأعمى من سدة الحكم

واعتقال الجواسيس والكلمات المكتنزة بالفراغ

لم يجرح مشاعر عصفور واحد

لم يفتح النار على طفولته الشريرة

لم يقتل قسا في باخرة التايتنيك

يحب رقصة الدلفين في الظهيرة

لم يتعلم غير رسم التوابيت والجثث المتفحمة

وزرع الألغام في مؤخرة الحظ العاثر

كارلوس سيكسر العالم

سيكتب أغنية عن موت البحارة

وغرق السفينة في قاع السجن

***

فتحي مهذب

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم