صحيفة المثقف

جينيفير إيغان: المصممة

2342 EganPicAترجمة: صالح الرزوق

حينما وصلوا في النهاية إلى الكثبان، فتح جان المصور المظلة الفضية. كانت هذه آخر صورة لليوم. كان الضوء ساطعا وهجوميا. وانتشرت أكوام الرمل حولهم وهي تلمع كأنها أكوام من مسحوق الزجاج. غرست البنت أصابع قدميها في الرمل، وهي ترتدي تنورة قصيرة من القطن، وقميصا خفيفا عريضا. وعلى مبعدة أقدام منها، بحثت المصممة عن شيء ما في حقائب اليد المزدحمة ببذات الاستحمام. اسم المصممة برناديت. وكانت تقوم بهذا العمل منذ سنوات طويلة.

قالت:”خذي”. وقدمت للبنت البكيني. كان من مادة حمراء لماعة. رمقت البنت جان، المشغول بتحميل الكاميرا بفيلم. وتخلت عن سروالها الداخلي من تحت التنورة، وارتدت النصف السفلي من ثوب الاستحمام. ولم تكن على مشارف العشرين بعد.

سألت البنت واسمها أليس:”هل هذا هو غطاء المصورة”. كلما كانت تلتقط صورة تسألها السؤال نفسه.

 قالت المصممة:”أين كنت قبل شهرين؟”.

ردت:”ماذا تقصدين؟”. واتخذ وجهها شكل ألماسة. بينما التمعت عيناها بلون أصفر ذهبي.

سألتها برناديت مجددا:”أين كنت قبل شهرين؟”.

“كنت في البيت. قبل أن يكتشفوني”.

“وأين بيتك؟”.

“في روكفورد، إلينويز”.

قالت برناديت للبنت:”سواء كان غطاء الكاميرا أم لا، أنت تبلين بلاء حسنا”.

وفاجأ ذلك أليس. فتحت فمها لترد، ولكنها استدارت ورفعت القميص الخفيف لما فوق رأسها. كانت حركات كتفيها غير متوازنة. وغطت ثدييها الصغيرين بالنصف العلوي من ثوب الاستحمام. وربطت برناديت العقدة. ونظرت أليس للحظة للأمواج، وكانت زرقاء باهتة ومضطربة.

سألت:”أين نحن الآن؟”.

قالت برناديت:”في لامو”.

ووصل مصفف الشعر والعناية بالبشرة، وهو يخبط بقدميه الممشى. كان اسمه نيك، وبدأ بالعمل على عيني البنت والتي احتضنت نفسها.

سألت:”أين كنا بالأمس؟”.

قالت برناديت:”في مومباسا”.

وأصبح المصور جاهزا. ورفع المظلة الفضية لاستقبال الإضاءة. ووضع عداد الضوء على صدر البنت. ودخن مصفف الشعر سيجارة. كان في الرحلة عارضتان إضافيتان. والتزمتا بالمراقبة بحذر وعن بعد. دمدم البحر أمام الكثبان. بدت البنت عارية بشكل خاص، ومحاصرة بالناس المحتشمين. كانت جديدة بعملها والكاميرا تخيفها. خلصها جان من الحامل الثلاثي وقربها من وجهها، وقال وهو يقف بطريقة تمكنه من رؤية المتبقين:”من فضلكم انظروا للوجه. انظروا من فضلكم للوجه هناك”.

نظروا جميعا. كان رقيقا وناعما مثل قمر أشرق للتو. وطرف جان بعينيه وراء الكاميرا. وتناغم صوت الإغلاق مع هدير تكسر الأمواج. وبعد الصورة بدأت البنت تتحرك.

صاح جان:”هناك. انتهينا”.

نظروا جميعا. ومثلهم فعلت برناديت، وشعرت أن الآخرين ينظرون مثلها. كان هناك شيء في طريقة سقوط الضوء، في يدي البنت المتحفزتين، بفمها الحزين. وسقط سكون عميق. لا يمكن أن تقول إنها مجرد بنت نحيلة وشابة على الشاطئ. بل هي بنت شابة وحزينة بشعر طويل، تراقب خط الأفق الرفيع. وفرقعت الكاميرا. ثم مرت لحظة أخرى.

ومالت أليس نحو الأسفل وحكت ركبتها. نظرت برناديت إلى جان ولاحظت أنه يبتسم. فقالت :”أحسنت”.

***

هبت الرياح في المدينة، وشحنت الهواء بالغبار وأوراق لف السكاكر. توجد نوافذ كثيرة في لامو، ونساء كثيرات جالسات تتمسكن بنقاب أسود ليحميهن من الرياح. وفي ساحة السوق كن تجتمعن قرب سلال الفواكه المجففة، والبذور، والحبوب الحمر. وكان للريح رائحة حريق. كانت الجماعة تنتظر في فندق قديم من طابقين قرب الجبهة المائية - مكان يناسب عازفي البيانو والرجال الأشداء الذين يشربون نخب أوطانهم. وذكر برناديت بالفندق الذي نزلت به في نيو أورليانز حيث أمضت شهر عسلها. ومثل الفندق كان لهذا المكان مراوح سقفية. وبالأمس استلقت بالسرير وراقبتها وهي تدور حول نفسها. بعد الغداء، أخبرتنا أليس كيف تم اكتشافها. قالت حدث ذلك في مجمع التسوق. كانت البنات تتسكعن فيه، كان من المناسب التقاط الصور فيه، وحصلت على صورة لنفسها وهي تستند على كتف أخيها. وبدا السأم على العارضتين الأخريين. أشعلت برناديت سيجارة، والتفتت إلى جان، والتي كانت تقلب في صفحات مجلة، وقالت:”بماذا يذكرك هذا؟”.

نظر إلى الأعلى، ورفع حاجبيه الأشقرين. كان لطيفا وقويا مثل محارب فايكنغ في كتاب للأطفال.

قال:”وماذا تنفع الذكرى؟”.

“لهذا. من أجلنا جميعا”.

وبدا الارتباك على جان. ولكن تابعت. قالت:”ألم تلاحظ كيف أن أحدا لا ينسجم مع أحد. مع أننا عائلة واحدة”.

شعر بالدهشة. أخذ جرعة كبيرة من البيرة وتخلل شعره بأنامله. قال:”تكلمي عن نفسك”.

ضحكت برناديت ثم توقفت وقالت:”ماذا يحمعنا برأيك؟”.

قال جان وهو يميل للخلف على كرسيه:”الجواب بسيط”. وسمعت أنين خشب الكرسي القديم. وأردف:”الأمر لا يحتاج لإعمال الذهن”.

قالت برناديت:”خفف عني إذا بذكر رأيك”.

مال للأمام، واستند بكوعيه على غطاء الطاولة الشمعي، وحملت الريح ألحانا خفيفة من موسيقا تنبعث من الشوارع الضيقة. وابتعدت العارضات، وازدحمت الغرفة بأناس شديدي السواد وتلمع بشرتهم بلون أزرق تحت الضوء. قال:”نحن في برنامج أزياء”. ولم يكن للكلام أي معنى.

ولعب بعود ثقاب على راحتيه ثم أشار للساقي لإحضار كوبي بيرة إضافيين. واستقرت ذبابات على طرف الطاولة. نظر إلى برناديت وقال وهو يرفع كأس البيرة:”لالتقاط تلك الصور”. كان صوته غامضا. وشربت برناديت من زجاجتها، وسمحت لرأسها أن يستلقي للخلف. كان عنقها أبيض وطويلا. وراقب جان بلعومها يتحرك وهو يبتلع. قالت:”نخب اليد التي تطعمنا”.

والآن كانت البنات تتبخترن للأمام، وأبدين الرغبة بالذهاب للرقص في مكان ما. في مومباسا يوجد ديسكو مزدحم بالعاهرات الإفريقيات اللواتي ترقصن بمهارة وتنتظرن الإشارة. وسحرت البنات بذلك.

قال جان:”ليس في لامو. تذكرن. هنا لا يوجد حتى سيارات”.

تثاءبت أليس علنا مثل قطة، ولمع الضوء على أسنانها. مالت للأسفل وأراحت رأسها على كتف جان. وبطريقة المراهقين اليائسة شعرت نحوه بالوله منذ البداية. قالت:”أنا نعسانة”.

نظر جان لبرناديت وجر البنت إلى أحضانه، ومرر راحته على شعرها الناعم، وأرخى ثقله عليها، ورمت ساقيها الطويلتين على الأرض، وخيم الصمت عليهما. طرفت الفتاة بعينيها وحركت رأسها. في هذه الساعة قبل شهرين، كانت تطبع قبلة مساء الخير على وجه أبيها. وقفت على قدميها ونأت بوجهها عن برناديت وجان وقالت:”حسنا. أراك في الغد”.

تجولت بحثا عن الاثنتين المكتبقيتين اللتين تركتاها خلفهما.

قال جان:”صغيرة مسكينة”.

وراقبوها وهي تبتعد، ومدت برناديت يدها تحت الطاولة ولمسته، بنعومة أولا، ثم بمزيد من الجرأة. وفكرت: من المدهش كم من السهل أن تتصرف هنا مع الآخرين كأنك تسرق. ومن حسن الحظ البنات الصغيرات لا تعرفن هذه الأمور. ونظر جان نحوها وابتلع فمه. واقتنعت أنه أصغر مما تعتقد. رشفت من البيرة، وكان لها طعم الدخان، ولم تحرك يديها. قالت:”بماذا يذكرك هذا؟”.

هز رأسه، واحمر خداه. قالت برناديت:”هيا بنا للطابق الثاني”.

***

غادرا البار وتسلقا سلما ضيقا قادهما إلى حجرات الفندق. مررت برناديت راحتيها على الجدران. كانت مخمورة أكثر مما تصورت. وتوقفا في نهاية السلالم، حيث كانت الحشرات تلقي نفسها على ضوء كهربائي. وغرس جان أصابعه بقفا جينز برناديت وحركها بنعومة. وانتقلت لها الرغبة الفولاذية وانتشرت من الأسفل حتى بلعومها. قالت:”إلى حجرتك؟”.

كان سرير جان مرتبا، والشبكة الواقية من البعوض ملتفة بشكل كومة فوقه. ذهب إلى الحمام وأغلق الباب. وقفت برناديت أمام النافذة. لم يكن لها زجاج، فقط أغطية خشبية مفتوحة لتسمح لقليل من الهواء بالدخول ليلا. وانسكب ضوء القمر الفضي على الأمواج. ولونت الشاطئ أشرعة زوارق مطلية بألوان متعددة. وسمعت صوت الماء في الحمام ولكنها بقيت قرب النافذة، وتوقعت أن يأتي جان من خلفها. ولكن لم يفعل. وأن السرير تحت وزنه. قالت وهي تواجه البحر:”كما تعلم هذا يذكرني بشيء”.

قال:”كل شيء يذكرك بشيء”.

“هذا صحيح. وذات يوم سأحزر ما هو”.

“هل من اقتراح؟”.

تمطت وشدت عضلات بطنها وقالت:”كلا. لا بد أنه شيء من بين أشياء قليلة لم أشاهدها ولم أمر بها”.

لزم جان الصمت. وتساءلت برناديت إن كان قد أغلق الشبكة الواقية. قال:”حسنا. من الصعب إذا تحديده. حينما يقع”.

تخلصت برناديت من قميصها. كانت حمالة الصدر سوداء، وثدياها ممتلئان وشديدا البياض في الحمالة. كان عريها فاضحا. وهذه هي الحالة دائما، ولكن بعد يوم من من العناية بثياب البنات ذوات الخصور النحيلة والبطون المسطحة التي تشبه صحونا غير عميقة وفارغة فاجأها جسدها. والتفتت إلى جان. قالت:”سأعرف حينما يحصل لأنه لن يذكرني بأي شيء آخر”.

كان مستلقيا ويداه معقودتان وراء رأسه. وعينه الفوتوغرافية عليها. وشعرت أن جسدها عرمرم لكن بلا مذاق. وتمنت لو أنها لم تتخلص من قميصها. قالت:”لو أغلقت عينيك لن يكون هناك فرق”.

هز جان برأسه. وتابعت المروحة السقفية دوراتها. ولامست كتفي برناديت بتيار الهواء. اقتربت من طاولة الزينة ولاحظت النقود المعدنية مبعثرة، مع علب الأفلام، وعلب السجائر. وأخرجت سيجارة وأشعلتها. كانت هناك صور بولارويد: اثنتان في صباح المدينة، والبقية من المرفأ. وانتبهت لصورة أليس بين الرمال. حملتها وقالت:”ما رأيك بها؟”.

قال جان:””ظريفة. لكنها متصلبة. جديدة العهد على الجو”.

قالت برناديت:”هي مفتونة بك. وأنا متأكدة أنك تعلم”.

قال جان:”طفلة مسكينة. عليها أن تنتسب لمدارس التعليم العالي”.

نظرت برناديت مجددا للصورة. كان ضوء الشمس يغطي شعر البنت. الرمال شاحبة وبراقة كالثلوج، والبحر بلون أزرق خفيف. واشتاقت فجأة لأن تستلقي على تلك الرمال البيض، كما لو أنها لم تشاهد ما يشبهها من قبل. ولا بد أنها ذكرت نفسها أنها واقفة خارج المشهد، وأنها من اختار ثوب استحمام البنت.

 سألته:”هل لاحظت من قبل المعنى الموجود في مضمون هذه الأشياء؟”.

ضحك جان وقال:”هل لاحظت؟. أنا من التقط هذه الصور”.

وضعت برناديت الصورة وراء البقية، وقالت بصوت هامس:”بعموم المعنى هكذا يسير العمل”.

 وامتلأت الغرفة بأشعة نفاذة. وتوجهت برناديت إلى السرير. وفكرت: مدهشة طريقة تداخل الرغبة مع الضرورة وهي تدفعك باتجاه شخص ما. وجلست على السرير ثم تمنت لو أنها ذهبت نحو الباب. وكانت تريد منه أن يطلب. وقالت لنفسها: لا بد أنه سيطلب. واستلقت قربه تحت المروحة الدوارة. وذكرتها بالمقص. ولم يتلامسا. قالت تخاطب المروحة:” والآن هل تخطط لتحصل على إيراداتك؟”.

“إيراد ماذا؟”.

“من أليس”.

و توتر ذراعاه. وسأل:”هل أنت هكذا دائما؟”.

قالت برناديت:”أنت من تخاطب أفضل شريحة من نفسيتي”.

وحضنت وجهه بيديها وقبلت فمه. وارتفع الرضاب بين حلقها وأسنانها. وتساءلت هل بمقدور جان أن يتذوق هذا الرضاب. وضغطت بطنها على بطنه وجرت قميصه نحو رأسه. تخليص إنسان من ثيابه شيء سهل - كانت تكسب قوتها من هذا العمل. وانتشرت من جان رائحة الشاطئ. وكان صدره تقريبا حليقا دون شعر. قال:”ماذا بك؟”.

وبدت عيناه صغيرتين يغطيهما الضباب. وسحبها نحو الأسفل وأصبح فوقها، وسحب سروالها الجينز.. كل ساق على حدة. وتأملت ذراعيه. شاهدت نفس العضلات الطويلة والرفيعة والشرايين التي تراها كلما حمل الكاميرا في الأيام الماضية. وتلمستها بأناملها، وصنعت على جلده أهلة صغيرة بلون أبيض. ولم يحتج. لقد امتلكته الآن، وهي موقنة من ذلك. وقالت لنفسها: هل يوجد فرق بعد الآن؟

***

لاحقا حينما مارسا الحب اختنقت الأصوات الآتية من البار، واستلقى برناديت وجان ساكنين.

قالت:”أنت تعلم أن هذه الحجرة تشبه كثيرا غرفة شهر عسلي. في نيو أوليانز”.

قال:”شهر العسل؟”.

قالت:”بالتأكيد. وهل لديك خيار آخر في السبعينات؟”.

لم يرد جان. أضافت:”كنت جميلة، وكان شعري طويلا ويبلغ طوله إلى هنا”.

واستدارت قليلا، ولامست أسفل عمودها الفقري. كان جسمها نديا. قال جان:”ولكن أنت جميلة الآن”.

قالت برناديت:”من فضلك لا تبالغ”.

ومرر جان أصبعه على خدها. قالت:”توقف من فضلك”.

“لماذا؟”.

“الجسم العجوز يكون دائما مشققا”.

سألها:”كم يبلغ عمرك؟”.

“ستة وثلاثون”.

ضحك وقال:”ثلاثة وستون. يا إلهي. أي تجارة تورطت بها”.

ولامست برناديت خدها في المكان الذي لمسه جان من لحظات. وضغطت على الجلد كما لو أنها تبحث عن بثور. قالت:”كنت مصممة منذ بلغت السادسة عشرة. وكنت أنافس العارضات في البداية. الآن أشعر نحوهن بعاطفة الأمومة”.

قال جان وهو يهز رأسه:”في السادسة عشرة”.

قالت:”الآن يبدأن من عمر أقل. أنت تعلم ذلك”.

“ولكنهن يتقدمن بالعمر مثلك. فكري كيف سيكون الحال حينها”.

“من يعلم؟. فهن يختفين فورا”.

قال جان:”بالضبط”.

وأخلدا للصمت وهما مضطجعان. وقررت برناديت أن تعود إلى غرفتها. فالهدف من أي حوار أن يحملك لمكان ما، أما هي وجان فقد التقيا وافترقا. قال:”أنت تعلمين. من الصعب أن أتصورك متزوجة”.

“كنت شبه متزوجة. لم يستمر الأمر أكثر من لمح البصر”.

”كيف انتهى؟”.

قالت:”يا للمسيح. لقد ورطت نفسي هنا بكلام لا ضرورة له”.

قال:”ولكن أخبريني”.

ضيقت ما بين عينيها وجلست على السرير. وبحثت على الأرض بأصابع قدميها عن صندل. قال جان:”لا يمكنك الإجابة على سؤال بسيط. أليس كذلك؟”.

وضعت برناديت عقد أصابعها على شفتيها. كان الباب على بعد عشر أقدام من السرير. وتمنت لو أنها ترتدي ثيابها. قالت:”أنا مضطربة”.

قال جان:”مضطربة”.

قالت:”مضطربة. كما تعلم - مضطربة؟ لا أزال أفكر بالأماكن التي عملنا بها”.

ضحك جان وقال:”أعتقد أنك اخترت الحياة الصحيحية”.

 قالت برناديت:”أعتقد ذلك”. وبحثت عن ولاعتها. وأضافت:”ألا ترى أنك تلح بكثير من الأسئلة؟”.

وأشعلت سيجارة ودخنت بعمق. وأطلقت الدخان من منخريها وسمحت له بالتدحرج من فمها. كانت تحب التدخين، وإلا كيف سيكون إحساسها بحوارات من هذا النوع.قال جان وهي تخمد عقب السيجارة في صحن رماد بشكل نصف محارة:”إذا. هل توافقت مع حسن ظنك؟. الأماكن؟”.

لوحت ذراعها نحو السقف وقالت:”بالتأكيد كانت جميلة. جميلة جدا. وهذا شيء رائع”. وأضافت:”تجولت في كل العالم. وأنت فعلت ذلك. هل أنا محقة؟”.

قال جان:”وأنا تجولت في العالم”.

شهقت، ثم زلقت قدمها في صندلها وأشعلت آخر سيجارة. قالت لنفسها: هذه للطريق. ثم قالت بصوت مسموع: ”ندمت على أمر واحد. أنني دون صور شخصية إلا فيما ندر. كل ما علي أن أصور العارضات وهن ترتدين تصاميمي”.

أومأ جان برأسه وقال:”هذا مثل التلصص على ألبوم الآخرين”.

التفتت برناديت لتواجهه. كان له وجه مليح القسمات حسب رأيها. قالت:”هذا صحيح. هذا بالضبط هو الحال”.

أطفأت ما تبقى من سيجارتها. وتمنت لو أنها غادرت قبل عشرة دقائق. وقالت لنفسها: ستتريث لنصف ساعة أخرى. استلقت على ظهرها، وجسمها قبالة جسم جان، كان كتفه حلو الرائحة قليلا، مثل شمع الشمعة. وضعت راحتها على بطنه، وعندما حاولت أن تزلق يدها غطاها جان بيده.

قال:”ما هو المكان المفضل لديك من بين كل تلك الأماكن التي زرتها؟”.

تنهدت برناديت. تعبت من الأسئلة. وعلى نحو غريب، لم تتذكر أحدا وجه إليها مثل هذا السؤال من قبل. وتساءلت هل هذا ممكن. لا بد أن أحدا سأل هذا السؤال، ولا بد أنها قدمت إجابة. وحاولت مجددا تحريك يدها. ولكن منعها جان. قالت:”أحببتها كلها”.

“هراء”.

وانتابتها فورة من الندم لأنها وجدت نفسها لا تزال هنا، وأنها وقعت في هذا الحوار. وحركت يدها وأبعدتها عن بطن جان نحو صدره. كان جلده هناك أدفأ، وأقرب للعظام. وأمكنها الشعور بقلبه النابض.

قال:”لا بد أن أحدها ترك انطباعا دائما”.

ترددت برناديت. وقالت:”نيو أورليانز. شهر عسلي”.

هل هو المكان الوحيد الذي يمكن أن تفكر به. وشعرت فجأة أنه قد تنخرط بالبكاء. وسمح جان ليدها بأن تتحرر من قبضته. واستدار على جانبه ليكونا وجها لوجه. وتلامس وركاهما. قال:”لا بد أنه مكان هادئ”. وأصبح صوته ناعما.

وتحركت برناديت لصقه. لم يمكنها أن تمنع نفسها. وضع جان يده على رأسها واحتواه وأجبرها أن تنظر إليه وقال:”هيييييي. وبماذا يذكرك هذا؟”. كان يلعب بأعصابها ويضايقها. ولاحظت سلسلة فضية رفيعة حول رقبته. قالت:” لا شيء”. وتوقف شيء في بلعومها. ولدقيقة من الوقت لم يحرك أحدهما ساكنا. قال جان وهو يجرها نحوه:”حسنا. نحن هنا. وهذه بداية”.

***

في الصباح التالي ترنحا باتجاه الكثبان، وهما مغموران بالإرهاق. كان الوقت باكرا، والضوء شاحبا وجليديا. كان يضفي لونا أبيض على الأمواج. لم يحلق جان وجهه. ولم تتمكن برناديت أن تمنع نفسها من التحديق به. كان الوقت متأخرا. وتسكع بقية الموجودين قرابة الشاطئ، ثم التفتوا نحو الرمال ليتأكدوا عما حل بهما. كان وجه العارضة غامضا في شمس هذا الصباح الباهت. وفكرت برناديت: ربما سيخمنون. ورغبت أن يفعلوا ذلك.

قالت:”شيء غريب أن نعود”.

أشار جان للمجموعة بيده وقال:”إليهم؟ أم للخلف؟”.

قالت:”كلاهما”.

في وقت لاحق من هذا اليوم سيسافرون بالطائرة إلى نيروبي. وفي صباح الليوم التالي إلى نيويورك. وبعد أسبوعين من الآن ستتابع إلى الأرجنتين. قالت برناديت:”كل شيء يتلاشى في نفس اللحظة التي تبدل بها مكانك”. ولكن من الخطأ أن تتكلم تستعمل كلمة “تتلائى” في هذا السياق. ونقل جان كاميرته من كتف لآخر. وبدأت لحيته تلمع بقطرات العرق. ثم قال وهو يبتسم لها:”شيء ما يجب أن يستمر. وإلا لن يتبقى لنا غير صور من تصميمك وبتصويري”.

لوح لهما مصففة الشعر والمسؤول عن المكياج. وتوقف البقية على الرمال بنفاد صبر وملل. كانت الأرض ناعمة ولا يصدر عنها أي صوت. قالت برناديت:”هذا لا يكفي”.

قال جان:”لا. لا يكفي”. وحاولت أن تنظر بعينيه، لكنه كان مسرعا. وفكرت لقد كان صريحا. ولكنها لم تتمكن من القفز من فوق الحوار. ورددت:”لا. لايكفي”.

وانضما للمجموعة. ونظر إليهما الجميع بحذر. واستمتعت برناديت بهذا الاهتمام بطريقة طفولية وعارية عن الخجل. ولم يمكنها أن تتذكر هذا الشعور منذ أيام المدرسة الثانوية. هناك شيء مثير في أن تكون موضع التعجب والتساؤل. أول صورة كانت لأليس وهي ترتدي قطعة واحدة سوداء قصيرة موشاة بخيوط ذهبية. وهو ما تفضله برناديت. قالت وهي تبرم خيطا شاردا:”يبدو أجمل عليك مما لو أنه علي”. كان ثديا البنت صغيرين جدا ولم يكن لبرناديت أن تخمن صدرها من ظهرها. ولم تبتسم أليس. كانت عيناها عابثتين اليوم، كما لو أنها لم ترقد أبدا. أما نيك، المسؤول عن التجميل، لم يتمكن من إضافة الظل المناسب. وقال لها وهو يضيف الكحل:”أنت متورمة”.

شخرت برناديت تقول:”متورمة.كيف سأكون بعد عشرين عاما”.

وعندما شعر نيك بالرضا، انصرفت أليس نحو حافة المياه. وأحاط بها بقية العارضات، وأدرن ظهورهن للكاميرا. ومدت أليس ذراعيها بعيدا عن كتفيها قليلا، بوضعية راقصة باليه. وعندما بدأ جان بالتصوير، رفعتهما ببطء. وقفت برناديت بجانب جان. واعتقدت أنها طفلة رفيعة، ذات جسم مضغوط بصعوبة داخل انحناءات ضعيفة وأولية. كان هناك شيء ما يستسلم في وجه البنت، شيء يمكن بسهولة تعبئته. ونظرت إلى جان.

قال:”ثبتي نظراتك. اجعليها أقسى”.

رفعت البنت ذقنها، وأصبح خط فكها الناعم واضحا. كانت عيناها لماعتين وضيقتين. نظرت إلى جان وبرناديت بنظرة حزينة وشرسة كأنها لإنسانة رأت شيئا وتعلم مسبقا أنه ليس لها. وشعر جان بالاهتمام وصاح:”يا بنوتة! أحسنت”.

وفكرت برناديت: بالفعل لقد نجحت. وربما بغضون ثلاث سنوات ستصبح مشهورة. ولن تتذكر لامو، وإذا شاهدت صورها على هذا الشاطئ ستتساءل من التقطها.

بعد الانتهاء من الصورة، تمخترت أليس نحو الماء وبدأت تتجول فيها. كانت لا تزال ترتدي ثوب الاستحمام الأسود. وهي تقف وحدها بدت مثل مراهقة على وشك أن تغطس. بعد ارتداء بقية العارضات، جاءت برناديت. كان لديها شيء تريد أن تقوله. وتجولت هي وأليس بصمت معا. قالت أليس:”أريد العودة للبيت”. وكانت عيناها محمرتين.

قالت برناديت:”أمامنا أربع وعشرون ساعة”.

“أقصد الوطن يعني الوطن”.

“أين. روكفورد، إلينويز؟”.

وافقت البنت بحركة من رأسها. وقالت:”أنا هنا مستوحشة”.

وفكرت برناديت: شيء عجيب. كيف يمكن للشابات أن تتكلمن بهذه البساطة. كم هذا الكلام سهل بالنسبة للشباب.وقالت للبنت:”نحن في أفريقيا”.

وشهقت أليس ونظرت للشاطئ. كانت الأشجار الغريبة الشكل تبزغ من خلف الكثبان. والتقط جان المزيد من الصور. كانت بقية العارضات مستلقيات على الرمال.

قالت برناديت:”لا يكون الوطن فاتنا وساحرا هكذا إن لم تكوني في إفريقيا”.

استدارت أليس نحوها، وطرفت بعينيها أمام الضوء المتوهج وقالت:”ماذا تقصدين؟”.

قالت برناديت:”أقصد بمقدورك العودة لبيتك حينما ترغبين، لا أحد يمنعك”.

وثبتت البنت نظرتها المشوشة على الأفق. كانت المياه كثيفة مثل سائل الفضة ودافئة على فخذي برناديت.

قالت:”ثم سوف تجدين نفسك في البيت”.

غمست أليس أصابعها في الماء ورسمت خطوطا مائية على طول ذراعها. وبدت دون أمل، كما لو أنها توقعت أن تسمع شيئا آخر.

قالت برناديت:”ولكن الآن باعتبار أنك تذوقت السفر. ربما لن ترغبي بالعودة”.

شعرت بلحظة من الزهو بخصوص الطريقة التي وجهت بها حياتها الخاصة. وفكرت:أنا لن أعود للبيت.

قالت أليس:”أراهن أنني لن أفعل”.

وشيء ما تراخى حول فم البنت. وبدت مرتاحة. من الصعب أن تتابع حياتك الاستثنائية والمذهلة.

قالت برناديت:”عموما يمكنني أن أسعدك قليلا”.

شهقت أليس، وتمسكت بغموضها. هي في النهاية مراهقة.

قالت برناديت:”الصورة التي انتهينا منها للتو - صورتك؟ ستكون هي الغلاف”.

تخللت البنت شعرها بأصابعها. وافتر ثغرها، وامتلأت عيناها بالدموع. وحاولت أن تكبت الابتسامة. والتفتتا نحو صخب أصوات. كان جان يهرول نحوهما برفقة نيك وراءه. فقد انتهيا من اللقطة. قال جان لبرناديت:”تلزمني واحدة منكما. أنا بحاجة لنسخة”.

ورمقت برناديت بنظرها أليس. كانت البنت تنظر للبعيد. ويداها المنداتان تتدليان على طرفيها.

قالت برناديت:”لثلاثتنا”.

وقدم جان الكاميرا إلى نيك. واقترب من جانب برناديت. ووقفت هي في الوسط بين جان والبنت. وحضنت كلا منهما بأحد ذراعيها. كان بمقدورها أن تشعر بعظام كتف أليس، هش ودافئ مثل عصفور. وأبعدت بيدها بعض الشعرات عن وجه البنت.

قال نيك:”ابتسامة لو سمحتم”.

خمدت حركات الثلاثة، واتضحت حدود المشهد لدقيقة من الوقت. ولاحظت برناديت النسمات، كان زحف الماء يغسل أصابع قدميها. وداهمتها أوجاع نوستالجيا خفيفة، وضغطت يد جان على ظهرها. وبين الثلاثة امتدت خطوط من نسيج خفيف، مثل شبكة العنكبوت. وشعرت برناديت بعاطفة جارفة لهذه اللحظة، شوق يشبه الحنين لأمر انتهى، أو شيء كان ثم اختفى. مع ذلك ها هي الآن.. هنا.

 ***

 ..........................

جنيفر إيغان Jennifer Egan كاتبة أمريكية. من أهم أعمالها رواية (زيارة من فرقة الأغبياء)2011، ورواية (شاطئ مانهاتن/)2017. وهذه القصة من مجموعتها (مدينة الزمرد/ 1996).

ترجمة صالح الرزوق / عن مجلة ناراتيف الأمريكية (السرديات الأمريكية)، عدد 2021.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم