صحيفة المثقف

كريم المظفر: الحلقة الخامسة من فضائح التجسس مع روسيا

كريم المظفرلم يمر أسبوع على مقالنا المنشور حول فضيحة التجسس بين روسيا وبلغاريا، والتي أشرنا فيه الى ان هذا المسلسل الذي يشبه المسلسلات البرتغالية التي تصل حلقاته الى المئات، وقلنا فيه، ما ان تخمد فضيحة بلغاريا، ستكون حتما فضيحة أخرى، حتى بات هذا المسلسل مملا للغاية، وبالرغم من ان العلاقات بين الاتحاد الروسي وإيطاليا – تعتبر واحدة من أكثر دول الاتحاد الأوروبي ودية تجاه موسكو - شابتها اليوم فضيحة تجسس جديدة، وأعلنت وزارة الخارجية الإيطالية، الأربعاء عن طرد دبلوماسيين روسيين، بعد القاء السلطات الإيطالية القبض على مشتبهين بالتجسس لموسكو – هما ضابط بالقوات البحرية الإيطالية وأحد موظفي الملحق العسكري بالسفارة الروسية في روما.

وكالأفلام الهندية المعروفة لدى جميع المشاهدين، بداياتها ونهاياتها وتفاصيل قصهها، تبدأ عادة هذه "الفضائح الجاسوسية " بتصريحات نارية توصف بطولة رجال الامن واستعراض مهاراتهم في تتبع " الدبلوماسيون الروس " والمتعاونين تارة، وتارة أخرى تحذر من هذه "الخطوات الروسية" وعواقبها، وكالعادة يخرج وزراء الخارجية بتصريحات " نارية"، كما هو الحال بوزير الخارجية الإيطالي لويغي دي مايو الحادث الذي وصف الحادث بأنه "تهديد لأمن ليس فقط الجمهورية نفسها، بل لأمن الناتو بأسره"، وكتب الوزير على تويتر يوم الأربعاء "أعربنا عن احتجاج شديد من الحكومة الإيطالية للسفير الروسي في إيطاليا سيرغي رازوف وأبلغناه بالطرد الفوري لمسؤولين روسيين متورطين في هذه القضية الخطيرة للغاية"، وضمن المسلسل المعروف فان وزارة الخارجية البريطانية التي لم تفوت بالطبع الفرصة ، وتكون الأولى في ردة الفعل، وللتذكير بضرورة اعتبار أنشطة الاتحاد الروسي "ضارة" و"مزعزعة للاستقرار".

وجاءت تصرفات السلطات الإيطالية ردا على الحادث الذي وصفه لويغي دي مايو بأنه "عمل عدائي بالغ الخطورة"، عشية قيام وحدة خاصة من Carabinieri (ROS)، وخلال عملية سرية، باحتجاز ضابطًا في القوات البحرية الإيطالية وموظفًا في السفارة الروسية في موقف للسيارات في روما، وبحسب صحيفة Il Messaggero، أعطى الإيطالي الروسي حزمة من الوثائق السرية وحصل على 5000 يورو من ذلك المبلغ، وأكدت البعثة الدبلوماسية الروسية في روما لصحيفة "كومرسانت" أن المعتقل الروسي موظف بالملحق العسكري بالسفارة، ولكنها رفضت الإفصاح عن منصبه واسمه.

واستكمالا لحلقات المسلسل يخرج المكتب الصحفي للشرطة الإيطالية بالقول أن "منصب المواطن الأجنبي لا يزال قيد الدراسة فيما يتعلق بوضعه الدبلوماسي"، وبحسب بيان الشرطة، فإن كلاهما متهم بالتجسس وتشكيل تهديد لأمن الدولة، وتحدثت وسائل إعلام إيطالية، نقلاً عن مصادرها، عن بعض تفاصيل الحادث، وعلى وجه الخصوص، يُلاحظ أن الوثائق المنقولة كانت ذات طبيعة عسكرية بحتة ومرتبطة، من بين أمور أخرى، بأنشطة الناتو،  لكن صحيفة Corriere della sera في ميلانو، كانت اشطر من الشرطة الإيطالية وكشفت عن اسم المواطن الإيطالي هو والتر بيوت، والذي عمل منذ عام 2014، في إدارة العلاقات الخارجية بوزارة الدفاع، ثم تولى منصب "أكثر أهمية"، وأن البيانات التي تم نقلها، على وجه الخصوص، يمكن أن تتعلق بأنشطة البعثات الدولية، بما في ذلك في أفغانستان والعراق.

وتضيف التفاصيل والتعليقات في وسائل الإعلام الإيطالية ألوانًا إضافية إلى الصورة العامة، وكتبت صحيفة لا ريبوبليكا: " لم يسبق لأي دولة أوروبية أن اعتقلت مسؤولاً روسياً وقت ارتكاب الجريمة"، وبحسب الصحيفة، فقد سبق الاعتقال مراقبة طويلة الأمد للجناة المزعومين - ليس فقط من قبل القوات الخاصة للشرطة، ولكن أيضًا من قبل موظفي المخابرات الإيطالية، (وهو ذات السيناريو البلغاري)، وإجمالاً، وصفت الصحيفة القضية بأنها "أخطر حادث منذ الحرب الباردة"، والتي لا يمكن مقارنتها إلا بما حدث في عام 1989، في أيام الاتحاد السوفيتي، ثم حاولت الأجهزة الخاصة الإيطالية دون جدوى اعتقال ضابطين مزعومين من المخابرات السوفيتية، ربما كانا يحاولان الحصول على معلومات حول مؤسسات الدفاع الإيطالية.

وسرعان ما أكدت السفارة الروسية هذه المعلومات، التي تفيد بأن ضباط إنفاذ القانون الإيطاليين قد احتجزوا موظفًا في مكتب الملحق العسكري، ولم تقدم البعثة الدبلوماسية تفاصيل إضافية، وبحسب وكالة الأنباء الإيطالية "أنسا"، فإن الإيطالي (هو ضابط بحري إيطالي رفيع، وهو قبطان فرقاطة كما ذكرت صحيفة لا ريبوبليكا في وقت سابق) قدم لروسيا معلومات عن أنظمة الاتصال مقابل 5000 يورو، (يعتقد الصحفيون أن ضابط البحرية وافق على التعاون ونشر معلومات سرية بسبب "مشاكل عائلية خطيرة")، وفي روما اعتبر الوضع "عملاً عدائياً" .

وقالت البعثة الدبلوماسية الروسية في بيان إن السفير أعرب عن أسفه إزاء هذا القرار وأمل ألا يؤثر الحادث على العلاقات الروسية الإيطالية، كما أعربت وزارة الخارجية الروسية عن أسفها فيما يتعلق بأفعال روما، قائلة إنها توضح ملابسات الحادث، وستعلن "الخطوات المحتملة" من جانبها لاحقًا، وقالت " صحيح أنه لا يستحق توقع أي رد فعل فريد: موسكو، كقاعدة عامة، ترد بطريقة تشبه المرآة، أي أنها تطرد أيضًا نفس العدد من الدبلوماسيين".

وكما هو معروف فقد ازدادت حالات طرد الدبلوماسيين الروس من الدول الأجنبية في السنوات الأخيرة، ففي غضون ثلاثة أشهر فقط من هذا العام، كانت الحلقة بالفعل الخامسة لإعلان أن موظفي البعثات الدبلوماسية الروسية أشخاص غير مرغوب فيهم والثانية بتهمة التجسس، وكانت آخر قضية رفيعة المستوى هي طرد اثنين من موظفي السفارة الروسية في بلغاريا في 22 مارس، بعد اعتقال ستة موظفين سابقين وحاليين بوزارة الدفاع البلغارية وجهاز المخابرات العسكرية، متهمين بالتجسس لصالح روسيا.

وفي إيطاليا، طُرد موظفو البعثة الدبلوماسية الروسية آخر مرة في مارس 2018 - كدليل على التضامن مع بريطانيا، التي اتهمت موسكو بتسميم موظف GRU السابق سيرغي سكريبال وابنته يوليا، وربما، مع وضع ذلك في الاعتبار، كانت لندن الرسمية تقريبًا أول من رد على فضيحة التجسس في إيطاليا، وقال وزير الخارجية البريطاني دومينيك راب: "بريطانيا العظمى تعرب عن دعمها وتضامنها مع إيطاليا التي حددت واتخذت إجراءات ضد النشاط الروسي الضار والمزعزع للاستقرار".

ويرى المراقبون ان فضيحة التجسس مع طرد دبلوماسيين روسيين لا تؤثر بشكل أساسي على العلاقات بين الاتحاد الروسي وإيطاليا، في الوقت نفسه، فإن المؤسسة الروسية واثقة من أنه بغض النظر عن مدى دفء الاتصالات بين موسكو وروما، ينبغي على الاتحاد الروسي أن يتذكر أن إيطاليا عضو في الناتو وحليف وثيق للولايات المتحدة، وإن الجمهورية، بطريقة أو بأخرى، ستتحرك في قناة التضامن عبر الأطلسي،  وتؤكد تاتيانا زونوفا، أستاذة قسم الدبلوماسية في MGIMO، دكتوراه في العلوم السياسية، " لدينا بالفعل حالات طرد متبادل لدبلوماسيين روس وغربيين، لكن هذا لا يؤثر بأي شكل من الأشكال على الاتصالات الروسية الإيطالية"، - وطبعا هذه الحلقات لا تحسن العلاقات لكن من حيث المبدأ الوضع الحالي لن يؤثر على شيء، في وقت يلفت الخبراء الانتباه إلى حقيقة أن فضائح التجسس - ليس فقط بمشاركة روسيا - في إيطاليا تحدث بوتيرة متفاوتة: نظرًا لموقعها الجغرافي، فإن الجمهورية تقع "عند تقاطع جميع أجهزة المخابرات"، لتحل محل حلف الناتو، وان المحور الجنوبي - لطالما أصبحت إيطاليا موطئ قدم للتحالف في البحر الأبيض المتوسط.

كما ان رد الجانب الروسي على هذا الخبر وصف بانه قد أتسم " بهدوء نسبي "، حيث أعربت وزارة الخارجية الروسية، عن أسفها فيما يتعلق بطرد الدبلوماسيين، وشددت الوزارة على أن هذا الإجراء لا يتماشى مع مستوى العلاقات الثنائية، وأن روسيا ستعلن خطوات أخرى إضافية، في حين شدد الكرملين من جانبه إن ملابسات الحادث لم تتضح بعد، وقال ديمتري بيسكوف، ممثل الرئيس الروسي: " على أية حال، نأمل أن تستمر الطبيعة الإيجابية والبناءة للغاية للعلاقات الروسية الإيطالية وأن يتم الحفاظ عليها".

ويحاول البعض من الخبراء الروس التقليل من شأن " الفضيحة الجديدة " ويشيرون إلى أن اتهامات روسيا بالتجسس في إيطاليا ليست جديدة: على سبيل المثال، ظهرت مثل هذه الافتراضات في الصحافة المحلية قبل عام، عندما أرسل الجانب الروسي فيما يتعلق بـ COVID-19 مساعدات إنسانية إلى بيرغامو، حيث توجد قاعدة الناتو الجوية، وان اعتقال دبلوماسي روسي في إيطاليا حدث مزعج، لكنه لم يسبق له مثيل، ومثل ذلك، حدثت حالة مماثلة في عام 2016، عندما اشترى المواطن الروسي سيرغي بوزدنياكوف، وفقًا للتحقيق الإيطالي، مواد سرية من موظف سابق في الخدمات الخاصة البرتغالية فريدريكو كارفالهو زيلا، الذي اتهم بالتجسس والكشف عن أسرار الدولة في المنزل، وقد أطلق سراح الروسي بعد شهرين من اعتقاله.

ويجمع الكثيرون على ان ما يجري هو تطبيقا لإعلان الخدمات الأمريكية الخاصة SVR في فبراير 2020، والتي أطلقت حملة واسعة النطاق في أوروبا ضد الدبلوماسيين الروس من أجل تقويض علاقات حسن الجوار بين الاتحاد الروسي ودول أوروبا الشرقية، وأن العديد من فضائح التجسس اندلعت مؤخرًا في دول أوروبية تتمسك بموقف محايد في المواجهة الروسية الأمريكية، من بينها اليونان وسلوفاكيا والنمسا وسويسرا، ولا يعرب الروس عن استغرابهم بمثل هذه الحوادث المفبركة، وبحسب قسطنطين كوساتشوف، نائب رئيس لجنة مجلس الاتحاد (الشيوخ)، كان قد صرح إنه "في المستقبل القريب" قد تظهر فضيحة تجسس في إيطاليا أو فنلندا - وهما دولتان تتخذان موقفًا متوازنًا بشأن العلاقات مع روسيا، وهذا ما تحقق فعلا.

والسؤال الذي يطرح اليوم، يطابق القول المأثور " ان كنت تدري فتلك مصيبة، وان كنت لا تدري فالمصيبة اعظم "، فان ما يجري من اتهامات حيال الدبلوماسيين الروس في جميع دول العالم الغربي، إن كانت هذه الحوادث حقيقية، فهي مصيبة، لأنها تدل على شجاعة أجهزة الامن الروسية ومهنيتها الكبيرة في اختراق هذا الكم الكبير من الأجهزة الأمنية، والتي من المفترض ان تكون على درجة عالية من الكفاءة كما تصورها افلامهم السينمائية، ويكشف ضعف الأجهزة الغربية والأمريكية، والمصيبة اعظم، هي عجز الأجهزة الغربية من مجاراة نظيرتها الروسية، فتقوم باختلاق الاحداث للتغطية على عجزها وفشلها في الداخل.

 

بقلم الدكتور كريم المظفر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم