صحيفة المثقف

لطفي شفيق: مداخلة حول مقالة الأستاذ الدكتور قاسم حسين صالح (2)

لطفي شفيق سعيدفي البدء لا يسعني سوى أن أشكر زميلي الأستاذ قاسم لإتاحة الفرصة لي للعودة إلى الكتابة المطولة والتي توقفت عنها بسبب ما تحمله الشيخوخة من مصاعب لا تخفى على أخي العزيز ولكن للضرورة أحكام.

سأبدأ من حيث انتهيت في الجزء السابق وهو ما يتعلق بشخصية الشهيد الخالد الزعيم عبد الكريم قاسم ومدى تأثيرها على مجريات الأحداث سلبا وإيجابا وقد تكون السلبيات أكثر تأثيرا عما جرى من أحداث مأساوية في تلك الحقبة لكونها قد طغت على الإيجابيات والإنجازات المهمة والمفيدة والتي كان أهمها تحرير العراق من ربقة المستعمر ومستغلي ثرواته وربطه بأحلاف ومعاهدات جائرة وبناء عراق متطور ومزدهر وكان تأثير السلبيات كبيرا وبالغا في تدهور الأوضاع وحرف مسيرة التقدم وسيطرة عناصر الشر على المراكز المهمة في الدولة وعودة النفوذ الأجنبي واستمرار استحواذه على ثروات البلاد، ورب سائل يسئل وباعتقادي هو سؤال مشروع :لماذا احمل الزعيم جانبا من ذلك السقوط المريع؟ وللزعيم مكانة مرموقة لدى الكثير من أبناء الشعب العراقي وإن ما قام به من خدمات كبيرة شاخصة للآن ما لم يقدمه حاكم قد حكم العراق سابقا ولاحقا وقد يتصور البعض بأنني أمقته أو أحقد عليه وكيف يكون ذلك وإنني أعرف شخصيته حق المعرفة ودرستها عن كثب قبل قيام الثورة وكيف كان يعطف على الصغير والكبير من أفراد لوائه من الجنود والضباط ويمكن أن ابين حادثة قد شهدتها بأم عيني حلال وجودي في مقره فقد استدعى ضابط الاعاشة وكان برتبة رئيس أول وتبدو عليه مظاهر التعب وسأله فيما إذا هو ينوي الذهاب لعائلته خلال إجازة الخميس والجمعة وبين له الضابط المذكور بأنه سوف يبقى في المعسكر لضيق اليد وعدم امتلاكه النقود التي توفر له الذهاب لعائلته عندها استدعى الزعيم ضابط الرواتب وسأله كم من النقود في القاصة تعود اليه والتي بقيت من راتبه فرد عليه ضابط الرواتب إن لديك عشرة دنانير فقال الزعيم اعط لضابط الاعاشة خمسة وابقي لي خمسة ويبدو أن هذا الاجراء لم يقنع ضابط الاعاشة واستشعر الزعيم حالته وطلب من ضابط الرواتب إعطاء ضابط الاعاشة الخمسة الأخرى قائلا إنني سوف أبقى في المعسكر وليذهب ضابط الاعاشة لأهله لأنه صاحب عائلة، إنني حين أروي هذا الموقف ولو أنه لا يشكل حدثا كبيرا فإنه يعكس نفسية ذلك القائد قبل استلامه المهمة الكبرى ولذلك كنا نحبه ونجله ونعرف بأنه هو المنقذ والذي أنتشر صيته بين الناس قبل قيامه بالثورة وهناك تفاصيل مهمة حول هذا الموضوع سأتطرق اليها في أجزاء أخرى.

إن كل ما سأذهب اليه خلال تشخيص الأحداث وموقف الزعيم منها هو أن الزعيم لم يصغ للنصح وللتحذيرات التي كانت تصدر من أقرب الناس اليه وأكثرهم اخلاصا له وللحفاض على الجمهورية والوقوف ضد من يخطط للإطاحة بها في الوقت الذي أصبحوا فيه في الدائرة القريبة منه وحتى في وزارة الدفاع وبالقرب من مكتبه وكل ما كان يتخذه من إجراءات هي في حقيقتها خاطئة وبتصوره أنها كانت تصب في سياق استقرار البلد واحداث توازن بين القوى المتصارعة آنذاك ولكن ذلك التوازن الذي كان يتصوره قد قرب اشد الأعداء اليه وابعد أشجع المخلصين له وللجمهورية ومنهم على سبيل المثال الشهيد فاضل عباس المهداوي الذي نأى بنفسه عنه في الفترة الأخيرة ولكنه اسرع في يوم الانقلاب للالتحاق به في وزارة الدفاع ثم ليستشهد معه وكذلك الشهيد جلال الأوقاتي الذي كان يردد دائما أن الزعيم بطريقته هذه سيقتل نفسه ويقتلنا معه وبالفعل أنه قتل في ساعة الصفر في الانقلاب المشؤوم .

إن السبب المباشر الذي جعل الزعيم عبد الكريم قاسم أن يتصرف ذلك التصرف الخطأ والمدمر هو أنه اقتنع بما كان يروج له المغرضون من دعايات وأخبار ملفقة وصور مفركة على أساس أن الشيوعيين يقومون فيها وبضمنهم الضباط والجنود المقربين اليه ومن تلك الاشاعات التحضير للقيام بانقلاب واستلام السلطة من قبل تلك المجموعة من الضباط الشيوعيين ، إن ذلك الاعتقاد قد ترسخ لدا الزعيم من دون أن يقوم بالتحقيق عن مصدره والغاية من ترويجه وكل ما قام فيه وخلال تكشف خيوط انقلاب 8 شباط هو اعتقال قادة مهمين من حزب البعث وعلى رأسهم علي صالح السعدي وزمرة أخرى معه خلال عقدهم اجتماع في أحدى الدور في منطقة العطيفية الغرض منه التخطيط للانقلاب وذلك في يوم الأثنين أي قبل ثلاثة أيام من الانقلاب كما أحال قسما من الضباط البعثيين والقوميين على التقاعد في نفس ذلك اليوم ولم يعتقلهم أو يحقق معهم مع أن جميع تفاصيل الانقلاب قد سربها له أحد قادة الانقلاب من الضباط الكبار ويمكنني القول إن تلك الإجراءات الباهتة جعلت باقي المتآمرين ان يسرعوا بتنفيذ الانقلاب بعد ثلاثة أيام من اعتقال المذكورين واحالة قسم ضئيل منهم على التقاعد مما حدى بالمتقاعدين ان يرتدوا ملابسهم العسكرية وينفذوا صفحة من الانقلاب بشراسة واندفاع، أما (القشة التي قسمت ظهر البعير) فهي تتمثل بإحالة عدد مهم من قادة الجيش وضباط مخلصين بمختلف الرتب والاختصاص على التقاعد وتنسيب عددا آخر منهم كضباط تجنيد ومن ضمنهم طيارين مهمين مسئولين عن قيادة طائرا ت مقاتلة حديثة دخلوا دورات على استخدامها في الاتحاد السوفيتي ولذلك اعتبروا شيوعيين حسبما روجه المغرضون، إضافة لذلك العدد عدد آخر من مختلف الصنوف الأخرى أبعدوا خارج بغداد وإلى أماكن نائية جدا مثل حلبجة وجمجمال وقضاء الحي وقضاء سوق الشيوخ وغيرها من الأماكن البعيدة وأخطر من ذلك كله فقد جرى اعتقال ضباط مهمين بحجة التخطيط للانقلاب واستلام السلطة منه ويندرج ذلك ضمن حملة الدس والتضليل التي كان تقوم فيها العناصر المعادية للحكم واضرب مثلا على هذا الاجراء الخطر اعتقال العقيد ضابط الدروع سلمان الحصان وكذلك كل من الرئيس فاضل البياتي الذي قتل تحت التعذيب في قصر النهاية والرئيس مهدي حميد الذي ارسل الى سجن نقرة السلمان قبل الانقلاب واعدم بعده وكذلك الرئيس الأول خزعل السعدي وهو من الضباط الاحرار المهمين حيث كانت الاجتماعات تعقد في داره قبل الثورة وقد التحق خلال الانقلاب في صفوف المقاومة في الكاظمية وقاد المقاومة وحوصر في احدى الازقة والقي القبض عليه لعدم امتلاكه السلاح وهو متقاعد وارسل إلى قصر النهاية واستشهد هناك تحت التعذيب ومثله مثل الرئيس الأول جلال أحمد فهمي والرئيس عباس الدجيلي ومن الضباط الكبار الذين تم أحالتهم على التقاعد بسبب تلك الوشاية وفي الخامس من تموز عام 1959 الزعيم إبراهيم الجبوري الملقب بالخال وكان قبل الثورة يترأس تنظيم الجنود والضباط الديمقراطيين الأحرار الذي تم تشكيله عام 1953 في الفرقة الأولى في الديوانية وما حدث للزعيم إبراهيم الخال يعكس مدى الخطأ والخلل الذي ارتكبه الزعيم والذي كان له الأثر البالغ في قيام المتآمرين بالمهمة القاتلة وهو ما تحدث به الينا في أحد جلساتنا معه في القلعة الحجرية لسجن نقرة السلمان المخصصة لسجناء الاحكام الثقيلة قائلا عند استماعي لبيان الانقلابيين ارتديت ملابسي العسكرية ودخلت الى وزارة الدفاع تحت وابل القصف من أجل الالتحاق بالمدافعين وتقديم المساعدة التي يحتاجها الزعيم إلا أنه حال أن رآني صرخ بي قائلا كيف تسنى لك أن ترتدي الملابس العسكرية وأنت محال على التقاعد عليك أن تترك الدفاع وإلا سوف اعتقلك مما اضطرني للرجوع إلى بيتي وعندها اعتقلت وتم الحكم علي بالإعدام بتهمة مقاومة الانقلاب في وزارة الدفاع ثم خفض الحكم الى المؤبد لعدم ثبوت الأدلة ، ومن الإجراءات الخطيرة والتي اعتبرها خطأ قد اقدم عليه الزعيم في سياق إدارة البلد وما يشبه أدارة دفة معركة خلال الحروب هو نقل عد كبير من الضباط من وحدات مهمة داخل بغداد الى خارجها وفي تاريخ بداية النهاية الذي ذكرته سابقا وهو الخامس من تموز عام 1959 أي قبل الذكرى الأولى لقيام الثورة وممن شملهم هذا الأمر نقلي وعدد آخر معي من اللواء التاسع عشر المرابط في معسكر الرشيد الى أمرة الفرقة الأولى وقائدها الزعيم الركن حميد الحصونة والذي كان يجاهر أمام ضباطه قبل هذا التاريخ بأنه كان يجلس مع سكرتير الحزب الشيوعي العراقي فهد على نفس الرحلة في المدرسة التي كانا يدرسان فيها سوية ولكن بعد ذلك التاريخ انقلب مع المنقلبين واستقبلني بالسخرية والاستهزاء بادعائه بأنني ضابط احتياط حسبما جاء في برقية نقلي المزيفة مما جعلني أن اذكر له أنني ضابط حربي ومن ضباط لواء الزعيم قبل الثورة وبعدها وبينت له جانبا مما كلفت به خلالها وعندها نسبت إلى الناصرية وثم إلى قضاء الشطرة ومن هناك كنت انصت إلى الاحتفالات القائمة في بغداد بمناسبة الذكرى الأولى لثورة الرابع عشر من تموز الثورة التي عرفت الكثير عنها قبل ولادتها بسنوات خلال وجودي في ذلك اللواء وشهدت ساعة انبثاقها فجر يوم الإثنين المصادف 14 تموز واستمعت لبيانها الأول في ساعة اذاعته عند الساعة السادسة فجرا عندما انطلق صوته من خلال الجهاز اللاسلكي الرقم 9 المثبت في سيارتي العسكرية اللاندروفر المنطلقة ضمن جحفل اللواء المتجه الى بغداد تحت استغراب من لم لهم دراية بالمهمة الحقيقية لكون ما تلقوه من أوامر كانت عبارة عن تمرين اركاب وانزال وفي حدود معسكر المنصورية بينما ينطلق بهم اللواء أبعد من ذلك حتى وصوله إلى مشارف بغداد ، إن الفرق كبير وشاسع بين ما كنت استمع اليه في صبيحة 14 تموز الاغر وبين استماعي للاحتفال في الذكرى الأولى لقيام الثورة في منفاي في الشطرة حيث كان الفرح ولزهو يملأ نفسي في الحالة الأولى أما في الحالة الثانية فقد كان الألم يعتصر قلبي والأسف والخوف على اعز وازهى حدث جرى خلال حياتي في تلك المرحلة العصيبة من مراحل تاريخ العراق وللمداخلة صلة حيث كان لمقالة اخي الدكتور قاسم أثرا في فتح مغاليق الذاكرة التي تراكمت فوقها أحداث واحداث وإلى جزء آخر من هذه المداخلة.

 

لطفي شفيق سعيد

الأول من نيسان 2021

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم