صحيفة المثقف

مجدي ابراهيم: الإمام الجنيد.. سيد أولياء الإسلام

مجدي ابراهيمترجع علاقتي بالجنيد إلى أكثر من خمس وعشرين سنة حين كنت أكتب رسالتي للماجستير في سنة (1991م) عن "حال الفناء بين الجنيد والغزالي"، ولم يسبقني أحد إلى هذا الموضوع سوى الدكتور علي حسن عبد القادر؛ الذي حقق رسائل الجنيد، وصدرت عن طبعة برعي وجداوي؛ القاهرة سنة 1988م. وقد أشرتُ فكتبتُ إذْ ذَاَكَ على سبيل التنبيه لأقول :" وتجدر الإشارة إلى نقصان تحقيق هذه الرسائل تحقيقاً علمياً يكشف لنا عن دقتها؛ إذْ يسقط منها بعد المقارنة بينها وبين المخطوطات التي جمعناها عن الجنيد أهم رسائله المتصلة بموضوعنا؛ الأمر الذي جعلنا لا نعوِّل كثيراً على تحقيق تلك الرسائل بمقدار تعويلنا مباشرة على المخطوطات نفسها". وَنَبَّهتُ إلى ذلك في أكثر من موضع من رسالتنا التي نشرناها، بعد الضبط والتنقيح، كتاباً فيما بعد تحت عنوان :" التصوف السُّني .. حال الفناء بين الجنيد والغزالي" والذي صدر في طبعته الأولى عن مكتبة الثقافة الدينية بالقاهرة سنة 2000م. أما الأعمال التي كُتبت بعد ذلك، فكلها لاحقة على كتابنا التصوف السُّني، حال الفناء بين الجنيد والغزالي.

ولقد كان كتاب " السّر في أنفاس الصوفية " لمؤلفه الإمام الجنيد، ضمن المخطوطات التي تمَّ الاعتماد عليها من جانبنا في كشف حال الفناء لدىَ الجنيد لقرابته مباشرة من تصوفه، وتصوف أقرانه من البغداديين. ولسْتُ أخفي مكانة هذا المخطوط التي كانت ومازالت مُحَبّبة في قلبي، وقد كنت كلما بحثت شيئاً في تصوف سيد الطائفة البغدادية أشرتُ في هوامش كتبي حين أتعرض لكتاباته بالشرح أو بالتعليق، إلى نقصان التحقيق الذي قامَ به على حسن عبد القادر وفقدان كتاب السر منها. ثم أحيل القارئ إلى الدراسة الأساسية التي قمتُ إذْ ذاك بها وهي "حال الفناء"، فمثلاً تقرأ في إحدى دراساتي السابقة :" وهذه الرسائل ناقصة فهناك مخطوطات للجنيد " كالسّر في أنفاس الصوفية "، لا توجد بهذه الرسائل" (راجع : مشكلة الموت عند صوفية الإسلام، تصدير د. عاطف العراقي؛ طبعة مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة سنة 2004م؛ ص 358).

ذكرتُ ذلك في أكثر من موضع، وفي أكثر من دراسة. ولم أكن يومها متحاملاً على الرجل ولا على تحقيقه للرسائل؛ بل كانت غايتي هى التعرف على شخصية الجنيد ومكانته العلمية ودوره في التصوف فلم أجد من ذلك كله إلا قشوراً سطحية لا تشفي غلة باحث يريد أن يعرف عن موضوعه - الجنيد ورسائله وتصوفه - شيئاً دقيقاً وعميقاً في آن، هذا فضلاً عما يعتري ذلك التحقيق، والتحقيقات التي توالت عنه فيما بعد، من فقر غالب للشرح والتخريج والتعليق والتفسير، بمقدار فقرها المُدقع في الهوامش التي يَلزم للمحقق الجاد أن يعتني بها لزومه لضبط النص وقراءته خالياً من عوامل التحريف والتصحيف. كل ما هنالك هو أن تحوَّلت بعض هذه الرسائل من كتابة خطية بقلم الناسخ إلى نسخة مطبوعة وكفى، وَبَقَتْ الوثائق على ما هى عليه من اضطراب وفوضى لا تشفي غُلَّة الباحث المدقق لمعرفة فهم مقاصد الجنيد الصوفية والمعرفية على وجهها الصحيح.

لا جَرَمَ كانت شخصية الجنيد من الشخصيات النادرة في تاريخ التصوف الإسلامي، كانت شخصية محورية في القرن الثالث الهجري ومؤثرة شديدة التأثير فيمن جاء بعده من الأولياء والعارفين وأقطاب التصوف على وجه العموم من قرون متتالية؛ فلنتناول لأجل هذا في ترجمته طَرَفَاً عن حياته، ومكانته العلمية، ثم نشير في عجالة إلى أساتذته الذين تَلَقَّى عنهم، وبعض مواقفه مع نظرائه في الطريق، ومنهجه في التصحيح والترقية، ومصادره التأسيسية، ومذهبه في التصوف والتوحيد من واقع شذراته وإشاراته كما نقلها عنه كُتَّاب التصوف الأوُّل، ونختم بطريقته الصوفية، وأثره في التصوف من بعده؛ ذلك الأثر البالغ الذي لا ينكره قارئ يقرأ من كتب التصوف كتابٌ واحد.

(1)

هو أبو القاسم الجنيد بن محمد الجنيد الخراز البغدادي، وقد سُمى بالخراز؛ لأنه كان يعمل الخز. شخصية صوفية مرموقة - كما قلنا فيما تقدَّم - هى من الشخصيات المركزية المؤثرة في التصوف الإسلامي على الإطلاق. كان من العلماء العاملين رواية ودراية، وكان من الأساتذة الكبار الذين اختصوا بالتربية والترقية في آن واحد، ولم يكن نشاطه مقصوراً على جانب التربية وكفى، ولكنه كان بالفكرة والمثل الصالح واعتدال المنهج إمامَ ترقية كذلك.

جمعت كتب الطبقات ألقاباً للجنيد تتفاوت فيما بينها لتدل من أول وهلة على شخصيته ومكانتها في التصوف السُّني المعتدل، كان منها "سيد الطائفة"، "وطاووس الفقراء"،" وطاووس العلماء"، "وتاج العارفين" "ومُقدّم الجماعة"، "وشيخ طريقة التصوف"، ولم تكن هذه الألقاب تطلق كما تطلق سائر الألقاب التراثية على شخصيات مؤثرة وفاعلة وكفى، ولكنها كانت حقائق تصور حياة عَلَمٍ من أعلام الحياة الروحية في الإسلام، يحلو لي أنا أن أطلق عليه لقب "سيد أولياء الإسلام".

إمامٌ التصوف في الإسلام حقيقةً، وسيد أولياء الإسلام حقيقةً، مضبوطٌ مذهبه بأسس الكتاب والسنة ضبطاً محكماً سواء على مستوى النظر أو على مستوى التطبيق. على المستويين كان ممدوحاً بين الناس حتى وصفه صاحب "حلية الأولياء" في مطلع الترجمة التي خصصها له بقوله: "المربي بفنون العلم، المؤيد بعيون الحلم، المنور بخالص الإيمان والإيقان، العالم بمودع الكتاب، العامل بحلم الخطاب، الموفق فيه للبيان والصواب".

هذا الوصف وحده ينجم عن جوانب من شخصية عَارفة، مُبرَّزة في ديوان الولاية، عميقة الأثر في ذاتها وفي غيرها. فمن حيث كون عمقها في ذاتها؛ فتميزُّه فيما أثر عنه من أقوال وإشارات ومعارف بمقدار تميزه بمذهب في التصوف غير مسبوق حقيقةً.

مذهب ليس فيه خروج عن الشرع لا في كلمة ولا في لفظة ولا في عبارة ولا في معنى قريب أو بعيد. مذهبٌ يظهر للقارئ من أول وهلة بامتيازه بالاعتدال المضبوط على الأصول الشرعية، يأخذ هذه الأصول مأخذ الجد الذي لا هزل فيه، فيعمِّقُها في ذاته تطبيقاً ومعايشة وتجربة على محل الاختبار ثم يروح فيستخرجها من أنفاسه خَاصَّة على فطرة ما أخذ وطبَّق وعايش حياة ملآنة بآثار الروح، ظافرة بالتوفيق الإلهي المخصوص بالحفظ، والمحفوظ في ذات الوقت بالكلاءة والرعاية في كل حال.

أما من حيث كون عُمْق هذه الشخصية في غيرها، فيُنظر إليه من هذا الأثر الطيب الذي تركه على الحياة الروحية في الإسلام، فما من متصوف جاء بعده إلا وذكره بكل خير، وتأثر به، وأخذ بطريقته في التصوف، وأشاد بأفضاله في الطريق وبمناقبه الروحية والمعرفية على أكثر رجاله اعتدلاً وقصداً، واتصافاً بالتصوف السُّنيّ المعتدل :

وليُّ من أهل العرفان، متمكن راسخ في ديوان الولاية كالطود الشامخ، يتملك حاله فلا تلونه الحال بل هو الذي يلونها، فيوجهها إلى حيث استقرت به ركائبها، فيؤثر أن تستقيم معه على طريق الشرع بمنهج راسخ متمكن فيه.

وليٌّ هذا حاله فلا بد أن يكون من المتقدِّمين في ديوان الولاية، وأن يجيء ذا قدم راسخ في عالم الشواهد الروحية، يؤثر البقاء على الفناء، وصحوة العقل على فقدان التمييز، والحضور على الغيبة، والصحو واليقظة على السكر والمحو؛ لأنه كان من أهل الرسوخ والتمكين لا من أرباب الأحوال والشطح.

توفى الجنيد في آخر ساعة من يوم الجمعة، ودفن يوم السبت سنة (297 هــ  الموافق سنة 910 م). وفي الليلة التي مات فيه رآه أحد زوَّاره يختم القرآن، ثم يبتدئ من البقرة ويقرأ سبعين آية ثم يلاقي ربه رحمه الله. وكان أبوه يبيع الزجاج ولذلك كان يُقال له القواريري. أصله من "نَهَاوَنْد"، ومولده ومنشأه بالعراق. وقد غلبت عليه جوانب الشريعة، وإنْ كانت الحقيقة أقرب لديه مما سواها، ومع ذلك وازن بينهما في حماسة الاعتدال والحكمة؛ فكان فقيهاً على مذهب أبي ثور، وكان متمكناً من الفقه على هذا المذهب حتى قيل في شأنه أنه كان يُفتي في حلقته وهو ابن عشرين سنة، وحين يتعرض فتى في سن العشرين للفتوى ويتصدَّر على صغره مقامات العلماء والفقهاء، لا يُقال في حقه أنه متمكن في الفقه وكفى بمقدار ما ينبئ تمكنه عن حماسة روحية عالية قلَّ أن يدانيه فيها على زمنه أحد من أقرانه أو أنداده، يدل على لك مناجاته :" يا ذاكر الذاكرين بما به ذكروه، ويا بادئ العارفين بما به عرفوه، و يا موفّق العابدين لصالح ما عملوه، من ذا الذي يشفع عندك إلا بإذنك؟ ومن ذا الذي يذكرك إلا بفضلك؟!

طلب الجنيد العلم بشغف وبحب وبجهد وبصبر على بذل المجهود فيه؛ فكانت أقواله في ذلك دالة على حياته، وحياته متسقة مع أقواله فهو إذْ يقول :" فَتْح باب كل علم نفيس بذل المجهود"؛ تجد هذا القول تعبيراً عن حياة الجنيد وعن شخصيته العلمية واهتماماته الروحية والفكرية؛ فبذلُ المجهود من المؤكد قيمة في ذاتها يحصل بها العلوم الشريفة. ولقد كان كثيراً ما يوجه نصائحه لتلاميذه ومريديه بالحرص على لزوم العلم ومفارقة الوقوف مع مطالعة الأحوال؛ فقال وهو يعظ عبد الواحد بن علوان:" يا فتي! ألزم العلم ولو وَرَدَ عليك من الأحوال ما ورد، ويكون العلم مصحوبك؛ فالأحوال تندرج فيك وتنفذ؛ لأن الله يقول:" وَالرَّاسِخُوُنَ في العِلْمِ يَقُوُلُوُنَ آمَنَّا بِهِ كُلٌ مِنْ عِنْدِ رَبِنَا" (سورة أل عمران : آية 7).

كان أوفى تحليل وأدَقّه لمثل هذه الشخصيات الكبيرة والمؤثِّرة في الحياة عموماً؛ مطلق الحياة، هو التحليل الذي قدَّمه عالم الاجتماع الألماني "ماكس فيبر" ((Max Weber المتوفى سنة1920م، والذي كان يصف مثل هذه الشخصيات العبقرية الكبيرة بالكاريزما (charisma)؛ وكلمة الكاريزما تعنى الموهبة الإلهيّة، وهى كلمة يونانية معناها "النعمة"، ويقصد بها " فيبر" ذلك السّحر الخاص من السّمو الفردي الذي يمكن أن يَتَحَصَّل عليه الفرد في مجتمع بعينه من فعل الجاذبية الشخصية والتأثير المغناطيسي.

وقياساً على تحليل "فيبر" يمكن القول بأن الإمام الجنيد كان يتمتع بشخصية "كاريزمية" ساحرة على الصعيدين : صعيد المكانة الاجتماعية والعلمية، وصعيد المكانة الروحية والفكرية والثقافية. ولو أننا تأملنا فيما قيل عنه من بعض معاصريه؛ لتأكد لدينا هذا الزعم ولثبٌتت أمامنا جاذبيته الشخصية ومؤثراته الفردية على المستوى الاجتماعي والعلمي، ثم ثبٌتت لدينا كذلك إشعاعاته الروحية والفكرية المُفَاضة وهباً من عند الله. ولقد قيل عنه لجماله وشدة تأثيره في القلوب وجاذبيته المغناطيسية إنه كان يُلقب بــ "طاووس العلماء"؛ ولم يكن غريباً أن يصفه أحد معاصريه بقوله :"ما رأت عيناي مثله"؛ وبأنه كان :" إمام الدنيا في زمانه ". وَعَدَّهُ العلماء شيخ مذهب التصوف لضبط مذهبه بقواعد الكتاب والسنة، ولكونه مصوناً من العقائد الذميمة، محمي الأساس من شُبَه الغلاة، سالماً من كل ما يوجب اعتراض الشرع. تأمل فيما يقول :" الطرقُ كلها مسدودة على الخلق إلا طريق واحد هو طريق من أقتفى أثر الرسول عليه الصلاة والسلام، وأتبع سنته، ولزم طريقته؛ فإنّ طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه "؛ أو يقول :" مَنْ لم يسمع الحديث، ويجالس الفقهاء، ويأخذ أدبه من المتأدبين أفْسَدَ من أتَّبعه "؛ ومن شدة توكيده على العلم النظري قال:" من عمل بعلم الرواية، ورَّثه الله علم الدراية ". لكنه يركز على العلم النافع، والعلم النافع يتحدَّد في قوله:" إنّ الله أراد من العباد علمين : معرفة علم العبودية ومعرفة علم الربوبية وما سواهما هو من حظ أنفسهم "؛ لأن هذا العلم النافع نفسه هو الذي يعرفك قدرك لا من حظ نفسك ولكن بالله ومن الله؛ كما قال في سر العلم:" العلم أن تُدْركَ قَدْرَك بذاته"؛ أي بذات الله؛

وإنها ولا شك لأقوال تجربة لا أقوال ألسنة، أقوال قلوب لا أقوال حناجر!

وهو أول من تكلم في علم التوحيد ببغداد. وقال عنه ابن عربي في الفتوحات :     "كان الكتبة يحضرون مجلسه لألفاظه، والشعراء لفصاحته، والفقهاء لتقريره، والفلاسفة لدقة نظره ومعانيه، والمتكلمون لتحقيقه، والصوفية لإشاراته وحقائقه". وفي قول ابن عربي هذا ما يثبِّت شدة تأثيره في القلوب، وجاذبيته للعلماء في عصره بمقدار ما يثبِّت مكانته الاجتماعية يتحصل عليها من طريق العلم والمعرفة.

على أن أحدهم ينسب هذه العبارة لا إلى ابن عربي بل إلى أبي القاسم البلخي أحد كبار المعتزلة في القرنين الثالث والرابع الهجريين (راجع د. كامل مصطفي الشيبي: صفحات مكثفة من تاريخ التصوف الإسلامي؛ دار المناهل؛ الطبعة الأولى؛ بيروت لبنان؛ سنة 1418هـ - 1997م؛ ص 120 وما بعدها) ولعل نسبة المؤلف هذه العبارة إلى أحد رجال المعتزلة ترجع إلى نزوعه الغارق في أن يجعل من الجنيد شخصية أقامت التصوف على أساس عقلي أو فلسفي؛ وهو رأي من أوهن الآراء وأضعفها عندي إنْ لم يكن أقدمها كذلك : تلمس الأفكار الفلسفية في تصوف الجنيد؛ بل وفي تصوف غيره من الأقطاب السُّنية، على ما يحكم به منهج الأشباه والنظائر، كما ناقشناه في كتاباتنا. إنّ تجاهل التجربة الصوفية يَقْدَح في الإخلاص العلمي للتصوف من أول وَهلة.

فلئن كان أحدهم قد فهم من تلك العبارة السابقة، والتي قد تنسب إلى أبي القاسم البلخي وهو أحد كبار المعتزلة في القرنين الثالث والرابع الهجريين، لا إلى ابن عربي، في وصف مجلس الجنيد؛ فلا ينبغي أن يوصف مذهب الجنيد بإقامة التصوف على أساس عقلي بغير تحديد لكلمة عقل .. ماذا تعني هنا؟ فليس يُخفى أن العقل مطلق العقل قد يختلط بعقل الفلاسفة أو عقل المتكلمين وهو كما هو معروف خارج دائرة اهتمام الصوفية؛ والجنيد منهم بصفة خاصة، ومن ثم يجئ هذا الوصف لا يقوم على أساس صحيح اللهم إذا كنا نريد عَسَفَاً أن نجعل من هذه الشخصية الصوفية شخصية فلسفية وأن تصوفها تصوفاً فلسفياً وهو رأي إلى الوهن أقرب منه إلى قوة العلم والتحقيق. بيد أننا إذا نحن قلنا إن الجنيد أقام التصوف على أساس علمي لكنا أقرب إلى الحقيقة وأصوب في وصف مذهبه؛ لأن اهتمام الجنيد بمسائل الكلام والفلسفة والفقه واللغة والأدب كما ورد في عبارة أحدهم واصفاً إيّاه في مجلسه، إنما يرتد إلى ولعه بالعلم بصفة عامة لا بالعقل المنهجي الفلسفي؛ ناهيك عن أن منهجية التصوف هى في الأساس منهجية ذوقية وجدانية لا عمل للعقل الفلسفي فيها غير عمل التنظيم؛ فإذا كانت ثقافة الجنيد واسعة شملت إحاطته بعلوم الكلام والفلسفة والنحو واللغة؛ فمن المؤكد لدينا أن هذا التوسع نفسه لهو من باب العلم لا من باب العقل.

ولكن نسبة الجنيد إلى المصادر اليونانية وتأثره بالتصوف عند أفلوطين هى نسبة خاطئة تماماً كما سنبينها فيما بعد.

لم يفارق نبوغه العلمي مطلقاً شدة تعبُّده، وتأسيس علومه على الإخلاص، ولنذكر من حكمه : الإخلاص سرٌ بين العبد وربه لا يعلمه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده ولا هوى فيهلكه. وقال بُنيَ الطريق على أربع : لا تتكلم إلا عن وجود، ولا تأكل إلا عن فاقة، ولا تنم إلا عن غلبة، ولا تسكت إلا عن خشية ".

ومع شدة نبوغه العلمي إلا أنه لزم التعبد، ومن لزومه التعبد فتح الله عليه بكثير من العلوم، وكان إذا تكلم فيها لم تكن له وقفة ولا كبوة. وكان ورده في كل يوم على ما أجمعت عليه مصادر التصوف ثلاثمائة ألف تسبيحة، ومكث أربعين سنة لا يأوي إلى فراش ففتح الله عليه من العلوم النافعة والأعمال الصالحة بأمور لم تحصل لغيره في زمانه، وكان يدخل كل يوم حانوته، ويُسْبل الستر، ويصلى أربعمائة ركعة ثم يعود إلى بيته. وكان يعرف بالإضافة إلى علوم الصوفية إشاراتها وحقائقها، سائر علوم اللسان العربي، وسائر العلوم الدينية على التخصيص حتى قيل إنه كان يقول في المسألة الواحدة وجوهاً كثيرة لم تخطر قط على بال العلماء. وقد قيل لعبد الله بن سعيد بن كلاب : أنت تتكلم على كلام كل أحد، وههنا رجلٌ يُقال له "الجنيد" فانظر هل تعترض عليه أم لا؟ فحضر حلقته؛ فسأل الجنيد عن التوحيد فأجابه فتحير عبد الله، وقال : أعد علىَّ ما قلت، فأعاد بعبارة أخرى. فقال: هذا شيء آخر لم أحفظه، تعيده علىَّ مرة أخرى؛ فأعاده بعبارة أخرى. فقال : لا يمكنني حفظ ما تقول أمْلِهِ علينا، فقال الجنيد : إنْ كنت أجريه فأنا أمليه فقام عبد الله وقال بفضله واعترف بعلو شأنه، يعني أن الله هو الذي أجراه على قلبي فلا أمليه، فليست هى بعلوم كسب ولا حلية دليل، ولكنها علوم وهب وتوفيق، تُعطى فضلاً من الله ولا تكتسب.

كان الجنيد سيد الطائفة البغدادية، بل سيد أولياء الإسلام غير منازع، من أئمة القوم وساداتهم مقبول على جميع الألسنة. ولم يخلو كتاب ولا مصدر من مصادر التصوف الأساسية وعيونه الأولى إلا وكانت أكثر إشاراته في العديد من المواضع الصوفية العليا أكثرها عن الجنيد؛ لعلو حاله، ولسيادة شأنه في علوم القوم ومباحث المعرفة الإلهية.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم