صحيفة المثقف

يسري عبد الغني: أعيدوا أكتشاف هذا الرجل!

يسري عبد الغنيوكان دور قاسم أمين مختلفًا، والمشهور عنه هو أنه: نادى بتحرير المرأة المصرية، ويبدو أننا قد نسينا عامدين أو متعمدين دور جدنا العظيم / رفاعه رافع الطهطاوي، والذي من مؤلفاته المهمة (المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين)، الذي يهمنا أن الناس قد اختلفوا في قاسم أمين، فمنهم من مجده ورفعه إلى عنان السماء،  ومنهم من لعنه وخسف به أسفل سافلين .

بعض الدارسين قالوا: إن محمد عبده هو صاحب الفكرة التي أوحى لصديقه المستشار / قاسم أمين، بكتابتها ونشرها في كتابيه: (تحرير المرأة) و(المرأة الجديدة)، فكان لهما دوي هائل في المجتمع المصري والعربي والإسلامي .

عندما أذهب إلى مقابر أسرتي في حي الإمام / الشافعي جنوب القاهرة، أمر على مدفن المستشار / قاسم أمين، والذي يبعد عن مقابرنا بأقل من خمسين مترًا، أسأل نفسي: لماذا لا يتذكر الناس حقيقة مهمة في حياة قاسم أمين الفكرية ، قبل موضوع الدعوة لتحرير المرأة، وأعني بذلك مهاجمته الشديدة للاحتلال البريطاني، ودفاعه المجيد عن مبادئ الثورة العرابية المحبطة، ودفاعه الرائع عن مصر والمصريين ضد من أراد الإساءة إليها ؟ !!.

هذه الأفكار بلا شك كانت من نتائج المناقشات الدائمة والواسعة مع محمد عبده وسعد زغلول، فقد أصدر قاسم أمين المستشار بمحكمة استئناف القاهرة، كتابًا قيمًا باللغة الفرنسية عنوانه (المصريون )، هذا الكتاب كان ردًا على (دوق هاركور)، القاضي بالمحكمة المختلطة بالقاهرة، وقد زعم هذا القاضي المتعصب أن الاحتلال الإنجليزي يعمل على تقدم المصريين وترقيتهم، فتصدى له قاسم أمين وفند آراءه كلها تفنيدًا علميًا متميزًا، وأوضح أن مصر قبل الاحتلال البريطاني كانت أحسن وأفضل حالاً، رغم كل ما حدث في أواخر عهد الخديوي إسماعيل من كوارث ونكبات وديون .

وقد بين قاسم أمين في تحليل علمي مدعم بالبيانات والأرقام والإحصائيات كل ما حدث في مصر بسبب الاحتلال الإنجليزي الغاشم من تخلف وفقر وجهل ومرض، ودلت الأرقام على أن التعليم كان يتراجع كل يوم إلى الوراء من ناحية عدد المدارس، وعدد التلاميذ والتلميذات، وأصبحت الشهادة الابتدائية كافية للتعيين في الوظائف الحكومية، وبذلك تحول التعليم على يد الاحتلال إلى إعداد طبقة من الموظفين أنصاف المتعلمين أو أقل من ذلك بكثير .

إن كتاب (المصريون) لقاسم أمين من الكتب المهمة التي ظهرت في مصر خلال العصر الحديث، رغم أنه لم يترجم من الفرنسية إلى العربية حتى يومنا هذا بكل أسف، ولو تمت ترجمته عندما صدر في سنة 1894، لأحدث ضجة أخطر من كتاب (المرأة الجديدة) وكتاب (تحرير المرأة)، لأن القضية التي أثارها (المصريون) ليست مفردة أو من جانب واحد، إنها مجموعة من القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المكتوبة بشكل علمي حديث، كان لزامًا أن نننشره للناس جميعًا ليعرفوا ماضيهم وحاضرهم وواقعهم ومستقبلهم، وهنا أناشد وزارة الثقافة المصرية (أدام الله فضلها) أن تعيد إصدار هذا الكتاب المترجم  إلى اللغة العربية مرات ومرات مرفقًا به دراسة تضيء جوانبه المهمة، ونقدمه إلى شبابنا الباحث عن المعرفة لعله يعرف تاريخه، وبذلك نعمق فيه معنى الولاء والانتماء والمواطنة .

ولكن الناس انشغلت برأي قاسم أمين في تحرير المرأة، وأقاموا القيامة قبل موعدها، وهاجوا وماجوا واشتعلوا ولم يهدأوا حتى الآن، مع أن المسألة التي أثارها المستشار في كتابه (المصريون) كانت مسألة سياسية عامة، مسألة مصيرية مهمة، أما كلامه عن المرأة فكان مسألة اجتماعية، وها هي المرأة قد أخذت جميع حقوقها غير منقوصة نتيجة التعليم والوعي، وعليه فمن الضروري أن ننتبه إلى أن قاسم أمين كان يتحدى سلطات الاحتلال البريطاني صاحبة الأمر والنهي، كان يناضل بقلمه ويكافح من أجل شعبه وأمته بالفكر الجاد والكلمة الشجاعة، وكان من الممكن جدًا أن يسجن أو يعتقل أو يفقد وظيفته، ولكن المناضل الشريف الذي لا يعرف العمالة والخيانة والتآمر على بلاده لا يهمه أي شيء من أجل وطنه وأمته، أبعد ذلك يأتي بعض السفهاء فيقولون: إن قاسم أمين كان عميلاً إنجليزيًا؟!! .

نعم، كان التاريخ المصري في حاجة ماسة إلى حركة الرومانسية الوطنية التي قادها الزعيم الشاب / مصطفى كامل بين ثورتي: ثورة الفلاحين التي قادها زعيم الفلاحين (على حد عنوان مسرحية أستاذنا / عبد الرحمن الشرقاوي، عرابي زعيم الفلاحين) سنة 1881، وثورة الشعب سنة 1919، التي قادها سعد زغلول، وقد أطلق بعض المؤرخين الإنجليز على حركة / مصطفى كامل الرومانسية، ثورة الأفنديات أو ثورة أبناء الذوات .

ولكن أبناء الثورة العرابية كانوا يعيشون في أتون الواقع وعذاباته، يعيشون وسط تفاعلات وتطلعات الشعب المصري، وكان على قمة هؤلاء الأبناء العظماء: محمد عبده وسعد زغلول وقاسم أمين، وكان محمد عبده الأستاذ الإمام هو الأب الروحي لحركة النهضة الجديدة التي تمثلت في تحرير المرأة والدعوة إلى تعليم كافة فئات الشعب، وكان لمحمد عبده المفكر المصلح المجدد، دورًا بارزًا في الحركتين .

 

بقلم/د. يسري عبد الغني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم