صحيفة المثقف

حيدر عبد الرضا: دراسة في تراث أقاصيص إدغار ألن بو

حيدر عبدالرضاوقفات مبحثية مع قصة (البئر والرقاص) نموذجا

هموم المكانية بين معادلة القص واللاتحديد الموقعي


توطئة:

قد يعني تلاحم مجسات أداة الحلم في دائرة الوظيفة السردية القصصية، بمثابة ذلك النزوع الحاسم والمباشر بين وصلات وطباع الأنا الكاتبة ومشروع أحلامها وكوابيسها المنضدة داخل هواجس من العلاقة الكتابية الخاصة، بل أنها قد تتعاطى من جهة هامة مع هويتها الشخصانية عبر وسائل حلمها الخاص بطريقة تكسبها أبعادا فنية وجمالية نادرة، وهناك من الكتاب من غدا يتعامل مع مؤثرات التقانة الحلمية والإيهامية والغرائبية والسوداوية ضمن وظيفة مركزة داخل حيثيات النص الأبداعي، تعضيدا لها وحدود رؤيا حالات الذات عبر مركبات خاصة من اللاشعورية أو اللايقينية، أو هي لربما مسلمات خيالية مرمزة في قوقعة حدود المكانية الضيقة وعلاماتها الألهامية الغارقة في قعر محمولات المعنى المنعكس على قابلية وهيئة المؤول الذاتي الشخوصي لها في بنيات القص.

ـ صياغة الترسيمة الذاتية وأسرار المكانية النصية:

تتكاثر في أبدالات وإحالات فضاء قصة (البئر والرقاص) جملة خاصة من الفواصل والتداخلات الإيهامية المؤسسة في ذاتها ما بين (تمفصلات مجاهيل المكان) ومجال استشعارات وتصورات الذات المحشورة في زوايا إشكالية (اللاتحديد الموقعي) ولهذه الأسباب وجدنا الشخصية العاملية في مذخرات الفعل الاستهلالي، تعتمد في ذاتها على محددات أبعادية ـ استعادية، من نسيج عوامل وعناصر الصوغ المتعدد في رؤية المحصول الذاكراتي حسب . وعلى هذا المستوى من النموذج الأفعالي في تشعبات النص، تستعرض لنا مشخصات السارد المشارك، من جهة ما كيفية  علاقة الشخصية النواتية إزاء موضعها داخل طيات من الظلمات المكانية وحالات من التساؤلات حول مسببات ودوافع زجه داخل هذه الزنزانة المعتمة: (كنت محطما، محطما حتى الموت من ذلك النزع الطويل، وحين أفلتوني أخيرا وسمح لي بالجلوس، شعرت أن حواسي جميعها تخذلني . كان حكم الموت ـ الحكم الرهيب بالموت ـ هو العبارة الأخيرة الواضحة التي ضربت أذني .. خيل ألي بعد ذلك، أن أصوات قضاة التفتيش تغرق في طنين حلم غير محدد . / ص18 النص).

1ـ مستوى الوظيفة الاستعادية وشيفرة بلاغة العلاقة الموضوعية:

لقد لاحظنا في جملة مقتطفات عتبتة الوحدة الاستهلالية في النص، بأن هناك مجموعة شواهد ملحة في الأثر المقابل من مستوى دلالة (الزنزانة ـ الرقيب ـ الاستجواب ـ الصراع مع المكان) وصولا منها إلى حقيقة التنبه إلى معنى ذلك الدليل في مسمى السجين المحكوم بطريقة تتخلى عنها مصادر وموارد الأسباب والمسببات، ودون حتى أدنى معرفة ما بحالات وقوع ظرفية جنح الاعتقال وهويته النوعية في الجرم المشهود من قبل الشخصية الجانحة، لذا وجدناها ـ إي الشخصية ـ عبارة عن حركية سريالية داخل لوحة الظلام والعتمة وحواجز من الحجر المتآكل مع غياهب ملامس منعطفات الجدران وفواصل أرضية المكان، وقد أتضحت لنا معالم الخارج النصي أكثر إيهاما أو أنها مجسات من بقايا ذكرى ممارسة حلمية من قبل الشخصية ذاتها، كان قد سلخها الشخصية عبر مكانية منامية ما أقرب إلى الغيبوبة، فيما تنبني ظاهرية علاقة المكان بالشخصية ودوافعها، اقترانا بذلك السلوك المحكوم بها بموجب ثنائية (المنظور ـ التلمس ـ إعادة الدوران) وهذه الوسائل الثلاثة هي ما تتأسس عليه بنية أفعال حبكة النص . أما حقيقة المكان فتبقى وتتبدى كرؤية غرائبية ـ موحشة، خصوصا وأنها تتعلق بدقة هندسية مرعبة من قبل محاولات الشخصية في عملية إحصاء خطواتها داخل ظلمات المكان، طلبا منها لمعرفة هوية الأشياء وجغرافيا ملامح هذا المكان: (فيبعث هذا الطنين في أعماقي فكرة الدوران ـ لعل ذلك يرجع إلى أنني كنت أقرنه في خيالي بدولاب الطاحون . لكن هذا لم يدم أكثر من فترة وجيزة، إذ سرعان ما توقف الدوي ولم أعد أسمع أي شيء . إنما كنت ما أزال أرى، لكن بأية مبالغة مريعة ! كنت ما أزال أرى شفاه القضاة في ردائهم الأسود، كانت تبدو لي بيضاء ـ أكثر بياضا من الورقة التي أخط عليها هذه الكلمات . / ص18: النص) .

2ـ الموقع الضمني للمؤلف وخطاطة السارد المشارك:

ربما أن حدود المواقع في نسق وفضاء زمن النص، تبدو كتوجهات مسافة متكونة من (موقع ظاهر ـ موقع ضمني) إذ أن حالات تسجيل السارد المشارك فوق قصاصة الورقة، أنما هي موقعية خارج أفق النص الحكائي، أي أنها تمفصلات خارج زمن النص قريبا من محكيات (الراوي ـ الشاهد) أما فيما يتعلق في هوية الموقع الشخوصي الموظف في دلالات الشخصية العاملة، فهي موقعية عرضية مسرودة كاسحة لحدود المسافة الواقعة ما بين تداخل المسرود وسارده . وتبعا لهذا نعاين بأن حكي السارد على لسان حال الشخصية، يأتنا ضمن موقع أكثر ضمنية ومستوى منطوق الدال الشخوصي . لنعود الآن إلى مجرى الحديث عن ذلك الأثر المترسب في ذهن وطابع حكاية الشخصية في النص فهذه الشخصية بدورها، قد نفترض لها أنها تعرضت لحوادث تحقيقية وخروقات اعتقالية خارج زمن النص المعلوم، فربما إنها على أقل تقدير قد تعرضت إلى أزمة نفسية أيضا من شأنها التوهم بأن غرفة المشفى، ما هي إلا معتقلا سياسيا أو حفرة في أخاديد كابوسية تابعة لإحدى إيهاماتها الحلمية مثلا . في الواقع أن مصادر وأوليات موضوعة النص، قد لا تحيلنا في الواقع النصي إلى إي جهة إجرائية نفسانية ما، من شأنها إخبارنا بأن الشخصية مصابة بنكسة توهمية أو عصابية ما، ولكننا أيضا لم نعثر في مجال النص على أية شواهد ما تخبرنا بأن الشخصية هي من أحدى العناصر المنصوص عليها بالجرم السابق تحديدا، سوى أنها تلازمها جملة أصوات قضاة التحقيق مع وصف أشكال ثيابهم وألوانها السوداء، وهذا الأمر ليس بالدليل القاطع بأنه معتقلا سياسيا أو لأي حالة من حالات الجرائم الجنائية الأخرى . بهذا الأمر فإن القارىء أمام واقعة مفصولة عن أسبابها التحفيزية نوعا ما، ولكننا عندما نعاين أيضا جهة دليل الموضوعة، نجدها تسعى إلى تشخيص العلاقة الفارقة ما بين زمن الموت وتحديات الشخصية له عبر ذلك الجهاز للمراقب المعلق على سقف الزنزانة، بالإضافة إلى وجود علامة حادة تهدد الشخصية بالموت بين لحظة وأخرى، ما يدلل بأن الشخصية محكومة بجزاء عقوبة الموت المعنوي والمادي: (كنت أرى أن القرارات التي ترسم مصيري ما تزال تطلع من هذه الشفاه .. رأيتها تتلوى في عبارة موت .. رأيتها تصور مقاطع أسمي، وارتعدت لأن الصوت لم يكن يتبع حركة رأيت أيضا خلال لحظات من الرعب الجنوني التموجات اللينة للستائر التي تكسو جدران القاعة .. إذاك وقع نظري على المصابيح السبعة الكبيرة التي كانت موضوعة على الطاولة . اكتست في البداية مظهر المحبة، وبدت لي كملائكة بيض يريدون إنقاذي / لكن سرعان ما داهم نفسي غثيان مميت، وشعرت أن كل عرق في كياني يختلج كما لو لمست شريطا كهربائيا، بينما كان الإشكال الملائكية تتحول إلى أشباح لا معنى لها . / ص18: النص القصصي) هكذا تتبدى أمامنا كما أشرنا سابقا، موقعية السارد الضمنية، كدلالة إيحائية مبطنة من جهات مدلولية تضمر المعنى لذاتها ـ قصدا متحولا ـ غير أنها في الآن نفسه تشيع موقعه دليلا تدبيريا ذا قسمات مرمزة بملامح الطابع النفسي للشخصية وللمكان ذاته، ربما أن الشخصية تحيا بين عالمين أو دارين أو حلمين، أو أنها ربما واجهة فعل الموت في دلالات زمن خارج القص والحكاية، فيما تمضي الآن أسوء حالاتها البرزخية المتصورة في ظلمات (الزنزانة = القبر) أو أنها محض محالمة مفجعة ما بين الذات وذاكرتها وهموم مكانية مظلمة من قرار مملكة الجدران الرطبة المكللة بهمس عشرات أرجل دبيب الفئران المتلمسة لطريقها بيسر إلى قعر إناء الطعام للشخصية السجينة .

ـ التأويل المعادل ومشاغل التأويل الدلالي

يبدو أن عملية التقويم إلى مستوى دلالات قصة (البئر والرقاص) تتطلب من دارسها، الخوض في مغامرة تأويلية إزاء مدى تواصلية المعنى الموزع عبر فواصل وواصلات فقراتها، خصوصا وأن حبكة القص تتضح فيها ضمن مخصوصيات خطية متغايرة في رسم دينامية الذروة القصصية الكاشفة، وعلى هذا فأننا بدءا من حالات غيبوبة الشخصية في الحكي، أي ومنذ الزج بها داخل الزنزانة لاحظنا ارتباطها بهالات معالم بيئة المكان الموحشة ومدى تخوفات وصعوبة الشخصية من التعرف على ملامح المكان: (كنت أتهيب بالنظرة الأولى للأشياء المحيطة، ليس لأنني أخشى النظر إلى الأشياء المرعبة بل لأنني كنت أخاف أن لا يكون هناك ما يرى . / ص20: النص القصصي) أن عملية الزمن المعادل في محتمالات رؤية الشخصية ذات انطلاقة مبنية على دليل مؤولاتها الانطباعية وفي تعاملها مع وحدات المكان والأصوات المستعادة للقضاة في قاعة المحكمة، لذا وجدنا تفاصيل ممارستها العضوية في النموذج المكاني، ذات سمات أكثر تجريدية وأكثر بحثا في غياهب موجودات وحالات الأشياء: (وحين كنت أتقدم بحذر ـ أخذت تتزاحم في ذاكرتي الآف الأصوات الغامضة المنبعثة من أهوال ـ توليدو ـ كانت تروي عن هذه السجون غرائب أعتبرتها دائما من الأساطير ـ لكنها مع ذلك من الغرابة والهول . / ص20: النص القصصي) .

1ـ غرائبية المكان وآليات المنتج الإظهاري:

تهيمن النماذج الوظيفية الغرائبية على تفاصيل دلالات أحداث النص، امتدادا لها نحو فرضيات تحتاج من قارئها الإلمام بفكرة ورؤية (الذات الداخلية) للنص، أي بمعنى ما، فهم مشخصات اللغة السردية على أنها حالات علامية مسخرة بفعل تمظهرات مضمرة من داخل المسرود، وعلى هذا نفهم من تحركات الشخصية في ظلمات المكان المتمثل ب (الزنزانة) على أنها قيم إظهارية من نوع آخر من مؤشرات الترميز القصصي، إي بوصفها نوعية خاصة من المقابل الآخر لصورة العالم الممكن، أو أنها الوظيفة المرمزة نحو محمولات وخاصيات فكرة بطش الحكومات والكولونيالية احتمالا، وتعزيزا لكل هذا تنكشف لنا دلالات كابوسية ذلك الرقيب الحكومي ـ تمثيلا لها في أحوال: (اكتشفت أنني سقطت على حافة بئر مستديرة .. لم تكن لدي في هذه اللحظة أية وسيلة لتقدير مساحتها .. استطعت وأنا أتلمس البناء فوق حلقة البئر تماما، أن أنزع منه شيئا صغيرا وأرميه في الهاوية . / ص21: النص القصصي) .

2ـ الواقع المغلق في محددات اللازمن الواقعي:

و تسعى قابلية القص في مشاهد النص إلى استفزاز منطقة القراءة، نحو كشوفية الشخصية ذاتها في التنقيب في ماهية واقعها الزنزاني المحفوف بمجاهيل العالم المغلق ومحددات اللازمن الواقع فيه . وما منح هذا النص دلالاته الكبرى هو حقيقة مؤثثات المكان الآسرة بسرانية المخبوء وغواية التأويل: (كان الرقاص ينوس عاموديا فوقي .. ولاحظت أن الهلال يتأهب كي يجتاز منطقة القلب .. كان سيمزق طرف ردائي ـ ثم يعود ويكرر عمليته، وعلى الرغم من البعد الرهيب للمنحنى الذي يسير فيه ـ حوالي ثلاثين قدما ـ وحركة سقوطه وهي تفسح والتي تكفي وحدها لشق الأسوار الحديدية، فإن كل ما كان بوسعه أن يقلعه ببضع دقائق هو أن يمزق ردائي . / ص25: النص القصصي) .

تعليق القراءة:

في الواقع أن مستوى رمزية العلامة التوظيفية في المدلول المركز في تفاصيل أحداث قصة (البئر والرقاص) تتركز في وسيلة الخلاص من أصفاد وآلية الموت المتمثلة بحركية نزولات آلية الرقاص القاتلة على الجسد الشخوصي، فيما تلعب دينامية العلاقة الذروية ما بين البئر والرقاص، بتلك الحافزية الخاصة نحو قمع الأداة الأنسانية الرازحة تحت ظلمات شرورها المميت: (وتراجعت جدران النار سريعا .. ذراع ممدودة تمسك بذراعي كما لو كنت أسقط في الهاوية غائر القوى .. كانت ذراع الجنرال لاسال فقد دخل الجيش الفرنسي توليدو وصار التفتيش في أيدي أعداء التفتيش . / ص28: النص القصصي) هكذا وجدنا صورة وشكل الخاتمة المضمونية في النص، وكأنها تتحدث عن العلاقة الرمزية والتأويلية الخاصة بمعادلات حقبة كولونيالية خاصة من تأريخ آليات هموم المكانية الواقعة ما بين انتصارات الشخصية الضمنية في مواقع زنزانتها الزمنية اللامحددة .

 

حيدر عبد الرضا

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم