صحيفة المثقف

عادل بالْكَحلة: البيروني مؤسسًا للقطيعة الإبستيمولوجية في علوم الاجتماع

عادل بن خليفة بالكحلةالشّرح النفسي للموضوعية العلمية البيرونية في الإنسانيات

مقدمـة: إنّ تاريخ العلوم هو تاريخ الصّراع الدائم بين العقبات الإبستمولوجية والقَطِيعات الإبستمولوجية. فانتصار العقل العلمي إنّما هو المرور من المعرفة الشائعة، الحسية المشتركة إلى المعرفة الموضوعية، ثم المرور إلى تصحيح الأخطاء في مسار بناء المعرفة العلمية.

إنّنا إذا تبنّينا الموقف البَشْلاريّ من أجل التعبير عن واقع علم الاجتماع، تبنِّيًا مُعَدَّلاً على خصوصية الموضوع الإنساني، يمكننا أن نختبر موضوعيًّا الإنجاز العلمي لأبي الريحان البيرونّي في تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة، الذي انتقل فيه من الموضوع الطبيعي إلى الموضوع الإنساني، معدّلا منهجه الرياضي المهيمن على موضوعه العلمي الأول.

فبأدوات بشلار ومفاهيمه، مع تعديلٍ نُبَرِرّه علميا، سنقارب موضوع إنسانيات البيرونيّ في تحقيقه الهندي، وعلاقته بالمعرفة الحسيّة المشتركة في الاجتماع، لنخلص إلى أنّه هو مؤسس صحيح الابستمولوجية في علم الاجتماع، والإنسانيات عموما، لا ابن خلدون. بل سنحاول أن نثبت أن البيروني، بما هو عالم اجتماع، كان أكثر تصدِّيًا لأخطاء علم الاجتماع من ابن خلدون عالم الاجتماع. وربّما يعود ذلك إلى أنّ خبرة ابن خلدون العلميّة لا تتجاوز «علم التاريخ» وعلم الأصول وعلم الكلام، دون أن يحدث قطيعة إبستمولوجية في كل واحد من تلك «العلوم»، بينما توسّعت خبرة البيروني، لتشمل المجالات الخلدونية الثلاثة فحسب، بل لتشمل أيضا الفلسفة والعلوم الطبيعية، بل ليحدث قطيعة إبستمولوجية أو بعضها، على الأقلّ ليثّبت نقديته وأصالته العلمية، في كل واحد منها، فهو الوحيد الذي استطاع أن يقف بِنِدِّيّةٍ أمام البناء الفلسفي السّينوي في حواراته المشهورة مع الشيخ الرئيس.

وهذا ما يسمح لنا بالمرور إلى البحث في أدوات جمع المعلومات عند البيرونيّ في تحقيقه الهندي، لنؤكد أن عقلانيته التطبيقية حققت قطيعة مع الإبستمولوجيا الرّحلية والأدبية والمِلِّيّة في التعامل مع الاجتماعي، بانتهاجه الملاحظة بالمعايشة المكانية والزمانية، والوسيط الأنثروبولوجي الأهمّ وهو اكتشاف لغة المبحوثين قبل جمع المعلومات.

ثم نقارب قَلْبَهُ العلاقة بين النظرية والمعاينة، فقد كانت حتى عملياته البحثية الأكثر أوّليّة، كالملاحظة، «حكايةً» كما يعبّر، أي تسجيلا، تتزايد أمانتها بقدر التزامها بافتراضات مسبقة أقل، وتكون أكثر عملية بقدر ما تكون «الإمّات»[1] النظرية والمفاهيم التي تتسلح بها واعية، منقودة ومنظمة.

سنحاول هنا تقصي تأسيس البيروني للعلوم الإنسانية من خلال الاستفادة من إبستيمولوجيا بشلار، واعتمادا على تحقيق ما للهند من مقولة أساسا، ثم نقارنه بالإنجاز الخلدوني.

الدراسة الإبستمولوجية وتطبيقها على الإنسانيات:

يرى بشْلار أنّ النظريات العلمية ليست إنجازا في مجال البحث العلمي بقدر ما هي «موقف إبستيمولوجي جديد يبرز القيم المعرفية الجديدة التي جاءت بها تلك النظريات»[2].

والقيم الإبستمولوجية ليست القيم العامّة للعلم، بل هي «مجموعة من القيم المتجددة مع تطوّر الفكر العلمي. ومن هذه الناحية، فإنّنا نقع في تناقض حين نتحدث عن قيمة العلم في مرحلة معيّنة من تطوّره. ونظن أنّنا نقول بذلك كلاما نهائيا حول هذه القيمة»[3].

إنّ مصدر القيم الإبستمولوجية هو النظريات العلمية، وتاريخ العلم يسير تبعا لضرورة مستقلة وينبغي أن نسعى بكيفية منظّمة لتحديد القيم الإبستمولوجية وترتيبها في السيرورة التاريخية[4] تلك السيرورة التي قد تعرف نكوصات وتراوحات، وقد تعرف مراكمات.

وهذه المهمّة، ينبغي أن لا تكون موقف الحكم، «بل ينبغي أن تكون في نفس اتجاه هذه المسيرة، وأن تعبّر عن قيمتها من حيث هي قيم للعقل الإنساني (...) وقيم نفسية لأنها بتجددها لا تطوّر تفكيرنا في الموضوعات فحسب، بل فكرنا نفسه»[5].

تتميّز القيمة الإبستيمولوجية بجدّتها، فالنظريات العلمية لا تتعادل، بل تتمايز، إن قليلا أو كثيرا. والمهمّة المطروحة علينا هي استيعابها وإبرازها، لا تبريرها أو تفنيدها.

المهمة الثالثة للدراسة الإبستمولوجية عند بَشْلار، هي الشرح النفسي[6]  للمعرفة الموضوعية، فهو يؤكّد وجود حياة نفسية وغير واعية تؤثر في الحياة النفسية الواعية. وعليه يفترض بشْلار وجود مكبوتات على الباحث الإبستمولوجي اكتشافها، فلا يكتفي باكتشاف موضوعية المعارف لكي يصل إلى تفسيرات الملاحظ العلمي العقلية المكبوتة. فالعمل العلمي عند بشْلار عمل عقليّ- نفسي، في الآن نفسه، ومن الضروري الحفر في الأرانيات[7] الخفية، غير الواعية، للعمل العلمي، لكي يكتمل لدينا تعيّنه. وما يتسبب في تعطيل التأسيس العلمي أو المراكمة العلمية أو نكوصها يسميّه بشْلار العقبة الإبستيمولوجية محاولا اكتشاف تعيناتها المختلفة.

ولكنّ بشلار يغفل عن الشروط التاريخية والمجتمعية للعمل العلمي ومن الممكن استيعاب شرحه النفسي ضمن تلك الشروط، لتكميل النموذج البَشْلاري في البحث الإبْستِيمُولوجي.

وأهم المفاهيم التي تتحكم في الدراسة الابْسِتيمُولوجية وفق بشْلار هي: العقبة الابْسِتيمُولوجية والقطيعة الابْسِتيمُولوجية والجدل.

1-1 مفهوم العقبة الابْسِتيمُولوجية:

يرى بشْلار أنّ العقبة الابْسِتيمُولوجية في صميم العملية المعرفية ذاتها، فهي ليست نتيجة لشروطها الخارجية ولا لحواس الملاحظ العلمي، بل هي ضمن الشروط النفسية للعملية المعرفية. فهو يرى ضرورة وضع مشكلة المعرفة العلمية في صيغة عقبات، «ففي فعل المعرفة ذاته تبرز تعطيلات واضطرابات بكيفية صميمية، وبنوع من ضرورة وظيفية»[8]، توقفنا علل الركود والنكوص.

ومن صور العقبة الابْسِتيمُولوجية حسب بشْلار، التجربة الأولى عندما يصدر بها الملاحظ العلمي موقفه النهائي من الموضوع، فالمعرفة العلمية مضادة للتجربة الأولى ومتجاوزة لها، إذ أن «المعرفة العامة تجعل المسافة قصيرة بين الواقع والفكر، أما المعرفة العلمية فإنّها تفصل بينهما بالرجوع المستمر إلى التركيب العقلي، أي بالمحاولة المستمرّة لإضفاء العقلانية على التجربة»[9].

ومن صورها أيضا، التعميم، فصحيح التعميم ينقلنا من شتات الوقائع إلى وحدة القوانين، ولكنّه قد يكون إسقاطا وهروبا للسهولة والمماثلات الزائفة المهملة للتفاصيل والفوارق الدقيقة[10].

ومن عقبات العمل العلمي، في نظر بشْلار، ايضا، ما يرتبط بالمعرفة العامة، أي التأسيس على العوامل المنفعية؛ ومن تلك العقبات يسوق أيضا الامتداد غير الموضوعي للمفاهيم والمصطلحات لتصبح معبرة عن ظاهر ليست هي التي وضعت من أجلها تلك المفاهيم والمصطلحات[11].

كما يسوق بشْلار العقبة الجوهرية التي تصدف بالتفكير عن الموضوعية للبحث في ماهو خفيّ باعتباره جوهريا[12]. وهي متكوّنة «من تجمّع الحدوس المبدّدة، بل المتعارضة»[13]، وعليه يكون الفكر ما قبل العلمي.

وهو لا يعتبر العقبات إلابْسِتيمُولوجية مجرّد جانب مختف في العملية المعرفية، بل يعتبر أنّ لها أرَانًا سلبيا يعوق تأسيس المعرفة الموضوعية أو توسّعها، فبشْلار يطالب بمراقبة العملية المعرفية في تقدمها وفي تعثرها[14].

1-2 مفهوم القطيعة الابْسِتيمُولوجية:

يعبّر هذا المفهوم عن «فترات الانتقال الكيفي من تطوّر العلوم»[15] ينتقل العلم بفضلها إلى نظريات جديدة توقف استمرار الفكر العلمي السابق. «وبقدر ما تحقّق هذه الفقرات الكيفية جدّة مطلقة في الفكر العلمي، فإنّها تحقّق قطيعة بين الفكر العلمي والمعرفة العامّة»[16].

ويتناول بشْلار قطيعتين: إحداهما بين المعرفة العامة والمعرفة العلمية، والأخرى بين النظريات العلامية المتعاصرة.

إن موضوع المعرفة العلمية ليس معطى استمراريا للمعرفة الحسّية. فالمعرفة العلمية تلاحظ ظواهرها بتوسط أدوات هذه المفاهيم المشكليات والافتراضات والآلات في حالة العلوم الطبيعية والتّقنية. كما أن اللغة العلمية ذات قطيعة مع اللغة العامّة، لأنّ دلالاتها مختلفة وأدق. ومن ناحية أخرى، يلاحظ بشْلار القطيعات الابستِمُولوجية داخل الفكر العلمي نفسه، وهي تعني انبثاق مفاهيم ونظريات ومقاربات أكثر شمولا، محتوية الفكر السابق أو متجاوزة له، أو رافضة بعض جوانبه، ضمن مراجعة لا تنتهي. فالقطيعة الإبْسِتيمُولوجية تعني تفتّحية الفكر العلمي أكثر فأكثر.

الجدل هو علاقة تكامل بين العقلاني والتجريبي، والقَبْلي والبعدي، والمحسوس والمجرّد والرياضي والتطبيقي. فهو موقف وسيط بين النظري والعملي، ليكون الموضوع العلمي ظاهرة وشيئا في ذاته، في الآن نفسه. وبذلك يقدم مفهوم الجدل موقفا أرَانيًّا من الفكر العلمي، وهو ليس داخليا للواقع أو الفكر، بل يستوعب التجارب الجديدة ذات القطيعة مع المقاربات السابقة.

العلوم الإنسانية بين العقبات والقطيعة الإبستيمولوجِيَّيْن:

لم يفكّر بشْلار في تاريخ العلوم الإنسانية، فلم يفكر إلا في تاريخ العلوم الرياضية والفيزيائية والكيميائية.

وقد استعار بورديو ومعاوِنوه المفاهيم البشْلارية من أجل فهم السيرورة الإبستيمولوجية لعلم الاجتماع.

وقد أثبتت المحاولةُ الإجرائية المقاربةَ البشْلارية في التعبير عن واقع علوم أخرى لم يفكر فيها بشْلار، ولكنّها كانت منطلقة من تبنٍّ كامل للموقف البشْلاري دون نقد له. فلم تتبنّ تصوّره لتاريخ العلوم فحسب، «بل تبنّت مع ذلك الموقف الفلسفي العقلاني المطبّق الذي يريد بشْلار أن يكون هو الموقف المعبّر عن المرحلة الراهنة من تاريخ العلوم»[17].

يرى مؤلفو مهنة عالم الاجتماع،ـ مثل بشْلار، أنّ التداخل بين المعرفة العلمية والمعرفة العامة هو المصدر الأساسي لعقبات علم الاجتماع الإبْستيمُولوجية، فيقولون: «إذا كان علم الاجتماع علما كبقية العلوم الأخرى يلاقي صعوبة خاصة في أن يكون عامّا كتلك العلوم، فإن ذلك يرجع أساسا إلى العلاقة الخاصة التي تقوم فيه بين التجربة العالمة والتجربة الساذجة للعالم المجتمعي، وإلى العلاقة الخاصة كذلك بين التعبيرات الساذجة والتعبيرات العالمة عن هذه التجارب»[18]. فالعقبة الأولى تتأتى من الألفة التي «قد تنشأ لدى عالم الاجتماع بالمحيط المجتمعي»[19]. وأما الثانية فقد تتأتّى «على مستوى التعبيرات عن نتائج دراسية»[20]. ففي علم الاجتماع، أكثر من أي علم آخر. لا يكون الفصل بين الرأي العام وبين القول العلمي سهلا، بينما لا يمكن اتصافه بالعلمية إذا لم يحقق هذا الفصل، إذ أن الرأي العام «خاطئ دائما لأنّه يفكّر بصورة سيئة بل لا يفكر أبدا»[21].

وهنا، لابدّ من تجاوز التجربة الأولى بعقلنتها من أجل فهم «أكثر تجريدا للواقع»[22]. ولكن ينبغي أن لا تقف اليقظة الإبستيمولوجية لعالم الاجتماع «عند نقده لمفاهيم علم الاجتماع التلقائي (...) لأنّ المفاهيم التي تنتجها المعرفة الاجتماعية التلقائية قد تتسرب إلى عالم الاجتماع عن طريق اللغة العامة للتعبير عنها باعتبارها مصطلحات علمية»[23].

وللمرور إلى مرحلة القطيعة، يقترح المؤلفون بعض التقنيات ومنها القياس الإحصائي،ـ الذي يسمح بالتخلّص من آثار الاتصال المباشر بالظاهرة، وعن التأثّر بالتصورات العامة الناتجة عن هذا الاتصال، فتصبح ملاحظة الظاهرة معقلنة[24].

ويقترح المؤلفون تقنية التعريف المؤقت، بأن يتخلّص الباحث عن تصورات المعرفة العامّة بالمفاهيم العلمية التي ترشد البحث. وقد أكّدوا هنا ضرورة النقد المنطقي والقاموسي للغة المستعملة.

ولكن ذلك في نظرهم غير كاف، فلا بدّ من قيام نظرية في المجتمعيّ، مقدمة نسقا مفاهيميا في قطيعة مع المعرفة.

فبوجود النظرية تصبح للملاحظة والتجارب دلالات حقيقية، إذ تقدم لها إطارها العلمي المنظم.

كانت محاولة بُوْردِيو وزملائه تجاوزا «لكل تفاؤل مفرط بصدد وضعية علم الاجتماع أو أيّ علم إنساني آخر (...) ذلك لأن العوائق الابتسيمولوجية التي تَعُوق قيام المعرفة العلمية لا ترتفع كلّها دفعة واحدة أو بصفة مطلقة. فالعوائق الإبستيمولوجية، كما يبين لنا ذلك بشْلار، ضرورة وظيفية لسير المعرفة العلمية، وحين تتجاوز المعرفة العلمية عوائقها في مرحلة معيّنة، فإنّها توجد بذاتها ولذاتها عوائق جديدة»[25].

وقد كانت تلك المحاولة شرحا نفسيًّا للتجربة العلمية في علم الاجتماع، للكشف عن المكبوتات العقلية فيها من مفاهيم شائعة ولغة عامة، مبيّنين الوسائل الممكنة للحدّ من أران تلك المكبوتات العقلية. وقد أكّدوا ضرورة تجاوز الوهم التفاؤلي للنزعة الاختيارية التي ترى علمية علم الاجتماع بمجرد اتّخاذ الملاحظة المنظمة بواسطة القياس الإحصائي أو التجريب. مثلا. فموضوع البحث مهما كان «لا يمكن أن يحدّد أو يبني إلا في ضوء مشكلة نظرية تسمح بإخضاع مظاهر الواقع لسؤال منظّم، فتدخل تلك المظاهر في علاقة بفضل السؤال المطروح عليها»[26]. ومن ثمة لابدّ من المرور، في نظر المؤلفين، إلى التطبيق.

العقبات الإبستيمولوجية التي على صاحب التحقيق تجاوزها لتأسيس «علم أحوال الأمم والطبقات»:

يُسمّى البيروني علمه الجديد «علم أخبار الأمم والطبقات»[27]، وأحيانا «علم أحوال الأمم»[28]، بما هو علم ذو موضوع يتناول الاجتماع الإنساني، وذو مَسَائل هي: الدين والناموس (= القانون)، وطقوس الحياة وطقوس الموت، والنٍّحْلة أو المُنْتَحَل (= «الثقافة» في الاصطلاح العربي الحديث)، والمَعاش (= «الاقتصاد» في الاصطلاح العربي الحديث)، والسياسة، والنِّكاح (= الزواج) والحِرف (= المِهن).

ويسمّي البيروني العقبات الإبستيمولوجية «الأحوال التي لها يتعذر استشفاف الأمور» [29] في الإنسانيات. وقد كان عليه أن يقرأ حساب تلك الأحوال العاذرة قبل بداية التحقيق: «يجب أن نتصوّر أمان مقصودنا الأحوال التي لها يتعذر استشفاف أمور الهند. فإما أن يمهل بمعرفتها الأمر، وإما أن يتمهّد له العذر»[30].

لقد اعتمد «العلم» بأخبار الأمم والطبقات كليّا وطويلا على «الخبر». وذلك الخبر، رِحْليّ، أو تِجَاري، أو قَصَّاصي، أو تجسّسي، أو غير ذلك. ولكنّ «الخبر عن الشيء الممكن الوجود، في العادة الجاريَة، يقابل الصدق والكذب على صورة واحدة»[31].

ويعد شكّ البيروني في الخبر عن أحوال الأمم، أي الإنسانيات غير العلمية السابقة، «لتفاوت الهمم»[32]، أي لتفاوت الأهداف السَّوْقِية[33] للمخبرين والناقلين؛ وبسبب «غلبة الهِراش»[34] أي الاشتداد والتحرّش بين الأمم. وكذلك لغلبة «النزاع على الأمم»[35]. فتكاد كلّ الأمم ذات حروب قد لا تنتهي تجاه أمم أخرى؛ وذلك ما يترك آثاره على الخبر، فيختلط به الصدق والكذب.

فقد يصدر الكذب عن الرحّالة أو التاجر أو القصّاص أو المتكلّم أو الفيلسوف في تناول بعض أحوال الأمم الأخرى لتعظيم جنسه: «فمن مخبر عن أم كذب [لأن تلك الأمم] تحته [= تحت جنسه]، أو يقصدها بإرادته [لأنه سيد في جنسه]، ومعلوم أن كلا هذين من دواعي الشهوة والغضب المذمومين»[36].

وقد لا تتناول تلك الإنسانيات أحوال الأمم وإنّما أحوال الطبقات في الأمّة نفسها، ولكن رغم ذلك يشوب خبرها الكذب أيضا: «ومن مخبر عن كذب في طبقة يحبهم لشكر أو ببعضهم لنكر، وهو مقارب للأوّل، فإنّ الباعث على فعله من دواعي المحبة والغلبة. ومن مخبر عنه متقرّبا إلى خير بدناءة الطبع، أو متّقيا لشرّ من فشل أو فزع»[37].

وقد يكون الكذب طبعا في المخبر: «كأنّه محمول عليه، غير متمكّن من غيره، وذلك من دواعي الشرارة وخبث مخابئ الطبيعة»[38].

وقد يكون نقل الكاذب جهلا، وذلك ما يترسّخ ويصبح شبيها في الأوهام بالحقّ إذا تناقلته الأجيال، وتناقله القصّاص عن القصّاص، والرحّالة عن الرحّالة، أو الرحّالة عن القصّاص، أو القصّاص عن الرحالة المتعمد الكذب: «ومن مخبر عنه جهلا، وهو المقلِّد للمخبرين، وإن كثيروا جملة، أو تواتروا فرقة بعد فرقة، فهو وهم وسائط في ما بين السّامع وبين المتعمّد الأوّل»[39].

وقد لاحظ البيرونيُّ الإزراءَ بمُنْتَحَلات الآخر حتى بين أفراد الأمّة الواحدة، كإزراء هذه الفرقة الإسلامية بتلك، وقد مدح أستاذه أبا نوح التّفليسي[40] لأنه يرفض الإزراء بأقوال المعتزلة رغم اختلافه عنهم، وكان يُصرّ على مجرّد «الحكاية». وقد عَلَّق الطالب على موقف الأستاذ بقوله أنّ الإزراء قد نجد بين «الحاكين» أنفسهم، فهي «طريقة قَلَّ ما يخلو منها من يقصد الحكاية عن المخالفين والخصوم. ثمّ إنّها تكون أظهر في ما كان عن المذاهب التي يجمعها دين واحد ونِحْلة، لاقترابها واختلاطها؛ وأخْفى في ما كان عن المِلَلِ المفترقة، وخاصة ما لا يتشارَك منها في أصل وفَرِعٍ، وذلك لبُعدها وخَفاء السبيل إلى تعرُّفها، والموجود عندنا من كتُب المقالات وما عُمِل في الآرَاء والدِيانات لا يشتمل إلا على مِثله»[41].

وهذا ما جعل الأخبار عن أحوال الأمم وغيرهم من النّاس «من الأسمار والأساطير، يستمع لها تعللا بها والتذاذًا لا تصديقا لها واعتقادًا»[42]. ولذلك كان أكثر ما هو مسطور في الكتب عن المُنْتَحلات الهندية «مَنْحُولٌ، وبعضها مُهَذَّبٌ على رأيهم ولا مشذّب»[43]. وجلّ المقالات عن الأديان الأخرى «لم يكن من جميع الأديان في شيء، بل منفردا بمُخْتَرَع له يدعو إليه»[44].

البيروني يتجاوز العقبات المعرفية ويضع قطيعات لتأسيس العلوم الإنسانية:

لقد مهّدت قطيعات البيروني على مستوى العلوم الطبيعية، لتهيئة إمكانية إنجازه قطيعات على مستوى معرفة الاجتماعيِّ. فهو جزء من الزمن المعرفي البويهي الذي تميّز بكثير من العقلانية.

كان أصحاب السلطة الدينية السلفية منذ عهد المتوكل يريدون طيلة 104 من السنوات محو الإنسان، ضحية للتسليم واللاعقل، بينما كان ثُقفاء عصر الحرّيات البُوَيْهِيّ «يُريدون تعريف الإنسان بما هو عَدْل وحق في العلاقات البشرية والطبيعية الواقعية أو جوهر الأشياء. كانوا يريدون تعليمه الدرس الواقعي المحسوس والقليل التعميم في ما يخص التجارب الفردية والجماعية. وكانوا يريدون تعريفه بالقواعد المستخلَصَة مِنْ قِبَل نتيجة منطقية أو بناءًا عليها»[45]، أو بواسطية «العِيان» (أي البحث الميداني) والمحاجّة والبرهان، بعد أن كان ممنوعًا منها.

كان القادة البويهيّون يَطْلُبُونَ مِن البيروني صنع آلة رَصد أشرف عليها التِّقانيّ الخَوْحَنْدِي فألف كتيّبه الأول: « حكاية آلة السُّدس الفخرية»[46]، وكانوا يطلبون من ابن بابوَيه المناظرة معهم (رُكن الدولة). وقد منحوا الأولوية «للاهتمام بالمشاكل الأخلاقية- السياسية»[47]، وأدى الفضول العلمي والحس النقدي لديهم إلى تنظيم جديد للمعرفة؛ وعِوض حَصْر «الحقوق»، كل الحقوق، في حقوق الله (المحاسي: الرعاية لحقوق الله)، كان التنصيص على حقوق الإنسان بما هي حُقُوق رئيسيّة لله نفسه، فطالما انتفض التوحيدي- مثلا – ضد « التفاوت الاجتماعي للرَّيْع بين الأقلية المترفة التي تسكن القصور وبين الطبقات الشعبية»[48]، وكان يريد «لوجود الإنسان أن يتحقق مِن خلال العدالة والحرّية والشَّفَافية (أي الصدق والصراحة)»[49] ليكون «مفعمًا بعشق الله»، الحريص على رِبْعة الإنسان مِنْ خِلال علاقة الغُربْة بالصداقة.

وقد طوّر البيروني والكُرْمي، في العهد البُويْهِي آلات المساحة، والأسطرلات. وأبدع البيروني جهازًا لتنفس الغوَّاصين وأدواتٍ للتعدين الباطني وتعدين الفولاذ وتحديد استقامة الحفر في المَنَاجم وإنتاج الفولاذ المنصهر[50].

انتصر البيروني للرياضيات والتجربة، ولم يكن يهمّه في ذلك أن يعارض دفاع رئيس علوم عصره، الشيخ الرئيس ابن سينا، عن الكسموس الإغريقي واللوغوس الأرسطي[51]. فما هي شروط الملاحظة وكيفية ممارستها عند البيروني؟

من أنواع الملاحظة العلمية يستعمل البيروني الملاحظة المباشرة والملاحظة بالمعايشة. ويسمّي البيروني الملاحظة المباشرة: «العيان». وهو يضعه في قطيعة مع «الخبر»، خبر الرحّالة والتّجار والقصّاص: «ليس الخبر كالعيان، لأن العيان هو إدراك عين الناظر عين المنظور إليه في زمان وجوده  وفي كل مكان حصوله»[52].

ولذلك انتقل البيروني بنفسه إلى بلاد الهند، وخاصة منها بلاد الهند الشمالية- الغربية، ويقال أنه عاش هناك 40 سنة[53]، وإن كنت أرفض هذا العدد، لكنْ مِنَ المسلّم به أنه عاش هناك باحثا مدة طويلة.

أما الملاحظة بالمعايشة فيسيمها البيروني «الوَصْلَة» وهي نقيض «القطيعة»[54]، إذ أنّ «القطيعة تخفي ما تبديه الوصلة»[55]. وهي لا تكون بمجرد إقامة الباحث بميدان المبحوث، بل يجب عليه في نظر البيروني أن يتمكن من لغة المبحوثين، ومن دينهم ونِحْلَتهم: «إني كنت أقف من منجّميهم مقام التلميذ من الأستاذ لعجمتي في ما بينهم، وقصوري عمّا هم فيه من مواضعاتهم. فلما اهتديت قليلا لها، أخذت أوقفهم على العلل، وأشير إلى شيء من البراهين، وألوّح لهم الطرق الحقيقية في الحسابات، فانثالوا عليّ متعجبين، وعلى الاستفادة متهافتين، يسألون عمّن شاهدته من الهند حتى أخذت عنه، وأنا أريهم مقدارهم وأترفّع عن جنبتهم مستنكفا، فكادوا ينسبونني إلى السحر. ولم يصفوني عند أكابرهم بلغتهم إلا بالبحر والماء يحمض حتى يفور الخلُّ»[56].

فالتمكن من لغة المبحوثين يمر بعدة مراحل، ولكن ينبغي أن يبدأ بالتواضع معهم، فإذا كانت السيطرة على لغتهم ينبغي أن يسود محاورتهم الترفع عن الجنبة والاستهزاء. وقد قرأ البيروني الكثير من الكتب البَرْهَمِيَّة باللغة السنسكريتية.

لقد نظر في الكتب البَرْهَمِية السنسكريتية مباشرة: «وكُنْتُ نقلت إلى العربية كتابين أحدهما في المبادئ وصفه الموجودات واسمه «سانك»، والآخر في تخليص النفس من رباط البدن ويعرف بـ« ياتنجل»، وفيهم أكثر الأصول التي عليها مدار اعتقادهم دون فروع شرائعهم»[57]. فالتحقيق لا يمكن أن نطالعه من خارج المختصّون في الدين البَرْهمي «لا يهذّبونه»[58]، أي لم يشرحوه كتابيّا، فلا بد من الرجوع إلى الكتاب الأصلي في لغته الأصلية.

من ناحية أخرى يعتمد في بحثه الاجتماعي ما يسميه «الحكاية»: «وإنّما هو كتاب حكاية، فأُورِد كلام الهند على وجهه»[59]. والحكاية هي ما تسميه الإثنوغرافيا والإثنولوجيا المعاصرتان الوصف الدقيق والمطابق للواقع.

وكل هذه التقنيات، إنما هي من أجل أن «يؤدي إلى الإحاطة بالمطلوب بمشيئة الله»[60].

من ناحيةٍ أخرى، تطلب الإثنولوجيا «المقارنة» وكذلك البيروني، إذ علاوة على الحكاية استخدم «المقاربة» (بالباء) كما اصطَلَح، فقارب مُنْتَحلات الهنود في «رموز نِحْلتهم ومَوْضِعَات ناموسهم»[61] مع مُنْتَحلات اليونانيين والمسلمين (وخاصة الصوفية منهم) والنصارى واليهود. وقد كان يصبح عمله في بعض «المقاربات» تمشّيًا أنثروبولوجيًّا بأتم معنى الكلمة، في مقاطع متشتتة بين الفصل والآخر: «إن اليونانيين وأيام الجاهلية قبل ظهور النصرانية كانوا على مثل ما عليه الهند من العقيدة، خاصُّهُمْ في النظر قريب من خاصِهّم، وعامُّهُمْ في عبادة الأصنان كَعامِّهِمْ (...) ولكن اليونانيين فازوا بالفلاسفة الذين كانوا في ناحيتهم حتى  نقّحوا لهم الأصول الخاصة دون العامة (...) يدل على ذلك سقراط لما خالف في عبادة الأوثان (..) ولم يك للهند أمثالهم ممن يهذبُ العلوم (...)»[62].

لغة التحقيق الهندي لغة علمية لا عاميّة:

استطاع البيروني من أول التحقيق إلى آخره أن يقطع مع اللغة العامّة. فلم تكن لغة التكرار، ولا لغة التعجب، ولا لغة السخرية، ولا لغة الاستهجان والتكفير، ولا لغة التهويل ولا التحقير. فلم يكن انتماؤه الإسلامي- الإمامي ليجعله في تعامله العلمي مع الآخر ليبعده عن الموضوعية.

5-1: المَفْهَمَة أو استنباط «المقولة»: المفهوم هو أحد الأدوات العِلمية للبناء العلمي، إنه ليس الظاهرة نفسها، بل هو تجريد، «فهو من ناحية يمثِّل نشاطا تطبيقيا، حسّاسًا، واتصالا بالعالم تحت شكل كائنات خصوصية»[63]. فهو يسمح بتجاوز المباشر والحسّيّ والظاهر، ويُدخلنا ضمن الفهْم وضمن درجة عالية من الموضوعية[64].

يمكننا أن نحصر اصطلاحيته المقوليّة أسَاسًا في:

النِّحْلة.

المِلّة.

الناموس (أي القانون).

النّفار والمباينة.

التقليد.

التهارُج.

ولغته تتحرّى الدّقة والإيجاز معا، فهو يرفض ما في اللغة العامة من مرواغة و وُجوه وفضفاضية أحيانا، ويبرّر ذلك بقوله بأن ذلك «لمن له دراية واجتهاد، ومحبٌّ  العلمَ (...) ومَنْ كان على غير هذه الصفة، فلستُ أبالي أَفهِمَ أم لم يفهم» [65].

5-2: عَنْونة الكتاب عَنْونَةً علميةً:

بداية القطيعة في عَنونة في تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة. فالعَنْونة أولى امتحانات العلمية. ولها معايير، أهمّها وجود «موضوع» و«مسألة». فالموضوع يكون مبنيّا قفي صورة مفهومٍ أو علاقة بين مفهومين أو ثلاثة على الأكثر، عادة، والمسألة تحدّد المكان ومعه الزمان أحيانًا، أو الطائفة المختارة للبحث، أو الجزئية (أو الجزئيات) من الموضوع الأوسع.

ومن معايير العنونة العلمية أن تكون ذات مفاهيم.

وينبغي أن تكون العنونة بعيدة عن الانحياز أو السخرية أو الرفض والموقف المسبق.

ولقد توفرت في عنونة البيروني لهذه الكتاب شروط العنونة العلمية:

لفظة «في» تحْمِلُ تواضعا علميّا، فهذا البحث ليس تحقيقا، وإنّما هو في التحقيق، أي قابل للتطوير. وهو ما يعني الانفتاح الإبستيمولوجي.

هو «تحقيق»: أي مبحث علمي، وليس تقريرا رِحْلِيًّا أـو تَجَسُّسيًّا، أو انحيازا للمبحوثين أو رفضا لهم.

وهو بما هو تحقيق، يجب أن يعتمد «المقولات»، أي المفاهيم. فهو بحثٌ في تطبيق المقولات على الاجتماع الهندي.

وهو بما هو «تحقيق»، ينبغي أن يكون «حكايةً» فلا يهمّ المحقق إن كانت تطبيقات الهنود في تلك المقولات «مقبولة في العقل أو مرذولة». وهي ما تُسمى اليوم «الموضوعية العلمية».

اعتماد الجدل العلمي لإعادة تأسيس علم أحوال الأمم والطبقات:

اعتمدت قطيعة البيروني المعرفيّة على قطيعة أستاذه أبي العبّاس الإيرانْشَهْرِيّ[66]: «ولقد أحسن في حكاية ما عليه اليهود والنصارى وما يتضمنّه التوراة والإنجيل، وبالغ في ذِكْر المانويّة، وما في كتبهم من خبر المِلل المنقرضة»[67]. فهو الوحيد الذي «قصد الحكاية المجردّة من غير ميل ولا مداهنة»[68]. ولكن البيروني ينتقد أستاذه الإيرانْشَهْرِيّ: «وحين بلغ فرقة الهند والشامانية صاف سهمه عن الهدف، وطاش في آخره إلى كتاب زرقان ونقل ما فيه إلى كتابه، ما لم ينقل منه، فكأنّه مسموع من عوامّ هاتين الطائفتين»[69]. فلمّا عرض عليه البيروني ما عرفه عنهم، كان موقفه موقف العلماء غيّر الإيرَانْشهْريّ مقاربتهُ: «ولما أعاد الأستاذ، أيّده الله، مطالعة الكتب، و وجد الأمر فيها على الصورة المتقدّمة، حرص على تحريرها عرفته من جهتهم ليكون نصرة لمن أراد مناقضتهم وذخيرة لمن رام مخالطتهم. وسأل ذلك ففعلتُهُ، غير باهت على الخصم، ولا متحرّج عن حكاية كلامه، وإن باين الحقّ واستُفْظِعَ سماعُهُ عند أهله، فهو اعتقاده، وهو أبصر به»[70]. وهنا يظهر المفكّر الإيرانْشَهرْيّ[71] مولّدًا للحقيقة العلمية، وإن لم يكن صانعًا لها، فهو من بيئة القطيعة البَيْرونيّة.

إنّ البحث الإثنوغرافي عند البيروني ينبغي أن يكون اعتمادًا على وعي المبحوث نفسه، سواء أدلى به شفويّا أو كتابيا. فالكتاب الإثنوغرافي ينبغي أن لا يكون «كتاب حجاج وجدل حتى أَسْتَعْمِلَ فيه بإبراء حجج الخصوم ومناقضة الزائغ منهم عن الحقّ، وإنّما هو كتاب حكاية، فأورد كلام الهند على وَجْهِهِ»[72].

لقد عاد البيروني إلى الإبرانْشَهْرِيّ في تناوله للشامانية وعوالم جبل ميرو[73]، ويبرّر هنا عدم رجوعه إلى المبحوثين بقوله: «ولأني لم أجد كتابًا للشامانية ولا أحدا منهم استشف من عِنْدِهِ ما هم عليه، فإنّي حكيت عنهم فبواسطة الإيرانْشَهْرِيّ، وإن كنت أظنّ أن حكايته غير محصّلة، أو مِنْ غَيْرِ مُحَصّل»[74]. وهكذا، فهو يعبّر عن أوْلوية «الحِكاية» المباشرة، بأن كلام عالم الاجتماع السابق، الإيرانْشَهْرِيّ، يبقى محلّ نظرٍ.

لقد استفاد البيروني من درس الإيرانْشَهْرِيّ[75] في الإنسانيات. فقد أسَّسَ قطيعتَهُ في الطبيعات اعْتمادًا على مجادلة ابن سينا، وأسّس قطيعته الإبستيمولوجية، اعتمادًا مجادلة الإيرانْشَهْريّ الإبستيمولوجية. ولكن من سوء الحظ أن درس البيروني لم يجد من يؤسّس من جديد عليه، فانقرضت العلوم الإنسانية من جديد بعد البيروني[76]، لكي تُعيد الظهور مع القطيعة الخلدونية في علم الاجتماع.

المنهج الرياضي والقانون العلمي في إنسانيات البيروني:

هاجس البيروني الأساسي هو «التحقيق» بـ«الحكاية». ولذلك شعر بالصعوبة الإبستيمولوجية والمنهجية في فصل «في أجناس الخلائق وأسمائهم»: «هذا باب يصعب تحصيله على التحقيق، لأنّنا نطالعه من خارج، وأولئك لا يهذبونه، ولاحتياجنا إليه في ما بعده، نقرّر منه جميع المسموع إلى وقت تحرير هذه الأحرف»[77]. فهو يَطْلب المطالعة من داخل المجتمع المبحوث لا من خارجه، لأن المطالعة الخارجية فيها الكثير من الإسقاط.

لقد وجد في العقل الرياضي مساعدًا على البحث الإثنوغرافي فهو بحثه على جعل تحقيقه تسلسلا، فهو يحتاج للفصل من البحث لما بعده من فصول «تُقرّر منه جميع المسموع».

وهو يبدأ، في استدلاله الإنسانياتي بالقانون أـي «السُّنّة» في لغته، ليمرّ إلى التحقيق، أي هو يبدأ بالعامّ لكي يمرّ إلى الخاصّ، تمامًا كالاستدلال الرياضي. ومن ذلك هذه الأمثلة:

«إنما اختلف اعتقاد الخاص والعام في كلّ أمّة بسبب أن طباع الخاصّة بنازع المعقول وبِقَصْدِ التحقيق في الأصول. وطباع العامّة يقف عند المحسوس ويقتنع بالفروع ولا يروم التدقيق، وخاصّة في ما افْتَنَّتْ فيه الآراء ولم يَتَّفِق عليه الأهواء» (بداية فصل: «ذكر اعتقادهم في الله سبحانه»)[78].

«كلّ أمر صدر عن مستهتر طبعا بالسياسة، مستحق بفضله وقوته للرئاسة، ثابت الرأي والعزيمة[79]، مُعان بدولة في الأخلاق بتركهم الخلاف بالأسلاف؛ فقد تأكَّد ذلك الأمرُ عند مأمور به (..) وبقي فيهم مُطاعا في الأعقاب. ثمّ إن استند ذلك إلى جانب من جوانب مِلّةٍ، فقد توافَى فيه التوأمان وكمُل الأمر باجتماع المُلْك والدين (..)»

«وقد كان الملوك القدامى المعنيون بضاعتهم يصرفون معظم اهتمامهم إلى تصنيف الناس طبقات ومراتب يحفظونها عن التمازج والتهارج، ويحظرون الاختلاط عليهم بسببها، ويلزمون كل طبقة ما إليها من عمل أو صناعة وحِرْفة، ولا يرفضون لأحد تجاوز رتبته ويعاقبون من لم يكف بطبقته» (بداية فصل «في ذكر الطبقات التي يسمونها ألوانا وما دونها»[80]).

«معلوم أن الطباع العامّي نازع إلى المحسوس نافر عن المعقول الذي لا يعقله إلا العالمون الموصوفون في كلّ زمان ومكان بالقلّة، ولسكونه إلى المثال عدل كثير من أهل الملل إلى التصوير في الكتب والهياكل، كاليهود والنصارى، ثم المنانية خاصّة» (بداية فصل «في مبدإ عبادة الأصنام وكيفيّة المنصوبات»)[81].

«يجب أن لا يلتفت إلى اختلاف الأسامي والمعاني التي أوردها. أما في الأسامي فسهل الإصلاح لاختلاف اللغات، وأما ما في المعاني فإما أن يحصل منه شيء يُرْغَب في فهمه وموضوعه، وإما أن يعرف فيه تناقض كلّ ما لا أصل له» (بداية فصل «في ذِكْر الديبات السبعة بالتفصيل من جهة البرانات»)[82].

«النكاح ما لا يخلو منه أمّة من الأمم، لأنّه مانع عن التهارج المستقبح في العقل وقاطع للأسباب التي تهيّج الغضب في الحيوان حتّى يُحْمَل على الفساد. ومن تأمّل تزواج الحيوانات واقتصارَ كل زوج منها بزوجة وانحسامَ أطماع غيره عنهما استَوْجَبَ النكاحَ؛ واحتوى السِّفاح آنفةً للقصور عن رتبة ماهو دونه من الحيوانات. ولكل أمّة فيه رسوم، وخاصّة من ادعى منهم شريعة وأوامر له إلهية» (بداية فصل: «في المَنَاكح والحيض وأحوال الأجِنَّة والنفاس»)[83].

وربّما عوّض البيروني المنطلق القانوني- النظري- التعميمي، بقضية مُقارنية يدلف بها الخصوصيّة الهندية.

وهو يستعيد المنهج الرياضي بالإنسانيات (أو «دراسة أحوال الأمم والطبقات» بتعبيره)، بإكثاره من الجداول التوضيحيّة، كجدول المذنبات المتوسطة في الجوّ[84] وجدول البروج[85]. وهو يستعمل الرسم الهندسي، كما فعل في تناول جبل ميرو[86].

ولكنّه ليس متعسّفا في استعمال الأشكال والوسائل الرياضيّة، بل يستعملها عندما تبدو وظيفتها: «ويتعذّر في ما قصدناه سلوك الطريق الهندسي في الإحالة على الماضي دون المستأنف، ولكنّه ربّما يجيء في بعض الأبواب ذكر مجهول، وتفسيره في الذي يتلوه»[87].

أما على مستوى المقاربة، فقد كانت مقاربة البيروني مقاربة رياضية لأحوال الأمم، في البناء النظري، وفي أكثر الاستقراء الدقيق والتفصيلي.

كيفية التعامل مع لغة المبحوثين ونقلها للغة الباحث:

يجتهِدُ البيروني في اكتناه مَنطوق المبحوثين، فينقله حرفيّا إلى اللغة العربية، فهو« ذاكِرٌ من الأسماء والمُوَاضَعات في لغتهم ما لابدّ من ذكره مرةً واحدة يوجِبُها التعريف»[88]، ساعيًا إلى أن يكون النقل إلى الحرف العربيّ دقيقًا: «فنستعمِلهُ بعد غاية التَّوْثِقَة مِنْه في الكَتْبَة»[89].

أما إن كان اللفظ مشتقا «يمكن تحويله في العربية إلى معناه لم أمِل عنه إلى غيره إلا أن يكون بالهندية أخفّ في الاستعمال فنستعمله»[90]. وإن كان مقتضبا شديد الاشتهار، يستعمله «بعد الإشارة إلى معناه»[91].

وكل هذا التحرّي من خصوصيات العمل الإثنوغرافي العلميّ الجيّد. فبِاللّغة أساسًا يمكن الوصول إلى المبحوث ونِحْلَته.

الإخفاق الخلدوني في محاولة تأسيس الإثنوغرافيا والأنثروبولوجيا:

لَمْ يعترف ابن خلدون بالتأسيس البيْروني للعلوم الإنسانية، ممّا جرَّ ذلك إلى إخفاقه في تأسيس إثنوغرافيا علمية فضلا عن الأنثروبولوجيا. ولم يعترف بتأسيس أبي زيد البَلْخي لعلم النفس العلمي في كتابه مصالح الأبدان والأنفس، فكانت نتائجه في معرفة أخلاق الأمم غير علمية، وفي معرفة تطوّر أخلاق المدينة محدودة.

خصّص ابن خلدون المقدّمة الثانية والمقدّمة الثالثة والمقدّمة الرّابعة والمقدّمة الخامسة للبحث الإثنوغرافي، أو في «أحوال الأمم» كما كتب البيروني.

فبعد أن قسم الأرض إلى أقاليم، انتهى إلى أنّ «الإقليم الرّابع أعدل العمران، والذي حافاته من الثالث والخامس أقرب إلى الاعتدال، والذي عليهما والثاني والسادس بعيدان عن الاعتدال، والأوّل والسابع أبعد بكثير»[92]. وانتهى من ثمّة إلى أن ذلك يستتبع أن «العلوم والصنائع والمباني والملابس والأقوات والفواكه، والحيوانات وجميع ما يتكوّن في هذه الأقاليم الثلاثة المتوسّطة مخصوصة بالاعتدال، وسكّانها من البشر أعدل أجساما وألوانا وأخلاقا وأديانا. حتى النبوءات، فإنّما توجد في الأكثر فيها، ولم نقف على خبر بعثه في الأقاليم الجنوبية ولا الشمالية. وذلك أن الأنبياء و الرّسل إنّما يختصّ بهم أكمل النوع في خلقهم وأخلاقهم، قال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ (آال عمران، الآية 110)، وذلك ليتم القبول بها يأتيهم به الأنبياء من عند الله»[93]. وهكذا يُرادف ابن خلدون بين الاعتدال المناخي والاعتدال الأخلاقي،  ولكنّه لم ينتبه إلى أنّ داخل الاعتدال المناخي تفاوتًا، فكيف يكون العرب وأهل الشام الأعدل في شعوب المنطقة المعتدلة وأصحاب النبوءة فيها، في حين أنّ مناخ الجزيرة العربية دونها اعتدالا وأقواتا؟! وإذا كانت كثرة النبوءة في شعب دليل تفوق عدالي- أخلاقي، فسيكون اليهود أعدل شعوب الأرض وأعظمها أخلاقا، وهو أمر ليس بالضرورة صحيحا، فقد تكون كثرة النبوءات دليل تدهور أخلاقي يتطلّب كثافة في النبوءات، وقد تكون قلّتها دليل عافية أخلاقيّة نسبيّة. وربّما هناك نبوءات كثيرة خارج منطقة الاعتدال لم يسمع بها ابن خلدون، وقد يكونُ من اعتبره حكيمًا هو في الحقيقة نبيٌّ رسولٌ (بوذا، بَرْهَمَا، كُنفشيوس، زرادشت، ماني...)...

ولقد كانت آية سورة آل عمران تتناول ما يجب أن يكون في الأمّة، فجعلها ابن خلدون تتناول حالة قارّة، وهو أمر غريب يصدر من عالم دين مِثْلَهُ، وهو ينمّ عن نزعة تعصّب عنصريّ ونزعة تبرير لكلّ تاريخ الأمّة الإسلاميّة، ليصبح كلّ ما قامت به من خير أو شرّ كلّه، بما فيه الاستبداد وقطع الرؤوس والسّبي والنخاسة والتّفاوت «الاقتصادي» والجنسي (وهي أمور لا تختصّ بأمّتنا وحدها). فحتى الرعيل الأوّل كانت له أخطاؤه: ترك النبيّ وحده في صلاة الجمعة (كما في سورة الجمعة، الآية 11)؛ التّظاهر على النبيّ (سورة التحريم الآية4)؛ عدم الالتزام بأوامر النبيّ بمعركة أحُد الدّفاعية بحثا عن الاغتنام؛ قَتْلُ أسامة رجلا نطق بالشهادة لما رأى السيف فوق رأسه...

وهو يعتبر أهل هذه الأقاليم المعتدلة «أكمل لوجود الاعتدال لهم، فنجدهم على غاية من التوسّط في مساكنهم وملابسهم وأقواتهم وصنائعهم، يتخذون البيوت المُجدة بالحجارة المنمّقة بالصناعة، ويتناغون في استجادة الآلات والمواعين، ويذهبون في ذلك إلى الغاية»[94].

وهذا كلام غير علمي، بل محمول بنزعة التعصّب العنصري. فبهذا السياق، ستكون العرب (باستثناء اليمن) أقلّ أمم الاعتدال المناخي اعتدالا أخلاقيّا، لا لشيء إلاّ أنّهم في الأغلب أهل خيام و لا أهْل بيوت حجارة، وأصل آلات ومواعين.

وهو يؤكّد أن لدى أهل الأقاليم المعتدلة «المعادن الطبيعيّة من الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص والقصدير، ويتصرّفون في معاملاتهم بالنقدين العزيزين، ويبعدون عن الانحراف في عامة أحوالهم»[95]. وهو كلام غير علمي، لأننا نجد المعادن في كلّ الأقاليم، وربّما في الأقاليم وربّما في الأقاليم غير المعتدلة أغير. وليس كلّ شعوب الاعتدال المناخي تستعمل النقد، بل كان بعض العرب يستعملون المقايضة ولا يعني ذلك دونية أخلاقية أو نِحْليّة، وبعض المناطق غير «المعتدلة» مناخا سبقت في استعمال النّقد، ولا يعني ذلك تفوّقا أخلاقيّا في ذاته.

إنّه يرى أن أهل الأقاليم البعيدة «أبعد عن الاعتدال في جميع أحوالهم فبناؤهم بالطين والقصب، وأقواتهم من الذرة والعشب، وملابسهم من أوراق الشجر يخصفونها عليهم، أو الجلود، وأكثرهم عَرَايا من اللباس، وفواكه بلادهم غريبة التكوين مائلة إلى الانحراف، ومعاملاتهم بنفس الحجرين الشريفين من نحاس أو حديد أو جلود يقدّرونها للمعاملات. وأخلاقهم مع ذلك قريبة من خُلق الحيوانات العَجم، حتى ليُنْقَل عن الكثير من السودان أهل الإقليم الأوّل أنهم يسكنون الكهوب والغياض، ويأكلون العشب، وأنهم متوحشون غير مستأنسين يأكل بعضهم بعضا، ليعدهم عن الاعتدال يقْرب عرض أمزجتهم وأخلاقهم من عرض الحيوانات العُجم ويبعدون عن الإنسانية بمقدار ذلك. وكذلك أحوالهم في الديانة أيضا، فلا يعرفون نبوءة، ولا يدينون بشريعة؛ إلاّ من قرب من جوانب الاعتدال، وهو في الأقل النادر مثل الحبشة المجاورين لليمن (...) ومثل أهل مالي (...) المجاورين لأرض المغرب»[96]. وهو كلام غير علميّ، وليس مبنيّا على تقارير علمية أو مشاهدة، فحتّى العرب كان الكثير منهم يسكنون الخيام وبناؤهم الطين والقصب، وحَزَّ بعضُهُمْ رؤوسَ بعضٍ (دامت حرب داحس والغبراء قرابة قرن). ولقد كانت مملكة بينين ومملكة الزِّمْبابوي البعيدتين عن المناطق «المعتدلة ذواتي نقد وحضارة ومتفوقة على مُنْتَحل العرب قرونا طويلة. ولم تكن حضارة مالي مكتشفة القارة الأمريكية عالةً على حضارة بلاد المغرب، فلو كان ذلك، ما كانت بلاد المغرب التي عاصرت مَنْسا موسى ومَنسا سليمان تعيش الفوضى وأقلّ شأنا حضاريّا ومعاشيّا.

وإنَّ اعتبارَ ابنِ خلدون السّود وبيض الشمال الأقصى واسكندينافيا أقرب إلى «الحيوانات العُجم» وأبعد «عن الإنسانية» أمرٌ غريب من عالِم دينٍ مسلمٍ مثله يعلم من حِكْمَةِ نبيّه: «لا فرق بين عربي وأعجمي إلاّ بالتقوى»، ومِنْ قرآنه: ﴿وجَعَلناكم شُعُوبا وقَبَائل لِتَعَارَفوا﴾، وهل إنّ النبيّ لقمان[97] الأسود، الحبشي- اليمني، اقلّ شأنا من ابن خلدون الأبيض؟! ولقد استكثر العديدُ من «علماء» الدين ذوي النزعة التعصبية العنصرية على لقمان النبوّة، فكيف يكون في نظرهم إفريقيٌّ مُعَلِّما سماويًّا للعرب؟ فهم مثل ابن خلدون يُقصون القارة السوداء من إمكانيّة النبوّة والحكمة [﴿الكتاب والحكمة﴾ كما في القرآن الكريم]. ولقد استهزأ الكثير من المثقّفين بمحمد أبي الجُودِ بعامل لونه وأمّه النوبية.

يتبنى ابن خلدون التصنيف اليهودي للأجناس والأمم من خلال توراته واستتباعاته الإزرائية بمَنْ هم غير يهود، وخاصة السود[98]. فإزراء ابن خلدون بالسود يعود إلى «لعنة» نوح اليهودي على حام، الذي هو ليس أبا السود فقط بل أبا الكنعانيين/ الشاميين أيضا، لتجعل تلك اللعْنة كل حاميّ «عَبْد العبيد»[99]. وذلك التصنيف ما زال مستمرًّا لدى الكثير من أهل الأنثروبولوجيا المعاصرة في الغرب والعالم العربي («ساميون»/ «حاميّون»...)، وباقي العالم الذي لم تصنّفه تلك التوراة يُمْتَثلُ في فوضى تصنيفيّة أخرى... فقد تبنّى ابن خلدون روح ذلك التصنيف، وهو تحقير غير «السّاميّين» وغير المنتمين لجغرافيا النّبوّة «الساميّة» المزعومة التي قتلت المسيحانيّة والعرفانيّة ونَظَرَتْ للمِلّة العرقيّة انغلاقا وشعورا بالتفوّق. وليس في تقسيم البشر إلى منحدرين من أبناء ثلاثة لنوح إثباتٌ، خاصة أكثرية من كانوا على سفينته لم يكونوا من أبنائه.

خاتمــــة

لا يفوق نجاحُ التحقيق الهنديّ البيرونيّ نجاح إنجازه الآخر في العلوم الإنسانية، وهو العمل الإثنوغرافي ذو الملاحَظات الأنثروبولوجية الهامة: الآثار الباقية عن القرون الخالية، وهو عَمل مُقَارِن في ضَبْط مختلف النِّحل للزمن، «التواريخ التي يستعملها الأمم والاختلاف الراجع في الأصول التي في مبادئها، والفروع التي شُهورها وسِنُوّهَا، والأسباب الداعية لأهلها إلى ذلك»، مبتعدًا فيه عن «العادة المألوفة والتعَصب واتباع الهوى والتغالب بالرئاسة»[100].

لم تكن علاقة البيروني بالموضوع الاجتماعي الهنديّ متوترة، تشنجية، كما كان واقع ابن خلدون مع السلطة والمدينة والأعراب بالموضوع الاجتماعي المغربيّ، ممّا جعل الاستعداد للتخلّص من العقبة الإبستيمولوجية النفسية لدى البيروني أقوى وأوضح.

إنّ الشرح النفسي للمعرفة الاجتماعية لدى البيروني وابن خلدون والنّقد الابستيمولوجي لهما، يستوقفاننا على أطروحة تأسيس البيروني للعلوم الإنسانية في القرن الرابع هجريا، وسَبْقِهِ في ذلك الأطروحةَ الخلدونية، بل اكتشفنا أنّ عقبة الغرور العلمي لدى ابن خلدون جعلته لا يستفيد من اللحظة البيرونية، بل تجاهَلَهَا ولم يراكم عليها ليتجاوزها. وهذا ما حمّل اللحظة الخلدونية أخطاء ما كانت لتكون بدءا لو كان التأسيس الخلدوني فوق التأسيس البيروني. وتلك عقبة إبستيمولوجية مازلنا نراها في العلاقات العلمية الإقصائية بين الأطروحات العلمية العربية المعاصرة[101].

 

د. عادل بالْكَحلة

أستاذ تعليم عال، قسم علم الاجتماع،

كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، تونس

..............................

[1] . «الإمّة» هي المركز التوليدي في مُنتحلِ أو فكْر معَيّن : (راجع: الفيروز أبادي، القاموس المحيط، عالَم الكتب، بيروت، د.ت، المجلد4، ص76.

[2] . وقيدي (محمد)، فلسفة المعرفة عند غسطون بشلار، مكتبة المعارف، الرباط، 1984، ص 53.

[3] . وقيدي (محمد)، م. س، ص 64.

[4] . Bachelard (G), L’activité ratrionaliste dans la physique contemporaine, P.U.F, Paris, 1965,p 45.

[5] . وقيدي (محمد)، فلسفة المعرفة عن غسطون بشلار، مكتبة المعارف، الرباط، 1984، ص 53.

[6] . «الشَّرْح» في الاصطلاح العربي القديم هو Analyse (fr) ، «Analyze (eng)» في لغات أوروبا الغربية (شرح كتاب النفس عند أرسطو لابن رشد مثلا...)

[7] . الأَرَان هو dynamique (fr), dynamic (eng)، في لغات أوروبا الغربية.

[8] . تصرّفنا في ترجمة محمد وقيدي برجوعنا إلى الأصل، م. س، ص 11.

Bachelard, La formation de l’esprit scientifique, vrin, Paris, 1972, P13.

[9] . وقيدي (محمد)، م. س، ص 111.

[10] . م. س، ص 115.

[11] . م. س، ص 118.

[12] . وقيدي (محمد)، م. س، ص 119.

[13] . م. س، ص 119.

[14] . ترجمة محمد وقيدي، بتصرف منّي، ص 119، نقلا عن بشْلار، م. س، ص 97.

[15] . م. س، ص 130.

[16] . وقيدي (محمد)، م. س، ص 130.

[17] . وقيدي (محمد)، العلوم الإنسانية والإيديولوجيا، منشورات عكاظ، الرباط، 1988، ص 166.

[18] . Bourdieu (P.) et autres, le métier du sociologue, éd. Mouton, Paris, 1984, P36.

[19] . وقيدي (محمد)، العلوم الإنسانية والإيديولوجيا، ص 169.

[20] . وقيدي (محمد)، العلوم الإنسانية والإيديولوجيا، ص 168.

[21] . م. س، ص 169.

[22] . م. س، ص 169 أيضا.

[23] . م. س، ص 170.

[24] . وقيدي (محمد)، العلوم الإنسانية والإيديولوجيا، ص 166 أيضا.

[25] .وقيدي (محمد)، م. س، ص 174.

[26] . Bourdieu (P.) et autres, le métier du sociologue, p14.

[27] . البيروني (أبو الريحان)، في تحقيق ما للهند مِن مقولة، مقبولةً في العقل أو مرذولةً، عالَم الكُتُب، بيروت،1983، ص17، مثلا.

[28] . «الأمّة» في الأصل اللغوي هي «الجماعة» عامَّة [الفيروز أبادي، القاموس المحيط، عالَم الكتب، بيروت، د.ت، المجلد 4، ص 76)]. وبهذا الاعتبار تكون «الطبقة» أمّة أيضا.

[29] . البيروني، م. س، ص 17.

[30] . البيروني، م. س، ص 17.

[31] . م. س، ص 13.

[32] . م. س، ص 13 أيضا.

[33] . «السَّوْق» (بفتح السين) هو الاستراتيجيا في لغات أوروبا.

[34] . م. س، ص 13 أيضا.

[35] . م. س، ص 13 أيضا.

[36] . م. س، ص 14.

[37] . م. س، ص 14.

[38] . م. س، ص 14 أيضا.

[39] . م. س، ص 14 أيضا.

[40] . تِفْليس هي عاصمة بلاد الكُرْج (تِبيليسي عاصمة جورجيا).

[41] . البيروني، م. س، ص 15.

[42] . البيروني، م. س، ص 15 أيضا.

[43] . البيروني، م. س، ص 15 أيضا.

[44] . البيروني، م. س، ص 15 أيضا.

[45] . أركون (محمد)، نزعة الأنسنة في الفكر العربي: جيل مِسْكوِيه والتوحيدي، دار الساقي، بيروت، 1997، ص 314.

[46] . نسْبَةً إلى فخر الدولة البويْهي.

[47] . أركون (محمد

)، م. س، ص 613.

[48] . م. س، ص 620.

[49] . م. س،

[50] . ....ذلك موضوع كتابه : الجماهر في معرفة الجواهر، مكتبة المتنبي، القاهرة، د.ت.

[51] . الخويلدي (زهير)، «تحدي البيروني العالم لابن سينا» ضمن: (http/www.dorool.com, P40960) وكذلك: نصر (سيد حسين)، العلوم الطبيعية عند المسلمين، دار الحوار، اللاذقية، 2003.

[52]. البيروني (أبو الريحان)، في تحقيق ما للهند من مقولة، مقبولة في العقل أو مرذولة، عالم الكتب، بيروت، 1983، ص 13.

[53] . بن مبارك (علي)، «منهج البيروني في دراسة الأديان»، مجلة ثقافتنا، طهران، المجلد 4، العدد 16، 2008، ص 23.

[54] . البيروني، م. س، ص 17.

[55] . م. س، ص 17.

[56] . البيروني (أبو الريحان)، في تحقيق ما للهند من مقولة، مقبولة في العقل أو مرذولة، ص 21.

[57] . م. س، ص 16.

[58] . م. س، ص 16.

[59] . م. س، ص 17.

[60] . البيروني (ابو الريحان)، في تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة، ص 63.

[61] . البيروني  م. س، ص 16.

[62] . البيروني م. س، ص 21.

[63] . Grawitz (M.), Méthodes des sciences sociales, Dalloz, Paris, 1996, P17.

[64]  . م. س.

[65] . من تمهيد «علي صفا» لطبعة عالم الكتب، لـ«في تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة»، ص 11.

[66] . على عكس ابن خلدون الذي لم يعترف بفضل الآخرين على قطيعته، فلم يرجع إلى البيروني، وهو المشهور، ولم يرجع إلى أبي زيد البلخي.

[67] . البيروني، م. س، ص 15.

[68] . البيروني، م. س، ص 15.

[69] . م. س، ص 15.

[70] . م. س، ص 15 أيضا.

[71] . إيرَانْشَهْر مدينة فارسية، انتُزِع إسْم «إيران» الحديثة منها.

[72] . م. س، ص 15 أيضا.

[73] . م. س، ص 247.

[74] . م. س، ص 183.

[75] . من سوء الحظ أن نسجّل «اختفاء ما ألّفه الإيرانْشَهْرِيّ واختفاء (كتابه)، كتاب الهند المقصود، لمدة تزيد عن ثمانية عقود» [ابن مبارك (علي) «منهج البيروني في دراسة الأديان»، مجلة ثقافتنا للدراسات والبحوث، طهران، المجلد 4، العدد 16، عام 2008].

[76] . ربّما نستشفي هنا أبا زيد البلحي ذا القطيعة المؤسسة لعلم النفس التجريبي.

[77] . البيروني، م. م، ص 23.

[78] .البيروني، م. س، ص 23 أيضا.

[79] . تُسمّى «العزيمة» في لغتنا العربية المعاصرة «القرار»!! (وذلك ممّا يعني أمّيتنا اللسانية).

[80] . م. س، ص 70.

[81] . م. س، ص 87.

[82] . م. س، ص 185.

[83] . م. س، ص 428.

[84] . البيروني، م. س، ص 502.

[85] . م. س، ص 453.

[86] . م. س، ص 181.

[87] . م. س، ص 22.

[88] . البيروني، م. س، ص 22.

[89] . البيروني، م. س، ص 22 أيضا.

[90] . م، س.

[91] . ابن خلدون، المقدّمة، دار الجيل، بيروت، 2005، ص 85.

[92] . م. س، ص 85.

[93] . م. س، ص 85.

[94] . بان خلدون، المقدّمة، م. س، ص 85.

[95] . ابن خلدون، المقدمة، م. س، ص 85.

[96] . م. س، ص 89.

[97] . مثال ذلك أننا مازلنا إلى اليوم نهمل درس «أبو القاسم حاج أحمد» في العالمية الإسلامية الثانية، فهما ونقدا فتجاوزا، رغم مرور العقود الطويلة على إنجازه العلمي الهامّ...

[98]  نجد التصنيف اليهودي للأجناس فس سِفر التكوين (9/18).

[99] . الكتابُ المقدَّس، كتاب الحياة، القاهرة، 1994، «سِفْر التكوين»، 9/20.

[100] . البيروني (أبو الريحان)، الآثار الباقية عن القرون الخالية، دار بِيبِلْيون، باريس، 2009، (المقدمة، ص3).

[101] . مثال ذلك أننا مازلنا إلى اليوم نهمل درس «أبو القاسم حاج أحمد» في العالمية الإسلامية الثانية، فهما ونقدا فتجاوزا، رغم مرور العقود الطويلة على إنجازه العلمي الهامّ...

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم