صحيفة المثقف

صلاح حزام: العد التنازلي ومقولة: إعمل لدنياك كأنك تعيش ابداً

صلاح حزامهنالك مؤشر أحصائي حياتي يسمى: العمر المتوقع life expectancy

والمقصود به طول العمر المتوقع للرجل والمرأة كل على حدة، ولهما معاً، في بلد معين .

وهنالك جداول احصائية خاصة يتم استخدامها لحساب العمر المتوقع .

وهو مؤشر مهم على تطور الخدمات الصحية واورتفاع مستوى المعيشة في بلد معين في حالة ارتفاعه، والعكس في حالة انخفاضه ..

وفي كل الاحوال هنالك نهاية لحياة الانسان طال او قَصُر.

فاذا بلغ الانسان عمر ٦٥ سنة والعمر المتوقع للرجل في بلده هو ٧٠ سنة، فهذا يعني انه قد تبقّى له خمس سنين فقط فوق الارض !!!

(هنالك قول ممتع للاديب الكبير سيوران ورد في كتابه " مثالب الولادة" في الصفحة ١٤٧، يقول فيه: عقد الايجار الذي يربطنا بالحياة يوشك على النهاية).

وهذا شيء مُتعِب ويجعل الفترة الباقية فترة انتظار مؤلم . وهي كما تسمى فترة العدّ التنازلي!! او كما تسمى بالانكليزية : countdown

يعني يستيقظ الانسان في الصباح ويطرح يوماً جديداً مما تبقى له من فترة استمراره بالحياة ويقوم بمراجعة حساباته ليتأكد مما تبقى له من وقت.

انها تشبه عملية انتظار المحكوم بالاعدام وينتظر يوم التنفيذ !!

دينياً، يُقال ان الله سبحانه وتعالى قد أخفى موعد موت الانسان لكي يجنبه فترة العدّ التنازلي ..وبذلك انقذه من عذاب رهيب .

مع انه قد يموت طفلاً او شاباً لكنه يعيش كما لو انه خالد .

مقولة معروفة للامام علي ابن ابي طالب، تقول: إعمل لدنياك كأنك تعيش ابداً، وأعمل لآخرتك كأنك تموت غداً ..

فيها توازن جميل بين متطلبات الحياة والموت...

العامل المهم الذي ينقذ الانسان من دوامة العد التنازلي هو ان يكون لحياة الانسان معنىً وهدف، وهذا هو المقصود بالقول: إعمل لدنياكَ كأنك تعيش ابداً ..

حياة تافهة وبلا معنى ولا أهداف كبيرة ( تتجاوز حاجات ماتحت الحزام) هي حياة عقيمة ومملة ومُضجِرة .

ولكن السؤال المهم هو: هل يستطيع الانسان دائماً ان يجعل لحياته معنىً وأهداف كبيرة بغض النظر عن البيئة والظروف المحيطة به؟

اعتقد ان ذلك غير ممكن دائماً، لأن الانسان قد يقع ضحية ظروف قاهرة وجبّارة تسحقه لاسيما اذا كان من أصحاب الارادة الضعيفة، اذ قد يفضل الموت على الحياة وقد ينتحر .

نشرتُ موضوعاً قبل أشهر حول كتاب الدكتور فيكتور فرانكل المعنون : بحث الانسان عن المعنى:

Man’s search for meaning، والذي هو طبيب نفسي نمساوي وكان معتقلاً في معسكر اوشفيتز النازي في الحرب العالمية الثانية وقد قضى فيه ثلاث سنوات.

يتحدث الدكتور فرانكل عن مشاهداته الشخصية وتجاربه المباشرة مع حالات مختلفة من استعدادات البشر للصمود امام ظروف مدمِّرة كتلك التي عاشوها في المعتقل النازي الرهيب.

اكثرية المعتقلين فضّلوا الموت على الاستمرار في هذه الحياة (اللاحياة)، والقلة ومنهم الدكتور فرانكل نفسه تعلقوا بالأمل والمعنى لكي يتغلبوا على الظروف ويستمروا بالعيش.

اردت من ايراد ذلك المثال، التعامل الواقعي مع الموضوع والابتعاد عن المثالية والخرافة في التحليل.

فليس هناك ماهو اسوأ من تقديم تحليل غير واقعي يطالب الناس بأمور مستحيلة ..

الظروف لها تأثير كبير وبعض الناس لايوجد لديهم مبرر في ان يكون لديهم أمل.

السؤال المهم: هل ان جعل الحياة ذات معنى، هو مسؤولية شخصية يتحملها الفرد؟ ام ان هنالك مؤسسات يمكن ان تساعده في ذلك (العائلة او المجتمع او الدولة بمؤسساتها المختصة)؟

طبقاً لفلسفة الاقتصاد الحر الطبيعي التي جاء بها آدم سمث ولازال يتبناها بدرجات مختلفة العالم الرأسمالي، يعتبر الفرد هو المسؤول عن ذلك . وهنالك من يرى ان الدولة تتحمل مسؤولية معينة في جعل حياة مواطنيها ذات معنى .

يخشى منظرو الرأسمالية ذات النظام السوقي الحر ان ذلك السلوك من قبل الدولة يشجع الاتكالية ويقتل روح وغريزة البقاء لدى الأفراد.

ولكن ماذا تفعل الدولة عندما يجد الانسان نفسه في نفس ظروف اعتقال الدكتور فرانكل؟ لاشيء طبعاً.

ماذا لو كانت الدولة مسؤولة عن اشاعة الاحباط العام في المجتمع؟

تبقى مسؤولية الفرد اساساً، ثقافته وايمانه بقيم معينة ومدى ادراكه لحجم المشاكل التي يواجهها.

 

د. صلاح حزام

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم