صحيفة المثقف

محمود محمد علي: وداعاً للإرادة الدولية في حل أزمة سد النهضة الإثيوبي!

محمود محمد علييخطئ من يظن أن الحلول التفاوضية هي السبيل الأسرع لإيجاد تسوية سياسية تنهي أزمة "سد النهضة" الاثيوبي، فالخيار التفاوضي هو الخيار الأكثر تحضراً وتحقيقاً للأمن والسلم الدوليين، باعتباره أحد أفضل مخرجات العلاقات الدولية، ولكنه ليس الأسهل ولا الأسرع في كل الأحوال.

ومنذ إعلان إثيوبيا بدء عمليات تشييد سد النهضة، دخلت القاهرة والخرطوم من جهة، وأديس أبابا من جهة أخري في مفاوضات مارثونية علي أمل الوصول لإتفاق يساعد إثيوبيا علي إتمام مشروعه، ويجنب مصر والسودان أضرارا متوقعة .. لكن هذه المفاوضات وعلي مدار عقد كامل من الزمن لم تشهد سوي الخلافات والمماطلات من الجانب الإثيوبي .

سد النهضة يقع علي مجري النيل الأزرق علي مساحة تبلغ 1800 كم مربع ويبعد بـ 20 كيلو متر عن الحدود السودانية، ويعد سد النهضة السد الأضخم في إفريقيا، إذ يبلغ ارتفاعه 170 مترا، وتقدر تكلفته بنحو 4.7 مليار دولار .

أما السعة التخزينية للسد فتصل إلي 74 مليار م3، وهي كمية مياه تعادل حصة مصر والسودان معا من مياه النيل السنوية .

إثيوبيا أكدت أكثر من مرة أن هدفها من بناء السد هو توليد الطاقة الكهربائية، وهو ما لم تعترض عليه أبدا مصر، وفي مارس 2015 توقع الجميع انفراج الأزمة، والوصول إلي اتفاق ثلاثي بعدما وقعت كل من مصر والسودان مع إثيوبيا علي وثيقة إعلان مبادئ سد النهضة في الخرطوم، وهي الوثيقة التي تضمنت تعهدا إثيوبيا واضحا بعدم الإضرار بدولتي المصب .

إن البلدين مصر والسودان عندما وقعتا على اتفاق المبادئ مع إثيوبيا كان المقصود أن هناك نية مشتركة لاستفادة إثيوبيا من السد في توليد الكهرباء، شرط أن يكون هناك اتفاق قانوني ملزم بعمليات الملء والتشغيل لكن إثيوبيا واصلت تعنتها، وقامت بالملء الأول، ثم تخطط للملء الثاني، بعيدا عن موافقة البلدين أو التنسيق معهما، وما حدث العام الماضي في الملء الأول، لا يمكن مقارنته بما يمكن أن يحدث في الملء الثاني

لكن الخلافات عادت من جديد بعدما أعلنت أديس أبابا إكمال 70% من أعمال السد في مايو 2016م رغم استمرار أعمال المكاتب الاستشارية المكلفة بالدراسات الفنية والأضرار المحتملة من بناء وتشغيل السد .

وبعد عام وتحديدا مايو 2017م انتهت هذه المكاتب الاستشارية من تقريرها المبدئي حول السد، وهو التقرير الذي وافقت عليه مصر حينها، بينما رفضته إثيوبيا، ليستمر الخلاف وتتوالي جولات التفاوض برعاية أمريكية تارة، ورعاية إفريقية تارة أخري حتي وصلنا اليوم إلي الكونغو في أمل الوصول إلي حل لا يضر بدولتي المصب، فهل تتم مباحثات كينشاسا الحالية لكونها تمثل مباحثات الفرصة الأخيرة ؟

للأسف لقد فشلت مفاوضات كينشاسا وذلك لأن المطلب الإثيوبي هدفه النهائي تسعير المياه، وهي محاولة حاولتها إثيوبيا في عام 2007م، وأحبطتها مصر في إطار الأمم المتحدة .. ببساطة الإثيوبيين يرون أن المياه يجب أن تعامل معاملة النفط طالما العرب يملكون النفط ويبيعونه، فنحن نملك المياه ولا بد أن نبيعها، هذا هو الهدف الاستراتيجي الإثيوبي، فقد حاولوا عبر اتفاقية عانتيبي فلم توافق دولتي المصب والآن يحاولوا عبر الضغط بسد النهضة، وهذا توجه استراتيجي مضر للعالم كله .. في إطار الأمم المتحدة وقعت منذ الشهور الماضية 115 دولة علي أهمية الحياة للحياة البشرية .

إن التعامل مع المياه علي أنه سلعة مسألة في منتهي الخطورة علي الأمن الإنساني، وهو أداء غير مطروق عالميا، ويجب أن يواجه عالميا، ,أيضا في إطار العشر سنوات في العقد الماضي الذي تم فيه هذه المماطلة والمراوغة وشراء الوقت واللغب بالأهداف، لا يجعل هناك أي مصداقية للطرح الإثيوبي الان .

ما الذي أدرانا إذا واقفت إثيوبيا علي وضع إطار ملزم أن تلتزم إثيوبيا بتعهداتها، وهذا مستحيل، وبالتالي إثيوبيا لن تلتزم، وهذه واحدة، والأمر الثاني أن مسألة تقسيم مياه الأنهار الدولية يرتبط بمبدأ هو أن مجمل الموارد المائية في دولة ما، فإثيوبيا لديها 900 مليار متر مكعب من المياه، والضلالات الإثيوبية التي تقول أن دولتي المصب وراء الظلام الإثيوبي، فهذا غير صحيح .. إن ما وراء الظلام الإثيوبي هي الحروب المتوالية بين القوميات الإثيوبية، فنحن أمام دولة قومياتها لا تستطيع أن تتعايش علي مدي القرن الماضي، فالحرب الأخيرة في تيجراي تم ضرب محطة كهرباء من قبل أديس أبابا .

وهنا قد يتساءل البعض : إذا كان هذا الطرح من قبل إثيوبيا قد يقلل من مصداقيتها، فكيف يؤثر ذلك علي عدم تعاطف المجتمع الدولي الذي كان ينظر إلي إثيوبيا علي أنها تطالب بحقها في التنمية وتستغل مواردها من سد النهضة؟ .. الآن نحن نتحدث عن مبدأ آخر وهو تقاسم مياه نهر النيل؟

الحقيقة إن التعنت يضرب إثيوبيا في مقتل، فإثيوبيا قد ضربت هذه المصداقية مع السوادان، حيث نجد أن السودان قد تحول موقفه منذ فبراير 2020م حينما تخلت إثيوبيا عن التوقيع علي اتفاقية واشنطن، وأصبحت السودان تشعر أن الإثيوبيين يتلاعبون بها، فيضرب مصداقية إثيوبيا كدولة ويجعلها في تقديري دولة مارقة، غير خاضعة لا للقانون الدولي ولا تأخذ بعين الاعتبار اعتبارات الأمن الإنساني لملايين من البشر يمكن أن يعطشوا، وتتعامل بالمخالفة مع القانون الدولي في نهر مشترك .. كل هذه الأمور تجعل مصداقية إثيوبيا، ومن يقفون وراء إثيوبيا في هذا الموقف، محل تساءل وعلامة استفهام كبيرة فيما يتعلق بمدي قدرة الأطراف علي أن تحافظ علي المصالح المصرية – السودانية.

ولذلك أنصح أنه مطلوب الآن تحرك عربي في إطار الجامعة العربية، وأن يخاطب هذا التحرك مجلس الأمن، ويخاطب عواصم العالم، وخصوصا الإدارة الأمريكية والإدارات الأوربية، لأن عدم الاستقرار في منطقة حوض النيل، والبحر الأحمر، هو يضر بمصالح جمة، فكل طرف له مصلحة في الإقليم عليه ان يتحرك، فالمسألة ليست مسألة مياه .

إن الملء الثاني بلا معلومات للسودان علي وجه الدقة يوقف كل محطات المياه، يوقف كل محطات توليد الكهرباء .. لماذا يقبل الشعب السوداني وحكومته مثل هذا التحدي الكبير الذي تفرضه إثيوبيا ؟ .. هذا سؤال، وهذا سؤال أيضا للمجتمع الدولي الذي يمارس ضغوطا من أجل حقوق الإنسان  .. في هذه المرحلة الأمن المائي من أهم حقوق الإنسان في هذه المرحلة، وذلك ما قالت السيدة مريم الصداق وزيرة خارجية السودان لربع مليار من البشر .

وقناعتي أن الدبلوماسية المصرية- السودانية تحتاج خلال الفترة القصيرة المقبلة إلى تكثيف وجودها في الاعلام الدولي، لأن هناك شق مؤثر يتعلق بكسب معركة الرأي العام العالمي في هذه القضية الوجودية، فالإعلام المصري في معظمه يتحدث إلى الداخل المصري، وهو أمر حيوي وضروري لضمان بناء رأي عام داخلي واع يساند قيادته، ولكن من الضروري كذلك نقل أبعاد هذه القضية إلى العالم وشعوبه. كما اعيب أيضاً على الاعلام العربي في معظمه عدم وضع هذه القضية التي تخص نحو 150 مليون عربي في مصر والسودان على قائمة أولوياته، بل يتابعها كما يتابعها العالم الخارجي وكأنها لا تخص هذه الملايين المعرضة للهلاك والجوع في حال جفاف مياه النيل لا قدر الله وذلك حسب قول سالم الكتبي في مقاله بعنوان الحلول الدبلوماسية وأزمة سد النهضة.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم