صحيفة المثقف

سامي عبد العال: لا نظرية حول المرأة

سامي عبد العال"المرأةُ لو أرادت هزيمةَ الأقدارِ لفعلّتْ".. عبارة خطيرة فلسفياً لنيتشه. ولكن ليس هناك شيءٌ أقل من دفع معناها إلى أقصى مدى، في اشارةٍ إلى روح الأسطورة داخل كيانها الأنثوي. والمعنى يمثل التواري الخلاّب لما هو خبْيء في إنسانيتها الثرية: هذا اللا متوقع، المستحيل، العجائبي، المذهل، الخُرافي.. إلى أخر التداعيات الحرة للخيال والرغبة والفعل. فلن تكون المرأة نظريةً في الفكر ولا حقيقة مادية قابلة للمعرفة. يبدو إنَّها استعارات مراوغة، صور مخاتلة فوق كل التحديدات، أي تمثل نزوعاً نحو الانطلاق والانعتاق والتحرر. وذلك بحكم طبيعتها لا بمجرد مساحيق خارجية. وربما تأتي من زاويتها عواصف لا يتخيلها "عاقل" بالتقنيات الفلسفية أو الاجتماعية. وقد تسقط تحت أقدامها جميعُ التصورات المسبقة رغم أنَّها كانت أول ضحاياها.

أبرز ما وقعت في حبائله المرأةُ هو نظريات النسوية ذات البعد الأيديولوجي. لأنَّها لم تحررها، بل وضعتها تحت الوصاية المقلوبة. أي بدلاً من هيمنة الذكورة الخشنة والعارية على كيانها، جاءت النظريات النسوية (بإبداع الذكور الإناث) لتضع المرأة في إطار وثير الجانب. واسمت نفسها توجُهات نسوية تحت موافقة النساء... وكأنَّ هناك توجهات أخرى ذكورية تترصدها عن كثب. وبالتالي تغذي النظرية أو الأخرى بعضاً من غرورهن المراق، فالنظرية النسوية باختلاف أشكالها لا تقف إلاَّ على ثنائيات: الذكر/ الأنثى، المرأة / الرجل، الحب/ الكراهية. وبناء على ذلك أخذت في تعريتها وجعلتها نهباً لسلطة الأديان والمجتمعات، كما أنّ صيغ النظريات عنف مغلَّظ بحماية معرفية غير قابلة للكسر.

حيث تُوْضع الأنثى في أغلفة نظرية مجازية كنوع من التكفين والدفن العلمي. لكن يأتي ذلك باسم التحليلات والآراء والانتقادات المتظاهرة بالحياد تلك المرة. فالمعرفة الفلسفية تحدد ماهية النساء كموضوع يفتقر لأية مفاجأة، لأي تمرد، لأي خروج من الأطر الموضوعة. تسلبهن ثراءً متنوعاً لا حدود له. ثم تستبدله بمعايير ومطالب تفقد بريقها عند الحد الأدنى من وجودهن. إنَّ المفاهيم المجردة تربط المرأة بالأنوثة الأقل من الذكورة. وهذا لا يعود إلى الطبيعة، بل إلى الثقافة.

والنظريات تقول أيضاً: ها أنْتِ سيدتي (كما أنْتِ)... بعبارة واضحة: إليك أيتها المرأة ماهيتكِ التي لا تتغير. أنت الجانب الضعيف حرفياً لا شيء سواكِ. لتعبر لها عما يكمن في أعماقها من أشياءٍ مفترضةٍ. بينما وجوه المرأة ليست كذلك بالضرورة. كما ترى الفرنسية سيمون دي بوفوار أنَّه: " لا تولد المرأة امرأةً بذاتها، إنما تصير إلى ذلك من خلال المجتمع".

وفوق ذلك تجمد بعض النظريات وجود المرأة كأنَّها مومياء في هيكل تاريخي واحد. فجاءت الأفكار السابقة عنها هي البديل غير العضوي لإمكانية فهم النساء كما يُراد لهن. وتدريجياً تختفي المرأة كعلامة وانكشاف لصالح المرأة المرغوبة أو المكروهة اجتماعياً. حتى أنَّ أغلب النساء قد لا يتعرفن على صورهن في مرآة الآخرين. أمام الناس يجب عليهن أن يرتدين أزياء ثقافية واخلاقية فُصلَّت إليهن من قبل. لم يتدخلن في شيء: أجسادهن، حياتهن، زواجهن، مصيرهن، رغباتهن، علاقاتهن، مستقبلهن، أحلامهن، أخيلتهن. أشياء لها إطار تمَّ انتاجه وتسويقه وترويجه كما يريد نظام المجتمع. إنها الصورة البرّاقة للمرأة من الخارج والكئيبة إلى حد الغسق في داخلها!!

يرى اوسكار وايلد: النساء وجدن لنحبهن فقط لا لنفهمهن إذ يستحيل فهم المرأة كموضوع للتفكير". ومع سلبية بعض هذه الآراء إلاَّ أنَّ أحد أسباب مشكلة المرأة فعلاً هو محاولة عقلنتها. أي وضعها في اطار عقلاني rational framework يتماشى مع القالب المفهوم والمدّجن في الحياة الاجتماعية. عندئذ تقابل المرأة أشباح الذكورة أينما ذهبت في جوف العقلانية. لأن تاريخ العقلانية هو تاريخ الذكورة منحازةً إلى ذاتها على الأصالة. سقراط قديماً قال: " لا تخفْ من كراهية الرجل.. ولكن تجنب حب المرأة". وهي فكرة ترمى أبعد مما تعبر لأول وهلة. فكراهية الرجل يمكن التغلب عليها ويمكن مقارعة الرجال بالقوة. أمّا الحب الأنثوي، فقد يأتي إلى عقلك بما يناقضه من الأساس. كما أنه ينتهي إلى أسر روحي وعاطفي لا تجد فكاكاً منه. وحب المرأة قد ينقلب إلى كراهية لا تبقي ولا تذر. هذا هو الغالب على صورة النساء في الخيال الشعبي.

كما أن الغرائز والرغبات والأهواء كانت دوماً في تراث المذاهب الفلسفية والنظريات والأيديولوجيات ضد العقلانية. لقد ربط ديكارت الأهواء- مثلا- بحيل الشيطان الذي يتلاعب بالإنسان، جاعلاً إياها مرحلة عابرةً وصولاً إلى الحقيقة. حيث يجب إظهار وضوح العقل وصرامته وتنصله من كافة المنغصات الأخرى. وهذا الرأي يعبر عن اقصاء لما هو غامض. وكأنه يطرد الهوى والحب- وهذان يرتبطان بالأنوثة- من مملكة العقل، وأنهما غير ضروريين مهما حاولا التسلل إلى ساحة الفكر.

وذلك كان وراء وضع المرأة نقيضاً للرجل: هذا بحكم أن الأهواء عكس التعقل. فهي ليست طرفاً في صراع حتى يناصبها الرجال العداء. لكنها دوماً حضور وغياب، تناقض ومفارقة وهذا بكامل كيانها. المرأة لا تتجزأ، ولا تتفصل عن بعضها البعض. أي هي كائن إنساني ضد التبعيض والتقسيم. وإذا كانت لتأتٍ هنا أو هناك، فهي كاملة تماماً. إن الوجود الحر لها ينشر مساحات الفراغ في حضورها. يرى جان جاك روسو أن المرأة لا تفصل تفكيرها عن رغبتها، أو هي رغبة مفكرة حتى الثمالة، لأنها " تعتقد بناء على ما تُحب". فالعالم لديها غني وطافح بتفاصيله وتكوينه وآثاره أيضاً. ولذا تشكل المرة عادةً ذاكرة حية ضد النسيان. هي الاستثناء الوحيد تقريباً: ذاكرة لا تُنسى ولا تُقصى بالوقت عينه. ولهذا كانت هي التهديد- المخيف عن قصدٍ أو غير قصدٍ- لكل الأنظمة الاجتماعية المتخلفة. فأينما حلَّت المرأة، تفتح مجالاً للغة، للمعنى. ونحن نعرف أن سلطة الخطاب في المجتمعات الإنسانية لا ترضى عن المركزية بدلاً. من هنا كانت الأنثى خيطاً في هذا الخطاب، مساراً هامشياً، لكنه يفتتح عمل كل شيء سواه.

ذلك بفضل أنها كأنثى تحمل زمناً في حالة كثافة سرديةٍ. وبالتالي كم ارتبطت النساء بفكرة الحكي وصياغة القصص والاحاجي والألغاز وسرديات الخيانة والإغواء. في الثقافة العربية كانت شهرزاد.. هذا النموذج للمرأة التي تُعطل المصير وتطيل الزمن وتقرر نهايات الأشياء. وتجاوزاً ليست شهرزاد هي الكيان المغلوب على أمرة. بل هي القص الغرائبي ذاته. حبكته الدرامية رغم أنها تنتظر في سكون اللغة. لأنها حملت الأعماق النائية لتأجيل الرغبة إلى مالا نهاية. وهي أيضاً مقدار التشويق الفائض نحو المزيد. وكل أدب لا ينقل هذا الطفر بمضامين المرأة ليس أدباً. لأنَّه لم يلامس قاع الرغبة الصامتة ضمن السرد. وتبدو المعرفة (حتى عاجزة) عن نقل إيقاع المرأة العصي على التجلي. مثلما هي دلالة التخييل بجميع ألوانه المجنونة. فالأخيرة هي الحياة، أي الاغواء المتوالي للمجهول وخلق الاشياء من غموضه.

ومن هنا لم يعد ليعرف المجتمع ناهيك عن الرجال كيف يسيطرون عليها. وذلك بتزامن مقولتي (الحضور والغياب) دون انفصالٍّ بينهما. فعلى من يتصور النيل من المرأة أن يكف فوراً عن مطاردة أشباحه قبل سواه. لأنه في الحقيقة يطارد وجوده. كما أنها ليست آخرَ بالمعنى التقليدي. بما يشيء كونها خارج الذات. فيتصور أنها ضحية ومفعول بها على الوجه الأقرب. إذن من يستطيع معرفة النساء؟ ومن بإمكانه تحديد موقعهن كأنَّه جهاز حداثي لاقط؟

ليست الفكرة هنا سخرية ولا تضخيماً لما هي المرأة. لكن الاشارة محتملة إلى تشيؤ الأنثى كما في المجتمعات الشرقية. فهي (متاع الحياة الدنيا ) بمنطوق التراث الديني. وبالتالي منذ اللحظة الأولى هي سقط المتاع. وإذا كانت الحياة دنيا (في وضع مُحقَّر بالأساس) فكيف بمن هي متاع المُحقَّر؟ بالتأكيد ستكون أقل من الشيء المحقر كما هو شائع. حيث تخضع اجتماعياً إلى مراقبة جمعية لا تترك في هيئتها صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها.

والتراث الديني المشار إليه يكرر معطى ثقافياً واجتماعياً. كأنه يؤكد ا =أ (أ هو أ) على طريقة قانون الهوية لدى أرسطو. لتسوِّق الثقافة قولاً كهذا بتراكم للأفعال والتصورات العنيفة حول النساء. مع أنهن قادرات على اتاحة زوايا مختلفة في الحياة الانسانية. فهن كائنات غير قابلة للتصنيف بسهولة كما قلت. المرأة خارج التوقعات: إرادتها، صورتها، أساليب تواصلها. جميع ذلك يجدد سؤالاً: من هو الرجل؟ كيف سيتصرف إزاء نفسه؟

كان نيتشه محقاً عندما قال: "المرأة لا تريد الحقيقة، الحقيقة أخر همها.. لا شيء تمقته المرأة وتعافه أكثر من الحقيقة". لديه كل الحق وإن كان يقصد التقليل منها. فالمرأة أبعد من الحقيقة. لأن الأخيرة هي الشكل العيني لمفاهيم العقل والمعارف التقليدية.. كيف ستكون موضعاً لعناية المرأة؟ لا تتطابق المرأة مع نفسها على نحو ثري وخارج السيطرة، فلماذا سيكون مطلوباً تطابقها مع شيء خارجي؟! بالتأكيد سيكون التطابق دخيلاً عليها بينما جوهرها هو الاختلاف. ولهذا أشار نيتشه أيضاً أن:" الحقيقة أنثى وعلى المرء ألاَّ يغصبها". أي الحقيقة غير ما نتصور عنها، أي غير ما تزعم. هي حالة خاصة تحت علامات الخطر. يجب وضعها بين قوسين (الأبوخية على طريقة هوسيرل).

والنظرة البعيدة أنَّ المرأة هي زخم الحياة. فهي الوجه الثري لما نحن عليه. رغم الحروب الاجتماعية والثقافية الطاحنة حولها. بدءاً من التقاليد وانتهاءً بتدجينها تحت مظلة الديانات بلافتات عديدة.

 

سامي عبد العال

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم