صحيفة المثقف

أياد الزهيري: الإله في الأديان والأقوام البدائية (2)

اياد الزهيريأتضح لنا من خلال الجزء الأول من بحثنا (الأله في الأديان والأقوام البدائية – الجزء الأول)، وهذا لم أأتي به من عندياتي، وأنما هي نتيجة لبحوث ودراسات تاريخية قام بها الكثير من الباحثين، وهي أن أنسان هذه الأقوام قد عبدَ العديد من الألهة بصور محسوسة ومعالم ملموسة، وضمن أطار ما يحيط به من كائنات وظواهر كونية، ولكن تبين أنه يضمر في نفسه أنه يعبد ألهاً كونياً، عظيماً، ذو قوة، وقدرة خارج المألوف، وأنه ذو طبيعة لا تمت لطبيعة الكون المادية، ولا يخضع لقوانين المخلوقات، أنه عالم ما ورائي، وقد عرفنا أن ألانسان البدائي ومن كل الأقوام، وفي كل أتجاهات الأرض شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، قد أطلق على الألهه الكوني أسماء مثل (لروح العظيمه، الأله الأعلى، النياما، القوة الأحيائية، القوة المقدسة..) ولكن وكما قلنا سابقاً أن الأنسان أسير قدراته المحدودة، وتجاربه القليلة، وما جُبل عليه من طبيعة من ميل للمحسوس، لذى حاول أن يتخيل هذا الخالق الخفي والمجهول كنهه،أن يجعله يتجلى في بعض مخلوقاته من مظاهر كونية مختلفة، حية، كبعض النباتات، وبعض الحيوانات، وحتى بعض البشر وذلك بسبب حسيتها ووجودها المادي الذي تألفها حواسه، بالأضافة الى قصوره بالتحول من المحسوس الى المتجرد، ولكنه أدرك، وبفعل فطرته وما حمله عقله من مسلمات المنطق العقلي أن أكتشف أو توصل من حالة المعلوم الى ما هو مجهول، وهذا تم من خلال ما أستنتجه بفعل أدوات العقل القائم على قدرة ربط العلاقات، والأسباب بمسبباتها، فكانت طفرة نوعية للانسان في عالم التفكير. بالحقيقة كان هذا الأستنتاج يسجل أول تفكير فلسفي للأنسان البدائي، والتحول الأول في الأنتقال من المادية الى الميتافيزقية . أنه خرج من المحدود الى اللامحدود، ومن المادة الى ماوراءها، وأنها محاولة جريئة بتجاوز موانع المادة الى ما وراءها، وهذه صفه أنسانية لا يتمتع بها غير الأنسان على سطح هذا الكوكب.

بالرجوع الى أصل البحث وفي الجزء الأول منه يتبين لنا ومن خلال الأبعاد الثلاثة (الخوف والرجاء والبحث عن البداية والمصير)، كانت هي الأصل في توجهه نحو الدين ليتمكن من خلاله معرفة الهدف وأدراك الغاية النهائية لهذا الوجود، وتبين لنا أنه توصل وبفعل فطرته النقية الى الوجود المقدس في عمق الأشياء المحدودة من خلال ما يحل بها من قدرة خفية تكون هي السبب والمحرك لكل هذا الوجود الكوني، وأن هذه القوة تمثل له حقيقة غامضة ولكنها تتجلى بما هو محسوس من ظواهر ظاهرة للعيان. هذا التفكير العابر للمحسوس هو الذي دعى بالهنود الحمر في أمريكا في الزمن الغابرأن يعتقدوا بما يسمى (بالكائن الأعظم) أو( الروح العظيمه )، وأنهم لا يستطيعوا تشخيصها، فهي قدرة بالمعنى المطلق، ويطلقوا عليه أسم الواكان، ومن القبائل التي تحمل هذا الأعتقاد هم قبيلة الماندان والهيداستا والداوكوتا والأيوا،وهو في نظرهم قوة فائقة الطبيعة، وهو أله السماء والحاكم للكون، وأن كان في نظرهم أن هناك سلسلة مراتب للألهة ولكن في سلم هرمي يتبوء الكائن الأعظم رأس هذا الهرم، وأن هذا الكائن الأعظم هو محور العالم، وهو من يرفع السماء ويثبت الكون، وما يقدمونه من طقوس فيها التعاويذ والأبتهالات والرقص الا تقرباً لهذا الكائن الخفي عن أنظارهم . ولو أنتقلنا الى مجموعة بشرية أخرى بدائية في القطب الشمالي، نرى هناك ممن يتمسك بما يسمى بالشامانية، وهو أعتقاد يؤمن بوجود الأرواح، وحلولها ببعض الكائنات وخاصة الدببة، وهناك مجموعة منها تسمى بالألغونكية تؤمن أيمان قوي بأله عليّ، ولو أنتقلنا الى جماعات في أمريكا الشمالية والتي تسمى بالشوشونية والفوسيوية والنومية نراهم في مواسم الحصاد يؤدون طقوس الرقص التي تُقدم فيها آيات الحمد للكائن الأعظم، وهذا ما يذكره الأستاذ الباحث فراس السواح في موسوعته تاريخ الأديان في جزءه الثاني. ولكي نثبت تعميم هذا المبدأ نذهب بعيداً نحو الجنوب الأمريكي في كاليفورونيا، فنجد الأقوام البدائية من شعوب  في Ake Hukrant أكده الباحث البوبيلو يؤمنون بكائنات خارقة للطبيعة تكون بعيدة عن تصور العقل كتابه أديان أمريكا الشمالية . أن طبيعة البحث تجبرنا بالأنتقال الى موقع أخر في قاره أخرى لأثبات شمولية الرؤيا، بل وكونيتها، الى مجاهل أفريقيا، حيث نشاهد أن تصورات أديانهم البدائية تحمل رؤى وتصورات متقدمة، ألا وهو أيمانهم بوجود ما يسمى بالقوة الحيوية، وهي قوة كما يدعون كونية لها وجود تسلسلي، ولكن القوة الكبرى فيها والأشمل هي قوة الله، الذي هو قوة في نفسه، يخلق ويبدد الحياة، وأن هناك فروع لهذه القوة في باقي الكائنات الحية، وهذه الفكرة بالحقيقة تقترب في تصوراتها مع فكرة وحدة الوجود التي تبناها بعض الفلاسفه المسلمين، وأن الأقوام التي تعتقد بهذه الفكرة هي أقوام الديولا في أفريقيا، كما يسموها بالنياما (القوة الحيوية) التي هي عبارة عن هرم يمثل الرأس به الله وقاعدته البشر، ولو ذهبنا الى ديانات أخرى في داخل القارة الأفريقية، والتي تسمى بالديانات الفولتية لنجد أن الأقوام البدائية هناك يؤمنون بأله سماوي أزلي غير مخلوق لا تدركه العقول، فهو من يقوم بعملية الخلق، وهو من ينزل المطر، ويحي الأرض وأحياناً يجعلوا مكانه بالشمس، وأحياناً ينزل الى الأرض، وهذه الأقوام تتخلل عقائدهم تصورات أخرى مثل الأيمان بأرواح الأجداد، وعبادتها، وهذا ما يجعل عبادتهم معقدة ومتشابكة وفيها ضبابية، ولكن تبقى هي نتاج عقل بدائي لا يخلو من التخبط والغبش الفكري مادام هو بعيد عن الوحي الألهي كما هو في الأديان السماوية، ولو أنتقلنا الى أقوام أفارقة أخرين وخاصة في غانا الحديثة لرأيناهم يعتقدون بالهه كبيره أم لم يخلقها أحد، ولكنها ذات نموذج قمري وتحمل أسم (أونيام) هنا يمكننا تلمس عند هذه الشعوب البدائيه بين ما هو مجرد وما هو مادي، ونلاحظ أنه رغم أعتقاده بما هو خفي وماورائي ولكنه ينحو نحو ما هو ملموس ومحسوس، ويجعل منه رمزاً وممثلاً له بين البشر، وذلك بحكم تكوين الأنسان الذي تجذبه المحسوسات التي يشعر بأنها تعطيه اليقين الكلي الذي لا يسمح بتخلل نوازع الشك أليها، وعدم تحمله بالذهاب بعيداً في عالم التجريد، الذي يحتاج الى ذهنية يمكنها التحليق بعيداً في عالم الميتافيزيق، والقائم على مقدمات مادية بلا شك، وهذه حالة متقدمة لم تستطع الأنسان البدائي التوصل لها لمحدوديته الفكرية وضعف أدواتة المعرفية، ولكن لا يعني أن الأنسان البدائي ضعيف الخيال بل بالعكس فهو أثبت من خلال ما قدمه من أساطير عديده تنم عن خيال خصب ولكنه خيال غير قائم على تصورات منطقية، فكان خياله عبارة عن تأملات سارحة تبحث عن تفسيرات لا يملك أدوتها العلميه والمعرفية . أن هذا الأمر يمكننا أستيعابه عندما نعرف أن الأنسان البدائي مشغول بشكل كبير بالصيد وألتقاط الثمار، وفقير بالتجربة، ويتمتع بذهنية غاية بالبساطة، وهذا هو ما جعله يخلط المادي بالمجرد، والمحسوس بالامحسوس . كما يجدر بالأشارة الى أن أوربا غير بعيدة عن هذا النوع من التفكير في زمن ما قبل الكتابة، فتراهم تركز شعوبها على الألهه الأم الكبرى، وهي ذات طبيعة أنثوية، ويمثلونها بأشكال بشرية وحيوانية وحتى نباتية، ويضفون عليها صفات ذات طابع ماورائي، فيصفونها بشمائل شمولية، مثل أيهاب الحياة، وزيادة الخيرات، وأنها الحاكم المطلق.

لو حاولنا التدقيق بكل هذه التصورات عن الألهه لجميع هذه الأقوام لوجدنا أن هناك الكثير من المشتركات، فنرى هناك نزوعاً كلياً بأتجاة الدين وأنه سمة عالمية، كما أنه يمثل محوراً مهماً في حياتهم، وحاجة لا يمكن الأستغناء عنها، وأن هناك شبه أجماع على أن وراء كل الألهة التي عبدوها، وبكل أنواعها وأشكالها، هناك قوة أكبر من جميع هذه الألهة، وهي قوة ماورائية عظيمة، ومطلقة. كما تكشف المعطيات أن الفطرة الأنسانية واحدة، وحاجاتها واحدة، وتنزع في ميولها النفسية والروحية بأتجاه واحد، وهو الله سبحانه وتعالى، وأن ما عبدوه، وماجلوه ودعوا له بمختلف الأساليب والممارسات من أمثال الطوطمية والوثنية التي عبدت الصخور الصماء، ومن عبد الكواكب والنجوم والحيوانات والأشجار كلها كانت تقصد من وراء ذلك هو ما أسموه بالروح العظيمة، والسيد الأكبر والقدرة المطلقة، التي لا يمكن تصورها أو تحديدها وحتى أدراكها، وأذا كان هناك من يتصور أن الدين يمثل فترة تاريخية من حياة الأنسان، فكيف لنا أن نفسر وجوده وبقوة في القرن الواحد والعشرين، وفي عصر العلم والتكنلوجيا الفائقة التطور، فليس لنا ألا التسليم والأعتراف بأن الدين حاجة ضرورية لا يمكن للأنسان الأستغناء عنه، بل الأستجابه له من صلب تكوينه. يتبع....

 

أياد الزهيري

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم