صحيفة المثقف

ميثم الجنابي: انطون سعادة وأيديولوجية الفكرة القومية الاجتماعية (4)

ميثم الجنابيخصوصية الفكرة القومية السورية

لقد توصلت في المقال السابق، إلى أنَّ انطون سعادة أراد القول، بأنَّ الفكرة الاجتماعية المرتبطة بفكرة الدولة القومية ونظامها السياسي المناسب، والارتباط الجوهري بالأرض (الوطن الأصلي)، والاحتفاظ بالكيان الذاتي الخالص هي الأسس التي شكلت مضمون "الدين الجديد" بوصفه "ديناً اجتماعياً"، والذي تكوّن الفكرة القومية لاهوته وناسوته.

وحدد هذا بدوره مقومات الوجود الثقافي الخاص للفكرة القومية السورية. فقد اتجه الكنعانيون اتجاهاً جديداً في الرقي الثقافي عما كان سابقا، كما يقول انطون سعادة. فعلى خلاف غيرهم اهتموا "بالتغلّب على صعوبات الحياة العمرانية بترتيب ثقافتهم الاقتصادية على أساس زراعة راقية غنية جداً حتى سمي وطنهم الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً"[1]. واستكملوا ذلك بفكرة وأسلوب التجارة، بوصفها احد العوامل العظمى في تفاعل الثقافات. إذ مّكنت التجارة السوريين من التعويض عن فقر أراضيهم من المعادن ونقص المواد الخام. وبهذا يكون السوريون الكنعانيون والآراميون قد خطوا إلى التجارة وثقافة الإنتاج التجاري[2]. ولازم ذلك تشكل مؤسسة ما أطلق عليه انطون سعادة عبارة "الاستعمار السوري". وكتب بهذا الصدد يقول، بأنًّ الثقافة السورية كانت الأصل في وضع "طور الاستعمار" الذي ادخل البحر المتوسط كله في "نطاق الثقافة السورية الجديدة التي هي بدء التمدن الحديث"[3]. وقد يكون صنع الإمبراطورية من بين أكثرها جلاء، بمعنى كيفية بلورتها للنموذج السوري الخاص القائم في توحيده النموذجي بين النزعة القومية والكونية. فقد ساهمت سورية أيضاً في إرساء أسس الدولة البرية. ففي مشرقها نشأت الإمبراطورية الأكادية والإمبراطورية الكلدانية، وفي شمالها الإمبراطورية الآشورية والحثية[4]. تماما كما أدى إدراك الفينيقيون ممكنات البحر الى إنشاء الإمبراطورية البحرية. فالإمبراطورية البحرية السورية كانت أول إمبراطورية بحرية في العالم، والتي بلغت أوجها في صُور وقرطاجة[5]. ذلك يعني، إنهم جمعوا بين قوى عديدة جرى توليفها في قوة كبرى أصيلة ألا وهي الدولة البرية والبحرية، والسياسة والاقتصاد، والإنتاج والتجارة. أما ذروة كل هذا الإبداع التاريخي الهائل فقد وجد انعكاسه في ما أطلق عليه انطون سادة عبارة "الثورة الثقافية" التي استكملها الكنعانيون (الفينيقيون) عبر "استنباط الأحرف الهجائية". وبهذا تكون "ثورتهم الثقافية التي فتحت طريقاً جديداً للارتقاء الثقافي" أنْ ترسي قواعد "التمدن الحديث"[6]. الأمر الذي يجعل من الممكن القول بالقيمة الجوهرية والتأسيسية للسوريين في وضع أسس الحضارة العالمية. ووضع انطون سعادة هذا الاستنتاج في عبارة تقول:"متى ألقينا نظرة على هذا الصرح الضخم من الحياة المدنية التي تحرز بعد كل فترة نصراً جديداً للإنسان على أسرار الطبيعة، أدركنا قيمة الثورة السورية ومعناها الكبير"[7].

ووضع انطون سعادة هذه الأفكار في أساس استنتاجه النظري العام القائل بإبداع العقل السوري نماذجه الخاصة في كل شيء. وقد يكون موقفه من نموذج النظام السياسي والدولة الصيغة الأكثر جوهرية. فالعقل السوري العملي لم يكن يميل إلى تخيلات فاسدة من الوجهة العملية وخيال سخيف يقول بأنْ يكون كل فرد من أفراد المدينة المعترف بهم "شريكاً" فعليا في إدارة الدولة. فالمدينة السورية ظلت محافظة على الفَرق بين السياسة والاجتماع. وهذا الفَرْق هو ما مّكن الدولة من إطرّاد تقدمها[8]. فإذا كانت التجربة الإغريقية قد ألغت الدولة، فإنَّ التجربة السورية على العكس من ذلك كانت على الدوام الممثل النموذجي للدولة. وبهذا يكون النموذج السوري الأكثر تماماً وديمومة وتأثيراً بما في ذلك بالنسبة للدولة الحديثة. وذلك لأنَّ "الأسلوب الذي جرت عليه الدولة في تقدمها وارتقائها كان الأسلوب السوري الذي ارتقى في قرطاجة إلى الديمقراطية ووضوح الحقوق المدنية والحقوق الشخصية، مع بقاء الدولة شيئاً متميزاً عن الشعب"[9]. وينطبق على أيضا على مقارنة العقل السوري بالروماني في مجال الشرع. فإذا كان "تاريخ روما الثقافي هو تاريخ حقوقها"، وأنَّ "الشرع الروماني هو أتقن ما تركته روما للبشرية"، فلأن الشرع في روما ابتدأ "على مثال دولة المدينة السورية"[10].

ذلك يعني أن الفكرة القومية (السورية) الاجتماعية لها تاريخها وصيرورتها الثقافية، ومن ثم خصوصيتها السياسية. وبالتالي فإنَّ حصيلة تداخل أسسها ومصادرها التاريخية والثقافية والسياسية قد أدى إلى تفرّدها بسرّها الخاص، الذي أطلق عليه انطون سعادة عبارة "الإثم الكنعاني". وهذا بدوره ليس إلا السرّ الذي ألزم ويلزم الكينونة السورية بالرجوع إلى ذاتها بوصفها أسلوب ديمومتها الفاعلة. وقد يكون حلها لإشكالية المادي والروحي هو الأسلوب الأكثر تحقيقاً لها. فالحركة القومية الاجتماعية لم تأت سورية فقط بالمبادئ المحيية، بل أتت العالم بالقاعدة التي يمكن عليها استمرار العمران وإرتقاء الثقافة كما يكتب انطون سعادة. مع ما ترتب عليه من "رفض فكرة الصراع بين المادة والروح. وبالتالي الإقرار بمبدأ الأساس الروحي- المادي للحياة الإنسانية ووجوب تحويل الصراع المميت إلى تفاعل يحي ويعمر ويرفع الثقافة ويسير الحياة نحو ارفع مستوى"[11]. ووجد في هذا الأسلوب طريق إنهاض "الأمة السورية". بمعنى تحويل صراعاتها الداخلية إلى أسلوب رقيها الذاتي. وليس هناك من أسلوب ونموذج يمكنهما الارتقاء إلى هذا المستوى بوصفه رؤية وبديلاً وحل بالنسبة لسورية سوى الفكرة القومية الاجتماعية. من هنا استنتاج انطون سعادة عن أنه متى كان "الاتحاد القومي المسالم كل المسالمة في الداخل، أمكن حينئذ أنْ تنهض الأمة السورية كرجل واحد وتسير إلى خلاصها. فلا تكون وحدتها هذه محمدية ولا مسيحية، بل قومية اجتماعية ينظر أفرادها إلى الحياة نظرة واحدة، ويفهم كل منهم رسالة الدين بهذه النظرة"[12]. بعبارة أخرى، لقد أراد انطون سعادة القول، بأن الدين الجديد الذي ينبغي أنْ ينقذ سورية والعالم العربي ككل يكمن في اعتناق مبادئ وحقيقة الفكرة الاجتماعية القومية السورية. من هنا توكيده على انه "بهذا التعليم السوري القومي الاجتماعي تنهض الأمة السورية وكل أمة عربية تتخبط في محاولة عقيمة للتوفيق بين حزبية الدين والواقع الاجتماعي"[13].

احتوت الفكرة القومية السورية كما أسس لها انطون سعادة على البذرة العقلانية الكبرى القائلة، بأنَّ الأساس المتين للفكرة القومية يقوم في أبعادها الاجتماعية. وعليها بنى إمكانية نهوض سورية، بوصفها الأمة الوحيدة القادرة من بين "أمم العالم العربي" على بناء قوة اقتصادية اجتماعية. وذلك لأنها الوحيدة التي تمتلك النفط والأملاح الكيمياوية وبعض المعادن. كما أنها الوحيدة القادرة على بناء صناعة ثقيلة من بين الأقطار العربية. مما حدد بدوره فكرته القائلة، بأن استقلال سورية الموَّحدة في نهضة قومية أكثر إمكانية وأقرب منالاً من استقلال جميع الأقطار العربية دفعة واحدة بحركة واحدة. فسورية بوضعها الجغرافي ومقدرتها المادية والروحية أقوى سياسياً من جميع الأقطار العربية متحدة[14].

من هنا أصبح البعث القومي "للأمة السورية" مضمون الفلسفة العملية السياسية للحزب القومي السوري. وكثّف انطون سعادة مضمون هذه الفلسفة من خلال معادلة العقيدة والسياسة. فإذا كانت السياسة عند "رجال السياسة اللاقوميون" هي الغاية، والعقائد ليست لهم سوى وسائط، فإنَّ الأمر مغاير تماما بالنسبة لفلسفة الحزب السوري القومي. فالعقيدة هي الغاية والسياسة هي الواسطة. وذلك لأنَّ هذه الفلسفة ترمي أساساً إلى خدمة العقيدة القومية المشتملة على قضية واضحة معينة وليست لمجرد السياسة أو القضية الشخصية[15]. من هنا جوهرية وضرورة وعي الذات القومي. إذ لا يعني وعي الذات القومي عند انطون سعادة سوى بلوغ الجماعة مرتبة الوجدان القومي والشعور بشخصية الجماعة. وذلك لأن "كل جماعة ترتقي إلى مرتبة الوجدان القومي، والشعور بشخصية الجماعة لابد لأفرادها من فهم الواقع الاجتماعي وظروفه وطبيعة العلاقات الناتجة عنه. وهي هذه العلاقات التي تعيّن مقدار حيوية الجماعة ومؤهلاتها للبقاء والارتقاء"[16]. لاسيما وأنَّ هذا الفهم يتسم بضرورة قاهرة في مراحل الصعود (مرحلة الانتقال) التي عادة ما تتميز بالبلبلة الفكرية. فهو الأسلوب الذي يعيد لها توازنها الداخلي ورؤيتها الواقعية. وبانعدام ذلك فلإنها سوف تكون فريسة ما اسماه انطون سعادة "بفوضى العقائد وبلبلة الأفكار"[17].

وتراكمت فكرته بهذا الصدد بالهبوط من علياء الفكرة الشرقية العالمية إلى الفكرة القومية العامة ومنها إلى الفكرة القومية السورية. فقد كانت فكرة الشرق والشرقية في البداية الإطار العام لوعي الذات القومي. وفي مواجهتها للغرب والهيمنة الغربية (الأوربية) كانت جزءً من طبيعة ومستوى الصراع الدائر آنذاك. غير أنَّ فكر انطون سعادة بهذا الصدد لم يكن محكوماً بفكرة الاستفادة أو التأثر أو الإعلاء للشأن الأوربي (الثقافي). على العكس، انه واجه كل ذلك بفكرة وأسلوب النقد الذاتي وتجميع القوى في مواجهة الغرب الكولونيالي عبر صقل الفكرة القومية. من هنا اعتباره الصيغ النمطية للغرب الكولونيالي تجاه حركات النهضة الوطنية في الشرق الرامية إلى الحرية والاستقلال مثل اتهامها بالهمجية وتهديدها للمدنية الأوربية وما شابه ذلك، مجرد فلسفة عقيمة. وكتب بهذا الصدد يقول، بأنَّ هذه الاتهامات والمغالطات لا تتعدى كونها "فلسفة تاريخية عقيمة أنتجتها أدمغة المؤرخين الغربيين المتعصبين". وأغرب ما فيها هو اعتبارهم إياها "إحدى الحقائق التاريخية".[18] وبالضد من ذلك نراه يدعو الى شعار "الرجوع إلى الشرق". وانطلق في شعاره هذا من انه إذا كان التاريخ قد اثبت في الماضي أنَّ النهضات الوطنية في الشرق لا تهدد المدنية بل تهدد البربرية الغربية المندغمة في المدنية، فإنَّ ذلك يعني أيضا أنَّ الشر سيكون مهبط مدنية جديدة لا تقل شأناً عن المدنية التي أعطاها الشرق للغرب في الماضي[19]. بل ونرى عنده عدد من الصيغ الخطابية الجياشة لا تقلّ بهذا الصدد من خطباء المغامرات الحربية، كما في قوله، بأنَّ "الجيوش الجرارة" سوف تنطلق من الشرق لإرجاع الغرب إلى مكامنه الأولية. وإذا كانت بعض الألسنة الصغيرة من النار الشرقية لقد التهمت نصف أوربا في الماضي، فما بالك في حال اشتعال النار الشرقية.

غير أنَّ النزعة الخطابية المتأججة لم تكن في فلسفة الحزب القومي السوري سوى التعبير الوجداني العارم للانتقال إلى واقعية الرؤية التاريخية والسياسية المتفائلة بصدد المستقبل. من هنا دعوته للارتقاء الذاتي بمعزل عن التأثر السلبي بالغرب أياً كان شكله ومحتواه. بعبارة أخرى، إنَّ المهمة الجوهرية للصعود الشرقي تقوم في تنفيذ مهمة الخروج من أثر الحضارة الغربية، كما يقول انطون سعادة[20]. وشدد في احد مواقفه بهذا الصدد على أنَّ الشرق "لا يجب أنْ ينتظر إنصافاً من الغرب أو من التاريخ الغربي القائل، بأنَّ أوربا فوق الجميع". وبالتالي "لا سبيل إلى نيل الشرق حقوقه إلا بالاعتماد على ذلك السند الطبيعي الذي يلجأ إليه كل حي للدفاع عن نفسه وحقوقه، وهو القوة. فإنَّ شرائع البشر كلها كانت نتيجة استعمال القوة، ولم تتعدل إلا بالقوة. والثورات العظيمة في العالم تثبت هذه النظرية إثباتاً لا سبيل معه إلى الجدل"[21]. واختتم ذلك بشعار "وجوب إضرام الثورة العامة في الشرق"، بحيث يمكن معها القول:"اليوم لكم يا أهل أوربا، وأما الغد فهو لا شك لنا"[22].

لا تعني عبارة "الغد لنا" سوى الشعار الداعي لاستعادة ما مضى ولكن بمعايير الفكرة الجديدة. وهذا بدوره وثيق الارتباط ببعث الفكرة القومية بوصفها "رسالة"، والأمة بوصفها اتحاداً جديدً، والدولة بوصفها "متحداً" راقياً، والروح القومي بمختلف أشكاله ومستوياته بوصفه وعياً سورياً اجتماعياُ. (يتبع...).

 

ا. د. ميثم الجنابي

.....................

[1] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص81.

[2] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص82.

[3] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص82 ومن اجل توضيح أبعاد هذه الفكرة نراه يشد على الدور التاريخي الثقافي للسوريين. وكتب بهذا الصدد يقول، بان الحالة الثقافية للإغريق كانت آنذاك مقارنة بالفينيقيين مثل حالة شعوب أفريقيا المتخلفة مع الدول الأوربية المتطورة حديثا.

[4] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص110.

[5] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص112.

[6] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص83.

[7] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص85.

[8] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص114.

[9] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص115.

[10] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص119-121.

[11] انطون سعادة: الإسلام في رسالتيه، ص119.

[12] انطون سعادة: الإسلام في رسالتيه، ص109.

[13] انطون سعادة: الإسلام في رسالتيه، ص109.

[14] انطون سعادة: الإسلام في رسالتيه، ص255.

[15] انطون سعادة: الإسلام في رسالتيه، ص261.

[16] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص14.

[17] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص14.

[18] انطون سعادة:الآثار الكاملة، ج1، ص126.

[19] انطون سعادة:الآثار الكاملة، ج1، ص126.

[20] انطون سعادة:الآثار الكاملة، ج1، ص127.

[21] انطون سعادة:الآثار الكاملة، ج1، ص128-129.

[22] انطون سعادة:الآثار الكاملة، ج1، ص129.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم