صحيفة المثقف

محمود محمد علي: محمد رسول الإرادة.. قراءة نقدية في كتاب الدكتور ميثم الجنابي (1)

محمود محمد عليهناك نمطان من الكُتاب الأكاديميين، نمط تقليدي تتوقف مهارته عند تقليد الآخرين والنقل عنهم وضبط الهوامش، والحرص علي أن يكون النقل أميناً، وكلما كان من مصادر ومراجع أجنبية كان أفضل، وكلما قل فيما يقولون، فإن ذلك هو الصواب عينه؛ ونمط مبدع يسخر قراءته لإبداء الرأي أو للتدليل علي صواب الاجتهاد العقلي الشخصي، وبالطبع فإن النمط الثاني هو الأقرب إلي النمط الفلسفي الحق، فالتفلسف ينتج الإبداع ولا يتوقف عند النقل وإثراء الهوامش .

ولا شك في أن الأستاذ الدكتور" ميثم محمد طه الجنابي (أستاذ العلوم الفلسفية في الجامعة الروسية وجامعة موسكو الحكومية، من هؤلاء الذين ينتمون إلي النمط الثاني، فهو صاحب موقف فلسفي ونقدي واضح من كل ما يقرأ ولا يكتب إلا في حول، أو في قضايا معاصرة بغرض بلورة موقف مبدع ومستقل عن كل المواقف ومختلف عن كل الآراء المطروحة حول نفس الموضوع سواء قيل من قبل .

واعتقد أنه في نظر الدكتور "ميثم الجنابي" فإن البحث الفلسفي، هو تعبير خالص عن الموقف الفكري المستقل الخالص بالباحث، وليس مجرد مجموعة من النقول والشروح والتعليقات المفتعلة. وعلاوة علي ذلك فإن جدية "ميثم الجنابي" وأصالته تتكشف عندما يطرح القضايا الفكرية والسياسية، حيث نجد الغاية من هذا الطرح ليست مجرد تكرار للأفكار، وإنما يسلط الضوء علي أفكار وقصايا بعينها، من أجل أن يكشف عن المجتمعات العربية عموماً، والمجتمع المصري خصوصاً، وكذلك من أجل أن يستقي القارئ العربي منها مصادر خلاصة من مشكلاته التي تؤرقه؛ وخاصة مشكلة وجوده كإنسان له كرامته الأصلية.

ويعد ميثم الجنابي واحداً من أبرز الوجوه الثقافية من أساتذتنا المعاصرين، وهو يمثل قيمة كبيرة وشعلة من التنوير الفكري التي بدأها منذ ربع قرن، باحثا، ومنقباً عن الحقيقة والحكمة . إنه الباحث عن سبيل يحفظ للإنسان حريته وكرامته، فهو ينقب في ثنايا الفكر العربي القديم والحديث والمعاصر، لكنه لا يسلم بما يكتبه عنه من قبل زملائه الباحثين في الشرق والغرب، بل لديه قدرة عظيمة علي أن يلقي بنفسه في خضم المشكلات المطروحة، ويشق لنفسه طريقه الخاص غير عابئ بما يقوله "أشباه الباحثين" .

وإذا ما أكتب اليوم عنه هذه الورقة، فما ذلك إلا نقطة في بحر فكره، وقد آثرت أن تكون ورقتي منصبة حول أحد إسهاماته في تراثنا العربي الإسلامي، وقد اخترت كتابه (هذا الذي بين يدي) وهو بعنوان: (محمد رسول الإرادة)؛ وقد صدر هذا الكتاب عن (دار العارف)، بيروت، 2018، وعدد صفحاته 238، وينقسم هذا الكتاب إلي قسمين، الأول وتحت عنوان (أرادة الروح)، والثاني (روح الإرادة)؛ ويتضمن القسم الأول ستة محاور؛ وهي على التوالي: الصيرورة الروحية للإسلام، الإسلام - مجاز الحكمة الخالدة، الصيرورة الروحية للنبي محمد، النبوة- إرادة الحق، الجهاد والاجتهاد النبوي، القرآن- قراءة الأبعاد المتجددة للوجود الإنساني.. أما القسم الثاني فيحتوي على أربعة محاور وهي على التوالي: الإسلام وفكرة التحدي التاريخي، إرادة البديل الشامل، النفي والبدائل، العقل الإسلامي الجديد).

وقبل أن أتحول لقراءة هذا الكتاب أقول: لقد علمتني التجارب البحثية أن هناك أكثر من طريق لقراءة الأعمال الفلسفية قراءة نقدية، وأكثرها عفوية وسذاجة أن نلخص العمل الفلسفي أبواباً وفصولاً ثم لا شئ، وأعمقها أن نحاول تحديد مقولات العمل أولاً حتي نضع المتلقي معنا علي أرضية واحدة مشتركة، ثم نخلص من ذلك إلي تجسيد رؤيتنا النقدية لهذه المقولات وإحالة هذه الرؤية النقدية في النهاية إلي قضايا وظاهرات.

وقد اخترت في قراءتي النقدية لكتاب الأستاذ الدكتور ميثم الجنابي (محمد رسول الإرادة)، تلك الطريقة الأخيرة التي ترفض الهشاشة وتكابد في طريقها إلي محاولة التنظير والتأصيل .. أولاً: لأن هذا الكتاب عمل علمي جاد يستحق بالفعل أن يعاني الناقد في قراءته وتقويمه، وأزعم أن هذا الكتاب سوف يضيفه التاريخ إلي أمهات الكتب الخوالد، لأن هذا المضاف يفتح السبُل أمام النظر، وإعمال العقل، وأمام البحث ومناهج العلم .. وثانياً الميزة التي يتميز بها الكاتب "ميثم الجنابي" في هذا الكتاب، وهي هذه الجدية في النظر، وهذه الصرامة في المنطق، وهذا العكوف في العمل، وهذا الاحترام للنفس كاتباً وللغير قارئاً هو ما في نظري ما تعودت عليه أنا شخصياً مع ميثم الجنابي (في هذا الكتاب)، يحتشد للموضوع الذي يبحثه من جوانبه التي تخصص فيها، ويتقدم للقارئ لا بالموضوع الذي يبحثه فقط، ولكن بالأدوات المنهجية التي يتعامل مع موضوعه بها، فيعرضها واضحة بما تستدعيه من منطق، ومن أسلوب تدليل ومن ترتيب سياق.

ويمثل كتاب (محمد رسول الإرادة) معلماً بارزاً من معالم خطاب الدكتور ميثم الجنابي الداعي إلي قراءة تراثنا العربي الإسلامي قراءة علمية وموضوعية، بقصد التعرف علي الثقافة التي أنتجها هذا التراث، وإدراكها في إطار سياقها التاريخي والاجتماعي سعياً لمزيد من الفهم لواقعنا الثقافي المعاصر عن طريق استخلاص مغزي الدلالات المختلفة لهذا السياق، ولما كان التراث في رأيه هو مجموع النصوص التي أنتجت عبر العصور المختلفة من تاريخ أمتنا؛ فإن فهم هذه النصوص يصبح السبيل الوحيد لخلق وعي علمي بهذا التراث وبآليات إنتاجه .

والواقع أنه إذا كان صحيحاً القول بأن للفيلسوف حدثاً واحداً يتكرر كل عدة سنوات كما قال الفيلسوف الفرنسي المعاصر " هنري برجسون"؛ فإنه صحيح أيضاً القول بأن للمفكر المتميز خطاياً واحداً يتكرر دائماً عبر مستويات عديدة تعكس كلها رؤية واضحة ومتفردة، كتلك التي نجدها متضمنة في جميع أعمال الدكتور "ميثم الجنابي": كتاباً كانت .. أم مقالات، أو حتي حوارات صحفية ..!

ومن هنا يقع كتاب (محمد رسول الإرادة) الذي نحن بصدده الآن ضمن الدوال الرئيسية علي معالم هذا الخطاب الذي يمثل بحق اتجاهاً معرفياً جديداً في حقل الثقافة العربية المعاصرة .. اتجاها احتل مكانته في قلب هذه الثقافة عن جدارة واستحقاق بصرف النظر عن مدي الاتفاق أو الاختلاف مع ما يمثله من قيمة معرفية ومنهجية في دراسة علوم التراث ونصوصه، وهي قيمة ولا ريب عظيمة ولو كره الشائنون..!

ومن عادتي عند قراءة كتاب لا أعرف محتواه، أن أخمِّن موضوعه من عنوانه، وغالباً ما يكون تخميني صحيحاً؛ فحسب علمي لم يكتب قبله كتاب في موضوع "محمد رسول الإرادة"، وشرح أفكاره بطريقة نقديَّة، وهذا واضح من خلال التوجّه التي سار عليه الدكتور" ميثم الجنابي" عندما أعلن بأن:" الفكرة الرئيسية لهذا الكتاب تقوم في تبيان أثر الشخصية المحمدية في وضع أسس اللحظة التأسيسية للمراجعات الثقافية المتسامية التي أدت إلي نقل العرب من المرحلة الثقافية الدينية إلي المرحلة الدينية السياسية، وما استتبعها من تأسيس لاحق للثقافة الإسلامية وحضارتها . وبالتالي الكشف عن أنه كلما جري الغوص في حقيقتها التاريخية كلما تعمق الباحث في حقيقتها الما فوق التاريخية . ومن ثم البرهنة علي أثرها الجوهري في تحدي الوجود التاريخي بإرادة البدائل الكبرى . من هنا بقاءها الحي وقدرتها علي الإلهام العقلي والروحي بوصفها شخصية تاريخية وما فوق تاريخية، أي كل ما جري وضعه في مفهوم النبي محمد والنبوة المحمدية، والرسول والإرادة الإسلامية (1).

ومعني هذا أن الكتاب يقوم علي فقه المراجعة، وهذا الفقه يعد فلسفة أصيلة في فكرنا الإسلامي، ولهذا ظلت العلوم الإسلامية طيلة تاريخها تخضع للمراجعة من قبل المتخصصين فيها من العلماء، وهي تلك المراجعة التي ينظر فيها كما يقول الدكتور "عبد المجيد النجار":" اللاحق فيما أنتجه السابق فيتناوله بالتمحيص؛ يلائم بينه وبين مقتضيات ما استجد من أوضاع المسلمين لتنتهي إلي تعديل ما ينبغي تعديله، وإضافة ما ينبغي إضافته، وربما إسقاط ما ينبغي إسقاطه، وبسبب ذلك نري هذه العلوم تتطور باطراد في كمها وكيفها، ومهما يأتي عليها من زمن تخلد فيه غلي الركود، فإنها لا تلبث أن تنبعث فيها الحياة من جديد، وذلك بفعل هذه الفلسفة التي انبتت عليها الثقافة الإسلامية في تطور العلوم، وهي فلسفة المراجعة المستمرة من أجل التطوير والتنمية لمجابهة ابتلاءات الواقع" (2).

في هذا السياق يأتي كتاب (محمد رسول الإرادة) لمؤلفه الدكتور ميثم الجنابي لينخرط في مسلسل المراجعات الاجتهادية التي تتوخي تحريك ديناميكية الفكر الإسلامي، ويجيب عن أسئلته الإشكالية التي يفرضها منطق الواقع ومنطق التاريخ.

وبالتالي فإن هذا الكتاب ليس رواية من نسيج الخيال، ولا سرد لأحداث تاريخية، وإنما هو عبارة عن مراجعة لمئات المصادر والمراجع، وكذلك البحث بصورة نقدية لكل من كتب عن النبي الخاتم " محمد صلي الله عليه وسلم"، وقد جاء الكتاب علي قسمين كما قلنا: الأول ويحمل عنوان (إرادة الروح )، بينما الثاني يحمل عنوان (روح الإرادة)، وبمجموعهما كل واحد . مهمة الأول تتبع فعل الإرادة النبوية لمحمد في تحقيق المبادئ الإسلامية في نواحي الحياة بمستوي الطبيعي والما وراء طبيعي من أجل نقل العرب (ولاحقا المسلمين) إلي المرحلة التاريخية الثقافية الجديدة ( الدينية السياسية) . وكلاهما كل واحد بمعايير التاريخ والحقيقة (3).

وهذا يعني أن " محمد رسول الإرادة" يختلف اختلافا عما سائد في أصناف الكتابة المتنوعة عن " السيرة النبوية"؛ إذ ليس للكتاب علاقة، كما يقول الدكتور " ميثم الجنابي" بهذا الصنف من التأليف؛ بمعني أنه ليس كتاباً عن " السيرة النبوية" و " حياة النبي محمد" بالمعني المنتشر والسائد من الكتب التأريخية والعقائدية والوظيفية ( التعليمية والتربوية والأدبية والسياسية وما شابه ذلك ) (4).

إنه كتاب فلسفي صرف يستند من حيث الأسس النظرية لفهم حقيقة الشخصية النبوية والرسالة لمحمد صلوات الله وسلامه عليه، وأثرها التاريخي العربي والإسلامي والعالمي إلي فلسفة الدكتور "ميثم الجنابي" التاريخية والثقافية . وبالتالي فهو كتاب تفتقده المكتبة العربية والإسلامية، إذ فكلاهما كما يذكر المؤلف لم يتمرسا بعد في فهم حقيقة الشخصية المحمدية بمعايير الفكرة النظرية بشكل عام والفلسفية بشكل خاص؛ لاسيما وأنه الأسلوب الأدق من أجل إرساء أسس النظرية المجردة والمتسامية والواقعية في الوقت نفسه عن الشخصية المحمدية والنبي محمد نفسه؛ ومن ثم إزالة الصيغ المبتذلة والظاهرية عن " توظيف " المعلومات عنها وعنه، أو " توظيفهما" هو من أجل " البرهنة " عن رؤيتها العقائدية والمحلية (5).

إن حقيقة الشخصية المحمدية في نظر "ميثم الجنابي" تتطابق كما يقول مع المعني القائم في عبارة " عين الحقيقة"، وهذه بدورها لا تحاج إلي توظيف جزئي أو متجزأ، لأن الحقيقة لا تتقبل التوظيف . إنها كافية بذاتها من أجل تنوير العقل والضمير الفردي والاجتماعي والإنساني (6)؛ إذ ليس هناك من شخصية في تاريخ الإسلام جري تصوير ورسم وتتبع كل دقائق حياتها، وأفعالها، وأقوالها، بل وحتي خلجات نفسها، إضافة إلي أصلها ونسبها وحيثيات وجودها من المهد إلي اللحد أكثر من محمد (7).

وهنا نجد "ميثم الجنابي" يعلن أنه يرغم أن كتابه يجمع بين ينتمي إلي وحدة الرؤية النقدية والمنهج الفلسفي، إلا أنه يجمع بين الرؤية التاريخية الواقعية، والنقدية العقلية، والنظرية الفلسفية؛ وبالتالي، فهو الكتاب الأول في الثقافة العربية والإسلامية في كيفية تناوله لشخصية محمد، والشخصية المحمدية، والنبي محمد والنبوة المحمدية، والرسول والرسالة الإسلامية (8).

 

الأستاذ الدكتور / محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط .

.....................

(1) ميثم الجنابي: محمد رسول الإرادة، دار العارف، بيروت، 2018، ص 9.

(2) أنظر عبد المجيد النجار: مراجعات في الفكر الإسلامي، الطبعة الأولي، دار الغرب الإسلامي، 2008، ص351.

(3) ميثم الجنابي: نفس المصدر، ص9.

(4) نفس المصدر، ص 10.

(5) نفس المصدر، ص 10.

(6) نفس المصدر، ص 10.

(7) نفس المصدر، ص 11.

(8) نفس المصدر، ص 19.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم