صحيفة المثقف

عصمت نصَّار: محمد عابد الجابري بين حداثة المشروع وتجديد الخطاب (2)

عصمت نصارلم يأت الجابري بالأمر الغريب أو بالمنحى الجديد عندما زعم أن هدفه من إعادة قراءة التراث هو إعادة تشكيل العقل العربي وتخليصه من أوهام القداسة التي سق بها آليات المعرفة في الثقافة العربية الإسلامية، وكذا النظرة إلى الغرب المجافية للواقع. فقد رغب عن الكتابات التي تمجد التراث العربي، وتؤكد أن عقلية السلف قد اهتدت إلى فصل الخطاب في القضايا التي تناولتها، وأن نهجها البرهاني قد أجهز على كل مواطن الشك والارتياب في أمور الدين والدنيا، أما الوهن والضعف والتخلف فلم يصب عقل وقلب الحضارة الإسلامية إلا عقب تخليهما عن القيم والمبادئ التليدة التي كانت تقودهما صوب العلم والإيمان معاً، وتحميهما في الوقت نفسه من محاكات الأغيار والأقدام على النِحل الوافدة من الأمم التي كان يسودها ذلك الصرح الموروث الأعظم بقوته وعلمه وقيمه الروحية.

وقد أوضح الجابري مراراً وتكراراً أن الدواء الشافي من هذا الوهم هو شراب الوعي وحبوب النقد، ومن ثم ينبغي على من يرجو تقدم هذه الأمة الحرص على تعاطي هذا الدواء عوضاً عن مغيبات العقل التي لن تقوده إلا إلى المجهول وظلمة التخلف الذي آلت إليه الأمم الغابرة. أجل! إن هذه التوطئة أو ذلك المدخل الذي استهل الجابري به حديثه عن مشروعه المزعوم نجده عند قادة الاتجاه التغريبي -في الربع الأخير من القرن التاسع عشر- الذين اعتقدوا أن قراءتهم المتعجلة للكتب الصفراء قد مكنتهم من الإحاطة الكاملة بالتراث العربي وغفلوا أو تغافلوا عن أمور عدة منها أن أعينهم قد قرأت الفكر العربي الموروث من وراء نظارات غربية مضللة وأن أحكامهم جاءت وليدة مشارب ومطاعم - أعدها غلاة المستشرقين - مزورة طامسة للحقائق ومهوّنة من قيمة النفيس من التراث ومهولة من مواضع الإخفاقات والمخاذي والأخطاء التي لحقت بكراسي الحكم وحاقت بساسة المجتمعات الإسلامية في عهد أفولها وانكساره.

فصرح الجابري بأن مشروعه عقلاني برهاني قد اتخذ من النقد آلية حداثية لتنقية الركام الثقافي واستبعاد كل ما لا يصلح لإدخاله بين تروس ألته النقدية العملاقة التي صممها بنفسه وهي بطبيعة الحال محاكيه لمثيلتها من أليات النقد (الما بعد حداثية) التفكيكية المعاصرة.

وقد عاب على السابقين من المفكرين العلمانيين العرب نظرتهم للتراث على اعتباره مخلفات حضارية لثقافات غابرة وجيف وعظام لأقوام بائدة، ومن ثم يجب مقاطعته، وبيّن أن قطيعتهم المعرفية للفكر الموروث لن تحول بينه وبين التدخل في البنية الثقافة المعاصرة والأجدى من ذلك تهيئة الدين واللغة العربية لإخضاعهما لتروس تلك الألة النقدية. وذلك في كتابه "تكوين العقل العربي".

فذهب إلى أن المنتج الجديد - في مشروعه - يقضي بأن يستبعد الدين بصورته الموروثة ويستخلص منه قيم روحية فردية خاصة لا يحكمها سوى القناعات الذاتية. أمّا دون ذلك من أمور المجتمع والعلم والأخلاق والتربية والسياسة وغير ذلك من الأمور التي كان يحملها الدين التقليدي على كتفيه فقد حملها عنه العلم والتجربة الواقعية (دين علماني عقلاني عدو للشيفونية والعنف والعصبية والتعصب والراديكالية والأيديولوجية ومؤمن بالديمقراطية والعولمة والمصالح الواقعية) ويحمل على ذلك كل المعارف المتعلقة بصورة الدين التقليدي بدايةً من كتب العقيدة والفقه والتفسير، ومروراً بكتب الحديث، والسيرة وأخبار الأولياء ونهاية بكتب الشرعية وفقه الحدود والمآلات والمقاصد.

ومن أقواله في ذلك: (من مهام الفكر العربي اليوم العمل على تحويل العقيدة إلى مجرد رأي) غير أنه في مواضع أخرى من كتاباته المتأخرة (التراث والحداثة العقل السياسي العربي) نجده يعترف على استحياء أن القيم والمبادئ الإسلامية دون غيرها من التعاليم الدينية تصلح للتواجد في بنية العقل المعاصر لتكون أطاراً يحتكم إليه في أمور الحياة الدنيا بما في ذلك قضايا السياسة وذلك لأنها لا تعارض العلم ولا تحجر على حرية العقل ولا تتحكم في الإرادة الإنسانية مع التأكيد على أن جوهر العقيدة الإسلامية غنياً بذاته عن الشيوخ والمفسرين والكهنة والرقباء.

وأعتقد أن علة هذا الاضطراب أو التراجع يرجع إلى أكثر من سبب أولها: عدم تمكنه من الإحاطة بالعلوم الشرعية الشاغرة من دس وأهواء المؤرخين من جهة وأحكام المتعصبين من المستشرقين من جهة أخرى. وذلك أثناء كتابته مقدمات مشروعه.  وثانيها: تأثره بكتابات ابن خلدون التي أشارت إلى أن صحيح الدين الذي يمثله القرآن وصحيح السنة قد حاق به الكثير من الأهواء والتحقت به الكثير من المتغيرات الاجتماعية والسياسية واختلطت بمعارفه مئات العوائد والمعتقدات الفاسدة وبمرور الزمن وتقلبات الدهور ظنها الناس بأنها من صلب الدين ومن صورة الإسلام وشريعته التي أخبر عنها الرسول ونطق بها الوحي.

وثالثها: كثرة الطعون والنقود التي وجهت لمشروعه الأمر الذي دفعه إلى مراجعة بعض آرائه ونقداته تجاه التراث ولا سيما الآراء ذات الصلة منها بالدين، وهو ليس بالأمر الغريب ولا هو بالجديد - كما قلنا - فقد انتهى إليه إسماعيل مظهر (1891م -1962م) وذكي نجيب محمود (1905م-1993م) وعبدالرحمن بدوي (1917م-2002م) ومن قبلهم جميعاً شبلي شميل (1850م-1917م) وسلامة موسى (1887م-1958م) فقد استثنى كلاهما الدين الإسلامي من معوقات المدنية وأسباب تخلف الأمة العربية، وبينا أن المبادئ والقيم الإسلامية صالحة للإدراج في المشروع العلماني المعاصر وذلك لعدم التعارض بين مقاصد الإسلام وغاية العلمانية. 

واذا ما انتقلنا من الأسباب المحتملة الظاهرة إلى العلل المتوقعة الباطنة؛ فإنني أظن أنها كامنه في صرير قلمه الذي باح بالشكوك التي كان يعانيها مفكرنا المتفلسف..! فمنذ عام 1976م إلى منتصف الثمانينات قد ادرك "الجابري" أن فصل الخطاب والحقيقة البرهانية والنظريات العلمية والقواعد المنطقية وكتابات أكابر المستشرقين ومعلوماته عن التراث العربي وتصوره المثالي للكوكبة أو العولمة والديمقراطية الغربية وغير ذلك من المعارف والأفكار تحتاج هي الأخرى إلى الإدخال في ماكينة النقد والعرض على مرأة العقل.

ويعني ذلك أن مفكرنا كان يعيش في هذه الحقبة (قلق التجربة الغزالية) أو (عذابات الشك الديكارتي)، فراح يراجع كتب تاريخ العلم وفلسفة الحضارة والموسوعات التاريخية - التي تتسم بالحيادية وتنتهج المنهج الوصفي المقارن في التحرير- ثم استهوته كتابات جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وأحمد أمين وعثمان أمين والشيخ حسن الباقوري وغير ذلك من المؤلفات التي جعلته يدرك أن الفلسفات الوضعية والنظريات الدوجماطيقية وأكاذيب المؤرخين لا ينبغي الاعتماد عليها في طريق البحث عن الموضوعية العقلية والتجارب الحضارية والحكم على الثقافات التليدة والتعرف على مشخصات الهوية والمقومات التي يجب تدعيمها لبعث القومية العربية والدفاع عن وجودها وذلك لأن العالم المعاصر والعولمة الغربية لا تعترف إلا بالإحياء الإيقاظ الذين لا يقلعون بفتات موائد السادة بل يجتهدون في تعلم كيفية صناعة الخبز. 

كما أن الراجل الذي ينشر التقدم إلى الأمام لن يستطيع اللحاق بأقوام يركبون سفن الفضاء. كما أن الشاغل بتأمل الماضي للتعرف على الوافد من الخلف كالأعمى الذي أنكر وجود كل ما لا يراه ولم تلمسه يداه ولم تسمعه أذناه. ولعلّ ثمرة هذه التحول أو إن شئت قلت التطور يبدو بوضوح في كتابه (نقد العقل العربي) الذي صدر بأجزائه الأربعة بداية من1982م إلى 2001م.

(وللحديث بقية)

 

بقلم: د. عصمت نصار

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم