صحيفة المثقف

ميثم الجنابي: انطون سعادة وأيديولوجية الفكرة القومية الاجتماعية (5)

ميثم الجنابيفلسفة الانبعاث القومي و"الحقيقة السورية"

إن مضمون البعث القومي بوصفه رسالة في فلسفة انطون سعادة القومية يتطابق مع مضمون "الرسالة" الشاملة للنفس. بمعنى أنها تضع أولوية وعي الذات القومي وإعادة بنائه على أسس جديدة لها تراثها الخاص. وكتب بهذا الصدد يقول، بأنَّ "رسالة البعث القومي الاجتماعي إلى السوريين ليست متولدة من مجرد كره الأجنبي، بل من رغبة حقيقية في صهر نظرياتنا وعقائدنا المتنافرة وسبكها في وحدة روحية لا تعود تتمكن المطامع الأجنبية من تفسيخها وإضعافها". واستكمل هذا الموقف بفكرة تقول بضرورة أنْ يكون الأساس القومي الاجتماعي مبنياً على قاعدة "الوحدة الروحية الكلية في كل شيء". ووجوب أنْ تشكل هذه "الوحدة الروحية كل فكرة وكل نظرة في حياتنا"[i]. وبغضّ النظر عما في هذه الفكرة من نزوع كلياني إلا أنَّ مضمونها الفعلي يقوم في محاولتها بلورة رؤية عقلانية واقعية ومستقبلية تجاه الرسالة القومية الذاتية، التي وجدت تعبيرها النموذجي والتكامل في مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي الثمان. ولم تكن هذه المبادئ الثمانية الكبرى سوى الصيغة السياسية لما وضعه في كتابه (نشوء الأمم)، أي الصيغة السياسية للفكرة النظرية. وقد كان منطلقها العام يقوم في الإجابة على سؤال الهوية:"من نحن؟". ذلك يعني إنَّ هذه المبادئ الكبرى ليست إلا الصيغة النظرية والعملية الدقيقة لفكرة البعث والرسالة وحدودها الملموسة. وهي كالتالي:

- نحن سوريون ونحن أمة تامة.

- القضية السورية هي قضية قائمة بنفسها مستقلة كل الاستقلال عن أية قضية أخرى.

- القضية السورية هي قضية الأمة السورية والوطن السوري.

- الأمة السورية هي وحدة الشعب السوري المتوّلدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل الزمن التاريخي الجلي.

- الوطن السوري هو البيئة الطبيعية التي نشأت فيها الأمة السورية. وهي ذات حدود جغرافية تميزها عن سواها تمتد من جبال طوروس في الشمال الغربي وجبال البختياري في الشمال الشرقي إلى قناة السويس والبحر الأحمر في الجنوب شاملة شبه جزيرة سيناء وخليج العقبة، ومن البحر السوري في الغرب شاملة جزيرة قبرص إلى قوس الصحراء العربية والخليج العربي في الشرق. ويعبر عنه بلفظ الهلال السوري  الخصيب ونجمته جزيرة قبرص.

- الأمة السورية مجتمع واحد.

- تستمد النهضة السورية القومية الاجتماعية روحها من مواهب الأمة السورية وتاريخها الثقافي السياسي القومي.

- مصلحة سوريا فوق كل مصلحة"[ii].

لقد كثّفت هذه المبادئ مضمون الفكرة القومية الجديد وحدودها النظرية والعملية. من هنا انطلاقها للإجابة حول السؤل المتعلق بالماهية، من أنَّ التعريفات المنتشرة مثل اللبناني والفلسطيني والشامي والعراقي والعربي لا يمكنها أنْ تكون أساساً لوعي قومي صحيح. ومن ثم لنهضة "الأمة السورية" ووحدة حياتها ومصيرها[iii]. أما المقدمة الضرورية لتنفيذ ذلك فتقوم بالإقرار بفكرة "سورية للسوريين" وفكرة "السيادة القومية". بمنى ضرورة الإقرار بوجود "أمة سورية تامة" لها حق السيادة الذاتية والحديث باسمها بوصفها أمة مستقلة لها كيانها الخاص. مع ما يترتب عليه من إقرار بترابط ووحدة الأرض والجماعة بصورة لا تتجزأ. مما يحقّ بدوره للسوريين وحدتهم وحقوق تمثيلهم الذاتي. وهذا بدوره ليس إلا النتيجة الملازمة للإقرار بعدم الانفصال بين الأمة والوطن. وذلك لأنَّ "الأمة بدون وطن مُعَيَن لا معنى لها، ولا تقوم شخصيتها بدونه"، كما يقول انطون سعادة. إضافة لذلك إنَّ هذا الفهم والإقرار يؤدي بالضرورة إلى إدراك الحقيقة القائلة، بأنَّ وحدة الأمة والوطن تجعل الفرد والجماعة يتوجهان صوب فهم الأمة على حقيقتها، أي إدراك أنَّ "شخصية المتحد هي شخصية الأمة"[iv].

إنَّ هذا الفهم يجرّد الفكرة القومية من النزوع العرقي الضيق ويربطها بفكرة الأرض والتاريخ الثقافي الذاتي. من هنا قول انطون سعادة، بأنَّ مقصود القومية السورية الاجتماعية ليس رد الأمة إلى سلالة أو عرق معين، بل النظر إليها باعتبارها نتاج تاريخ طويل لتداخل مختلف الأقوام والشعوب. وبالتالي، فإنَّ "مبدأ القومية السورية ليس مؤسسا على مبدأ الوحدة الاجتماعية الطبيعية لمزج سلالي متجانس". على العكس، إنَّ مضمونها يقوم في إبراز الحقيقة القائلة، بأنَّ "مدلول الأمة السورية يشتمل على هذا المجتمع الموَّحد في الحياة، الذي امتزجت أصوله وصارت شيئاً واحداً. وهو المجتمع القائم في بيئة واحدة ممتازة عرفت تاريخياً باسم سورية وسماها العرب (الهلال الخصيب) لفظا جغرافياً طبيعياً محض لا علاقة له بالتاريخ ولا بالأمة وشخصيتها"[v]. وليس مصادفة أنْ يكون كل المؤرخين الذين حصروا سوريا بمكان جغرافي يخرج منه العراق وفلسطين وغيرها، هم أجانب. بينما يدل "تاريخ الدول السورية القديمة الأكادية والكلدانية والآشورية والحثية والكنعانية والآرامية والامورية على اتجاه واحد: الوحدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الهلال السوري الخصيب"[vi]. إنَّ هذا الفهم للحقيقة السورية بهذا الشكل يجعل فهم ما جرى فيها، بما في ذلك من حروب، مجرد أسلوب للسيطرة عليها كلها بوصفها كلاً واحداً. بمعنى أنَّ هذه الحروب لم تكن إلا نزاع على السلطة بين قبائل الأمة الآخذة في التكوّن، والتي استكملت بعد تكوّنها.

لقد أراد انطون سعادة بهذا الوصف إزالة البعد الجغرافي عن "سورية" وإحلال الفكرة القومية وإطلاق نسبها التاريخي الثقافي عليها. ووجد في ذلك إحدى المقدمات الفكرية الضرورية لتأسيس حدود ومعنى الفكرة القومية الاجتماعية. من هنا سعيه لإعلاء فكرة السوري والسورية عوضا عن مختلف التعابير الجزئية والأوصاف الجغرافية. وحتى حالما أقرّ بصورة جزئية بتوصيف"الهلال الخصيب" نراه يدرجه ضمن عبارة الهلال السوري الخصيب. بمعنى جوهرية الفكرة السورية. من هنا قوله بأنَّ الفكرة القومية التي يدعو إليها لا تتنافى مطلقا "أنْ تكون الأمة السورية إحدى أمم العالم العربي، أو إحدى الأمم العربية"، تماما كما أنْ "تكون الأمة السورية أمة عربية لا ينافي أنها أمة لها حق السيادة المطلقة على نفسها ووطنها". ووجد في "إغفال هذه الحقيقة" السبب القائم وراء إثارة مختلف الصراعات الجزئية والتقليدية بين "النزعة المحمدية العربية والنزعة المسيحية الفينيقية التي مزقت وحدة الأمة وشتت قواها"[vii]. لهذا نراه يشدد دوما على ضرورة فصل الدين عن الدولة وبالتالي إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب، بوصفه المبدأ الأساسي للوحدة القومية الحقيقية، كم انه دليل الوجدان القومي[viii]. من هنا استنتاجه النظري والعملي القائل، بأنَّ الفكرة القومية الاجتماعية هي المخرج من هذا المأزق[ix]. فهي الفكرة القادرة على إرجاع "سوريا" إلى أصولها الذاتية.

إنَّ الخلل الشكلي والمعنوي الذي سحب وراءه خلل الرؤية السياسية تجاه إدراك "الحقيقة السورية" بمعناها التاريخي والثقافي والدولتي يقوم في ضعف أو انعدام الإدراك السليم لسورية بوصفها كلاً واحداً حتى في اشد حالات صراعها الداخلي وتقسيمها. فقد جرت من الناحية التاريخية محاولات عديدة لتجزئة العالم السوري. إذ أطلق بيزنطة الاسم على سورية الغربية، بينما أطلقه الفرس على سورية الشرقية (العراق). أما البريطانيون والفرنسيون فقد قسّموه حسب مصالحهم إلى فلسطين وشرق الأردن ولبنان وسوريا (الشام) والعراق. وجرى حصر سوريا بمنطقة الشام فقط. كما جرى إخراج قبرص منها مع أنها قطعة من أرضها في الماء[x].

إنَّ الرجوع إلى الحقيقة السورية يكمن بما فيها من أصول ذاتية تاريخية ثقافية جعلتها كلاً واحداً متميزاً وفاعلاً في الوعي القومي نفسه. إذ لسوريا مآثرها الثقافية التاريخية الكبرى. ففيها نشأت الحروف، بوبصفه أحد أعظم الانجازات الثقافية الكونية. وفيها نشأت الشرائع المدنية وعمران البحر المتوسط. ومنها ظهرت شخصيات كبرى مثل زينون وبار صليبي ويوحنا فم الذهب وافرام والمعري وديك الجن الحمصي والكواكبي وجبران وغيرهم. إضافة إلى قواد عسكريين عظام مثل سرجون الكبير واسرحدون وسنحاريب ونبوخذنصر وآشور باني بال وهاني بعل إلى يوسف العظمة[xi]. ومن هذه الحصيلة توصل إلى استنتاج عام يقول، بأنه "في النفس السورية كل علم وكل فلسفة وكل فن في العالم"[xii]. مما يعطي لها حق التعامل مع نفسها باعتبارها ذاتاً قومية واحدة، أي أمة لها استقلالها المادي والمعنوي المرتبط بماهيتها الخاصة. وقد تضمن هذا الاستنتاج بالضرورة على فكرة الدولة القومية باعتبارها أداة تجسيد الروح القومي وأسلوب تقويته وبعثه وترقيته الدائمة.

لقد وضع انطون سعادة علامة مساواة تامة بين القومية والدولة الحديثة. وانطلق بذلك من كون الدولة هي الصيغة المثلى والتامة تمثيل المصالح العامة. لهذا نراه ينظر إلى الدولة باعتبارها "أرقى مرتبة في المصالح". ووجد سبب ذلك في كونها المؤسسة التي تشتمل على "جميع مصالح المُتَحِّد" (الجماعة). وتمام هذه الجماعة الحديثة هي الأمة. فالأمة هي أهم مُتَحِّد[xiii]. وبالتالي "كلما ارتقى المُتَحِّد في ثقافته المادية كلما ازدادت المصالح المعنية التي من شأنها ترقية الحياة الجيدة وتجميلها"[xiv]. فالقطر الذي هو مُتَحِّد الأمة أو المُتَحِّد القومي هو أكمل وأرقى متحد. وذلك لأن المصالح تنشأ في المجتمع لا خارجه، كما يقول انطون سعادة. إضافة لذلك إنَّ المصالح هي الحياة. وبما أنَّ الإرادة على قدر المصلحة، من هنا، كلما كانت المصلحة أساسية دائمة كانت الإرادة كذلك[xv]. ولا يمكن تجسيد وبلوغ كل ذلك بدون الدولة.

انطلق انطون سعادة في فهمة لماهية وقيمة وغاية الدولة في كونها الأداة الكبرى التي تجّسد الروح القومي وتعمل على ترقيته. من هنا فكرته عن انه حالما ظهرت الدولة "أصبحت هي شخصية المجتمع وصورته، يَعْظَمُ بعظمتها ويصغر بصغرها". ذلك يعني إنَّ الدولة هي التي تكوّن المجتمع، وتعين مداه، وتكّيف شئون حياته، وتمّثل شخصيته. واعتقد بأنَّ وظيفة الدولة كانت على الدوام منذ أنْ انبثقت "مع فجر التاريخ"، تماما بالقدر الذي تعمل فيه على إنشاء التاريخ نفسه[xvi]. وإذا كان للدولة، حسب تصور انطون سعادة، ثلاثة أشكال رئيسية وهي الديمقراطية والاتوقراطية والارستقراطية، فإنَّ تاريخها الخاص في سورية حدد ويحدد قيمتها بوصفها أداة إعادة بناء "الأمة السورية" في العالم الحديث.

فقد شكل نشوء الدولة السورية الصورة الأولى والنموذجية للدولة في التاريخ العالمي. وانطلق في تحديد ماهيتها وخصوصيتها بوصفها دولة مدنية لا دينية، محكومة بالشرع وليس بالأعراف والتقاليد والعقائد. وأعطى لذلك اسم "الدولة التاريخية". وعندما اجرى مقارنته الأولية والسريعة بين الدولة السورية (دولة بابل وآشور) والدولة المصرية، نراه يشدد على ما اسماه بتمركز القوة في بابل وممفيس. إلا أنَّ الفرق بينهما في "تفرّد النظامين السوري (الشنعاري) والمصري. فمع أنَّ حمورابي لبى دعوة الآلهة ليقيم القسطاس في الناس، فإنَّ شريعته الشهيرة التي خلدت ذكره، كلها أحكام زمنية دنيوية، وليس في بابل سلك الكهنة"[xvii]. ذلك يعني إنَّ نموذجها هو دولة القانون الوضعي الدنيوي بلا سدنة ولا كهنة. مما طبع بدوره تاريخها اللاحق، أي أنَّ الدولة السورية لها خصوصيتها المترتبة على فعل مكوناتها الثقافية الخاصة. وكل خروج عليها يؤدي إلى هلاكها. مع ما يترتب عليه من إقرار ضمني بضرورة الرجوع إلى "الحقيقة السورية" من اجل إعادة بنائها الحديث.

واتخذ من تاريخ الدولة السورية والخلافة نموذجاً بهذا الصدد. فقد اعتقد بأنَّ الدولة الأموية (السورية النشأة) أنقذت الإمبراطورية الإسلامية من حالة الفوضى وتطاحن القوات[xviii]. الأمر الذي جعله يجد في الدولة الأموية تجسيداً للنزعة السورية في معارضتها لما اسماه بتقاليد الصحراء. بحيث نراه يشدد على انه إذا كانت هنالك أرض تحدد الحياة والثقافة الإنسانيتين تحديداً يكاد يكون حتمياً فهي بدون شك الصحراء[xix]. ووضع في هذه الحصيلة المجتزأة من أفكار ابن خلدون عبر تحويرها بعبارة تقول:"لما كانت الجماعات الفطرية عموما واقعة تحت تسلط التصورات الخارقة (الدينية) كان الدين العامل الوحيد الذي يمكنه أن يُوجِد مركزاً مشتركاً للقبائل". واستكمل ذلك باستنتاج يقول، بأنَّ "بيئة القبائل اللاعمرانية تقبل فقط بالشرع الإلهي القاطع. وتجربة محمد في مكة، وهي الدولة الوحيدة التي أمكنها أنْ تصير دولة عامة في بلاد العرب" دليل على ذلك[xx]. إذ نعثر فيها على ما اسماه باستحالة بلوغ من أطلق عليهم صفة "الشعوب الشقيقة للشعوب الثقافية" مرتبة "الدولة الثقافية التاريخية".[xxi]

وليس مصادفة أنْ يتوسع نسبياً في تأويل التاريخ السياسي العربي الإسلامي من خلال "سرينته" بوصفه تاريخاً مدنياً. ومن ثم تاريخاً سورياً مقبولاً ومعقولاً بما في ذلك بمعايير العالم الحديث. من هنا قوله، بأنَّ "الدولة الدينية" التي صنعها النبي محمد "ما لبثت إنْ انتقلت إلى خارج بلاد العرب حيث دخلت في حوزة الشعوب الثقافية"[xxii]. وقبل ذلك كان الصراع فيها يجري بين مبدأ الانتخاب والنسب. وإذا كان الانتصار في البداية للاتجاه الداعي للانتخاب، فإنها سارت زمن خلافة عثمان في طريق وسط بين الانتخاب وشرعية الخلافة، أي أنها جعلت الانتخاب "لمرشحي العائلة"[xxiii]! استمر هذا الصراع بعد موت عثمان، حيث انتهى بفوز معاوية، بوصفه ممثل النزعة الدنيوية، على عكس الإمام علي ممثل النزعة الدينية. وسبب ذلك يقوم، من وجهة نظر انطون سعادة، في أنَّ "معاوية كان قد أصبح بين محيط غير المحيط العربي. فإنَّ العشرين سنة التي قضاها في سورية "سرينته" وأعطته اتجاهاً جديداً في الحياة الاجتماعية والسياسية". والمقدمة التاريخية الثقافية العميقة الكامنة في هذا التحول تقوم في أنَّ علم الدولة والسياسة وعلم الحقوق الدستورية والمدنية والشخصية كانت قد بلغت في سورية أرقى مرتبة عرفها العالم، فأثرت البيئة الجديدة تأثيراً كثيراً على معاوية وجهزّته ببعد نظر سياسي رجّحه على منازعه. ومن هذه الحقيقة ندرك السر في أنَّ معاوية لا عثمان أسس الدولة الأموية التي طورت الدولة في الإسلام تطويرا خطيرا"[xxiv]. وبالتالي، فإنَّ الفضل في إيجاد الاتجاه السياسي الدنيوي في الدولة الإسلامية يعود إلى الدولة الإسلامية السورية الأموية[xxv]. وعلى العكس من ذلك، حالما انتقل الأمر إلى العباسيين عادت الوجهة الدينية والعوامل الفقهية إلى السيطرة. فقد لبس الخلفاء العباسيون عباءة النبي وأولوا الوجهة الدينية معظم اهتمامهم. وذلك لبعد نشأتهم عن بيئة سياسية حقوقية مرتقية كالبيئة السورية. فقد خرج العباسيون من الجزيرة العربية إلى الملك رأسا واتخذوا شرق سوريا قاعدة لملكهم من غير أنْ يمروا بحقبة تمدن سوري[xxvi]. من هنا كانوا ضعفاء في سياسة الدولة. وهذا هو السبب في استفحال أمر البرامكة وغيرهم من العناصر الفارسية والتركية وعظم شأنهم في تسيير شئون الدولة[xxvii].

إن ما يقدمه سعادة من تفسير لتاريخ الخلافة ونوعية الدولة ومقدماتها وتحولها النوعي في سورية هو مجرد تأويل متحزب للفكرة السورية وليس تفسيراً علمياً للتاريخ الواقعي ونتائجه الفعلية. فكل ما يقدمه بهذا الصدد من تفسير وتصورات وأحكام لا علاقة لها بالبحث التاريخي والفلسفي الدقيق، وذلك لخضوعها شبه التام لمنطلقات وغايات أيديولوجية صرف. إذ ليس للدولة الأموية علاقة بالفكرة الدنيوية ونظامها السياسي. بل على العكس تماماً. فقد طوعت الأموية الدين بصورة "نموذجية" لخدمة مآربها السياسية. ومن ثم وضعت آلية وتقاليد المكر السياسي الصرف والابتعاد عن القيم الاجتماعية في فكرة الدولة. أما بالنسبة لمعاوية فقد كان ممثل الدجل الديني السياسي، بمعنى توظيف وتطويع الدين لمآرب شخصية خالصة، على عكس الإمام علي فقد كان الأخير ممثلا للتيار الاجتماعي والأخلاقي وليس الديني. وبالتالي يمكن اعتباره ممثل الفكرة الدنيوية النموذجية آنذاك. وينطبق هذا على كيفية تمّثل الفكرة القومية. فقد عمقت الأموية تقاليد الجاهلية والقبلية (الأموية والسفيانية)، على عكس العباسية.

لقد تركت الأموية بعد انهيارها المريع وزوالها السريع بقاياها الخربة في نمط التوريث والاستبداد واحتقار القانون وما شابه ذلك. وفي هذا يكمن سر زوال زمنها السياسي وبقاء تاريخ الدولة العباسية في تاريخ الوعي الذاتي العربي والإسلامي ككل. إنَّ حقيقة الدولة العباسية أكثر مدنية ودنيوية وثقافية وعربية من الأموية. فقد كانت الأموية عربية ولكن بمعايير القبلية الضيقة، بينما العباسية كانت عربية ولكن بمعايير الثقافة الكونية. الأولى صنعت ثقافة الإمبراطورية والثانية صنعت إمبراطورية الثقافة. والثانية نفي للأولى واستكمال لها.

وفيما لو أزلنا المغالطات التاريخية والفكرية والثقافية الكثيرة في آراء انظن سعادة بهذا الصدد، فإنَّ مضمونها كان يرمي إلى إحلال الرؤية الأيديولوجية المميزة للفكرة القومية السورية. بمعنى البرهنة على أنَّ التاريخ السوري وتقاليد الدولة فيه هي الوحيدة القادرة على إبداع نظام مدني حديث. وكما فعلت ذلك في الماضي فإنها الوحيدة القادرة على فعله الآن من بين "أمم العالم العربي". (يتبع....).

 

ا. د. ميثم الجنابي

..........................

[i] انطون سعادة: الإسلام في رسالتيه، ص57.

[ii] انطون سعادة:الآثار الكاملة، ج 2، ص83- 94.

[iii] انطون سعادة:الآثار الكاملة، ج 2، ص83.

[iv] انطون سعادة:الآثار الكاملة، ج 2، ص85.

[v] انطون سعادة:الآثار الكاملة، ج 2، ص87.

[vi] انطون سعادة: الآثار الكاملة، ج 2، ص87. وهنا يجدر القول الى أن العرب أول من تنبه الى ملاحظة وحدتها الجغرافية الطبيعية فسموها "الهلال الخصيب".

[vii] انطون سعادة: الآثار الكاملة، ج 2، ص88.

[viii] انطون سعادة:الآثار الكاملة، ج 2، ص92.

[ix] انطون سعادة:الآثار الكاملة، ج 2، ص89. لكنه استثنى إمكانية إدخال اليهود فيها. وذلك لأنهم عنصر محافظ مغلق. وفكرة الأمة السورية تقف بالضد من النعرات والعصبيات القومية الخاصة والغريبة، كما يقول انطون سعادة.

[x] انطون سعادة: الآثار الكاملة، ج 2، ص90.

[xi] إننا نثر هنا، كما في حالا عديدة الى جهل أو تجاهل للمرحلة العربية الإسلامية في "الفكرة السورية". بينما لا تعقل الأخيرة على حقيقتها وقيمتها وأهميتها بدون ذلك بوصفها الحلقة الجوهرية والرابطة والعضوي للكل السور (الهلال الخصيب العربي). فالأسماء التي يوردها هنا هي "شامية" وليست سورية، على الأقل ما يتعلق منها بمن بلور ويبلور الذهنية القومية الحقيقية لنزعة السورية بوصفها نزعة عربية، أو النزعة العربية بوصفها "سورية".

[xii] انطون سعادة:الآثار الكاملة، ج 2، ص93.

[xiii] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص147.

[xiv] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص145.

[xv] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص146.

[xvi] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص104.

[xvii] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص107.

[xviii] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص127.

[xix] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص124.

[xx] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص125. بل نراه يضع مقارنة بين الدولة التي أنشأها النبي محمد وبين الدولة التي أنشأتها الحركة الوهابية. وكتب بهذا الصدد يقول، بان "نشوء الدولة الوهابية العامة في القرن الماضي وعودتها الى الوجود بعد أن كانت قد قضت عليها الدولة العثمانية، مصداقا لقول ابن خلدون".

[xxi] أدرج انطون سعادة ضمن من اسماهم بالشعوب الشقيقة للشعوب الثقافية كل من العرب والمغول!!

[xxii] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص 10.

[xxiii] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص127.

[xxiv] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص126-127.

[xxv] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص127.

[xxvi] وهذه مغالطة تاريخية وثقافية وسياسية أيضا. فالتيار العباسي من حيث مقدماتها التاريخية ككل كان "عراقيا" أي "سوريا". وله تقاليده العريقة الأقدم مقارنة بمعاوية والأموية. إذ ليست "العباسية" في الواقعة سوى الحصيلة التي ترتبت على صراع القوى الإسلامية بمختلف مناطقها (العراق ومصر خصوصا) ضد انحراف الخلافة الى ملك التي بدأت مع تسلط عثمان بن عفان، وانته بمقتله.

[xxvii] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج5، ص127.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم