صحيفة المثقف

محمود محمد علي: محمد رسول الإرادة.. قراءة نقدية في كتاب الدكتور ميثم الجنابي (2)

محمود محمد علينعود ونستأنف قراءتنا النقدية في كتاب محمد رسول الإرادة لمؤلفه الدكتور ميثم الجنابي، وهنا في هذا المقال نجد الدكتور "ميثم الجنابي" أراد أن يطبع كتابه بخصائص جعلته يرقي إلي مستوي علمي رفيع، ومكنته من الوصول وبذلك يمكن قراءة أهداف المؤلف في هدفين أساسيين، أو جعلهما في دافعين:

الدافع الأول: نظري معرفي، يقوم علي ضم الفروع والجزئيات بعضها إلي بعض، والتماس الروابط بينها، وصياغتها في صيغة نظرية فلسفية، وهو ما لا يعلم "ميثم الجنابي" أن أحدا قام به من قبل، لا في شئ محرر، ولا في كتاب مصنف، بل لم ير أحداً حام حوله طائر فكره، أو جعله غاية بحثه ونظره، فرسخ في ذهنه أن هذا أمر مستحسن إظهاره، وإبراز تعم فائدته، وبيان خفيت معالمه، وهذا الدافع قد نصفه بالهدف الأول لتأليف الكتاب، أو الدافع الظاهري أيضا.

الدافع الثاني: واقعي دعوي، يقوم كما يقول "ميثم الجنابي":".. يمكن فهم المعنى الحقيقي الكامن فيما أسميته بمحمد رسول الإرادة، أي حياة وفناء الشخصية المحمدية في الصيرورة التاريخية والكينونة الثقافية للعرب (والمسلمين)، التي لا تشكل النبوة فيها سوى أسلوبها العملي ونموذجها التاريخي. وقد كان الجاحظ على حق عندما قال بأن حقيقة الإنسان إرادة. والنبي محمد هو أولا وقبل كل شيء إنسان، وبالتالي فإن حقيقته إرادة، لكنها إرادة البدائل الكبرى. ومن ثم ينبغي قراءة وفهم ما في الكتاب ضمن هذه الرؤية المنهجية وهذا السياق التاريخي والثقافي لصيرورته وكينونته وديمومته أيضا (9).

والسؤال الذي أود أن أسأله للدكتور" ميثم الجنابي": لماذا اختار محمد رسول الإرادة، ولم يختار مثلاً" محمد رسول الحرية"، مثل الكاتب المصري "عبد الرحمن الشرقاوي"، أو"الإنسان لكامل محمد صلى الله عليه وسلم"، مثل الشيخ "محمد متولي الشعراوي"، أو "إنسانيات محمد"، مثل "خالد محمد خالد"، أو "حياة محمد"، مثل محمد حسين هيكل، أو "محمد الرسول"، مثل "أنور الجندي" .. وهلم جرا ؟

وهنا يجيبنا " ميثم الجنابي" فيقول:" لأن رسول الإرادة يستند إلي فلسفتي التاريخية الثقافية ؛ وبالأخص ما له علاقة بفكرتي المنهجية عما أدعوه بالمسار التاريخي ومنطق الثقافة والاحتمال العقلاني للبدائل. والمقصود بالمسار التاريخي هنا هو مسار التاريخ الطبيعي الذي يمر ويتحقق بمراحل سبع أساسية، الثلاثة الأولى "طبيعية" صرف، والرابعة والخامسة بينية، بينما (السادسة والسابعة) "ما وراء طبيعية". وهي كما يلي: المرحلة الاثنية - الثقافية؛ المرحلة الثقافية - الدينية؛ المرحلة الدينية - السياسية؛ المرحلة السياسية - الاقتصادية؛ المرحلة الاقتصادية - الحقوقية؛ المرحلة الحقوقية – الأخلاقية؛ المرحلة الأخلاقية - العلمية.. إن جميع هذه المراحل انتقالية، بمعنى أن التاريخ عملية مستمرة تحتوي على احتمالات متنوعة من الصعود والهبوط، لكنها لا تنفي مضمون القانون الطبيعي للتاريخ، بل تؤكده بوصفه احتمالا عقليا وإرادة حرة (10).

ويستطرد المؤلف " ميثم الجنابي" فيقول: ومن ثم يمكن التوصل إلى استنتاج مفاده، إن الكينونة التاريخية للأمة هي كينونة إرادتها. والإرادة هي ليست فقط ما تريده، بل وما تعيه بمقاييس الواجب التاريخي للوجود والمثال. فاقتران كينونتها التاريخية بصيرورة إرادتها المثلى يكشف عن ضرورة جهادها واجتهادها بمعايير وعيها الذاتي، أي بمعايير الكلّ الثقافي المتراكم في مجرى تجاربه المتنوعة من أجل تذليل الحدود الذاتية في تجاربها التاريخية. وفي الحالة المعنية تذليل الكينونة العربية لصيرورتها التاريخية الثقافية في المرحلة الدينية السياسية عبر نقلها إلى المرحلة السياسية الاقتصادية من خلال تذليل فكرة وحالة الهيمنة الظاهرية والباطنية لفكرة الأصول الدينية (اللاهوتية) في كافة مجالات الحياة ومستوياتها النظرية والعملية (11).

ولعل من المفيد إلي أهم التوجهات الضابطة في مسيرة المؤلف الفكرية عبر قسميه؛ وأبرز هذه التوجهات وهو ما ظهر للمؤلف "ميثم الجنابي" بأن الشخصية الواقعية هي شخصية تاريخية؛ ومحمد واقعي فهو تاريخي. والصورة الأكثر صدقا هي القادرة على رؤية الصيرورة التاريخية والواقعية للشخصية، ومن ثم رؤية أفكارها ومواقفها وعقيدتها ضمن هذا السياق. فهو الأساس الضروري لبناء الصرح الفعلي لعالمها الذاتي. حينذاك فقط يمكن الكشف عما فيه من دهاليز وطرق قادرة على إيصال البحث فيها عما كان محمد نفسه يدعو إليه: الخروج من الظلمات إلى النور! بمعنى كيفية تراكم وتحديد مهمات وغاية التحدي للواقع التاريخي وشحذ الإرادة وعقلها الذاتي من اجل رسم ملامح وحدود البديل التاريخي (12).

بيد أن النبي محمد صلوات الله عليه في نظر " ميثم الجنابي" لم يفكر ولم يضع أمام ناظريه ما ندعوه الآن بمهمات الحاضر والمستقبل، وذلك لأن المرجعيات الممكنة والمحتملة بالنسبة لنقل الأقوام والأمم إلى المرحلة الدينية السياسية تظل دوما محكومة بفكرة الواحد المتسامي والوحدة الخالصة لروح الجماعة النقية والتقية. وهي مرجعية قادرة على إبداع مختلف النماذج العملية الضرورية لحل المشاكل والقضايا التي تواجه الأمة والدولة؛ بمعنى أنها تمتلك الصيغة النظرية المجردة للاجتهاد النظري والعملي. الأمر الذي يجعل من تحرير الرؤية العلمية من غشاء العقائد الدينية واللاهوتية أسلوبا لإرجاع محمد الحقيقي وحقيقة محمد إلى أصل وجذر واحد، ألا وهو كفاحه الذاتي وبناء شخصيته في مجراه. وضمن هذا السياق يمكن القول، بأن المصدر الأكثر دقة لإدراك شخصية محمد وحقيقتها هو القرآن. وبالتالي، فإن إعادة ترتيب آياته بما يتوافق مع زمن "نزولها"، أي بما يتوافق مع ما أطلقت عليه الثقافة الإسلامية عبارة "أسباب النزول" سوف يساهم في رؤية شخصيته التاريخية والواقعية كما هي، ومن خلالها تتبين ملامحها ومعالمها الفعلية. وذلك لأن الرؤية الواقعية والعلمية الدقيقة هي أكثر "قدسية" من تقديس اللاهوت الأجوف (13).

وثمة توجه آخر لميثم الجنابي يتمثل في أن النبي محمد صلوات عليه وسلامه، استطاع أن يجمع بين الإنسان والنبوة، أو أن النبوة امتداد للإنسان فيه واستكمال له وتحقيق ما فيه من خصال وتجارب. إذ لم يتحول محمد إلى نبي بل صار إياه. والنبوة، شأنها شأن كل حالة نوعية في الاحتراف الإنساني لها مقدماتها وخصوصيتها. فالأنبياء كالعلماء والشعراء والفلاسفة والأدباء وقادة الحروب وأهل السياسة والدولة، لكل منهم خصوصيته وموقعه فيما ينتمي إليه وصار جزءا منه، وأثره في تقاليد احترافه وخارجها (14)؛ علاوة علي أن النبي محمد حقق بذاته صيغة ما أسماها الكاتب "بلوغ مصاف المرجعية المطلقة لاتباعه (المسلمين) مما أدى الى أن تقتطف هذه الصيغة من كل الأنواع الأخرى ما يمكّنها من تعزيز قيمتها المرجعية الروحية والفكرية الدائمة. لاسيما وأنها تغلغلت جميعا في مسام المعركة التاريخية الكبرى التي قادها في نقل العرب من الطور الثقافي الديني إلى الطور الديني السياسي، أي إرساء أسس الانتقال الأكبر والأعقد في تاريخ العرب ولاحقا المسلمين بمختلف أقوامهم وشعوبهم وأممهم. وهي العملية الثقافية الكبرى التي أسست للطابع الثقافي للقومية العربية والأمة الإسلامية ككل (15).

أما التوجه الثالث فيتمثل في ربط المؤلف بين شخصية النبي محمد صلي الله عليه وسلم وبين حضوره في الثقافة النظرية الإسلامية (16)، وعلم الكلام (17)، والفلسفة الإسلامية (18)، والتصوف (19)، والتاريخ الإسلامي في القرن السابع والثامن الهجري (20)، والتأليف الحديث (21).

علي أن هذه التوجهات قد صاحبها ثلاث نزعات للمؤلف: إحداها نفسية والثانية أخلاقية، والثالثة عقلية. أما الأولي من هذه النزعات، فتتمثل في إفراط " ميثم الجنابي" في القول بأن: الشخصية المحمدية هي وجود جوهري في الوعي التاريخي (العربي والإسلامي). ومن ثم فهي غير قابلة للتكرار، لكنها قابلة للاستعادة المطلقة. وإذا كان الصوفية أكثر قربا في إدراك كليته، فإن قربهم ظل محصورا في ميدان الذوق. بينما تتبعوا في سلوكهم آلية التجزئة، بحيث جعلوا من شخصيته المتعددة الجوانب نموذجا أخلاقياً مطلقاً. بينما جعلت منه السلفية المتحجرة صنما. بمعنى قبوله للتمثل وفقدانه للحياة. وترتب على ذلك حصره في أحادية هشة، ومسخه الميتافيزيقي، وابتذاله المذهبي، بحيث أدى إلى إخلاء الصراع من الأرضية التاريخية القلقة التي بلورت شخصيته الفعلية (22).

وأما التوجه الثاني فتتبدي لنا بجلاء في مواضع عديدة من الكتاب يعزف فيها "ميثم الجنابي" لحن الوفاء للنبي محمد صلي الله عليه وسلم ؛ حيث يقول:" لقد كشف النبي "محمد" صلي الله عليه وسلم عن قدرة عملية هائلة في مختلف ميادين الحياة وعن مساع نقدية ظهرت في البداية برفض ما هو مخالف للحق. غير أن هذا الموقف النقدي والرافض لما هو سائد لم يتبلور بين ليلة وضحاها. انه نتاج أربعين عاما من العيش والتأمل العميق، اللذين استندا بدورهما إلى التقاليد العربية، والتي ظل أثرها بارزا في كلامه وفعله. ولم يجد حرجا في ذلك. على العكس فقد كان نشاطه بينها من أجل توحيدها يجري من خلال نفي التجزئة القبلية نفسها. وكان لا بد من أن تتلألأ هذه "القبلية" أحيانا في أفضل تجلياتها وأسماها. إلا أن ظهورها في سلوكه هو مجرد تمظهرها الخارجي، بوصفها البقايا الضرورية لإرث صيرورته الشخصية (23)... وللحديث بقية..

 

الأستاذ الدكتور / محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط .

.....................

(9) ميثم الجنابي: محمد رسول الإرادة، ص 23.

(10) نفس المصدر، ص 19.

(11) نفس المصدر، ص 19-20.

(12) نفس المصدر، ص 24.

(13) نفس المصدر، ص 24.

(14) نفس المصدر، ص 24.

(15) نفس المصدر، ص 26.

(16) نفس المصدر، ص 17.

(17) نفس المصدر، ص 38.

(18) نفس المصدر، ص 41.

(19) نفس المصدر، ص 42.

(20) نفس المصدر، ص 45.

(21) نفس المصدر، ص 48.

(22) نفس المصدر، ص 52.

(23) نفس المصدر، ص 62-63.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم