صحيفة المثقف

محمود محمد علي: محمد رسول الإرادة.. قراءة نقدية في كتاب الدكتور ميثم الجنابي (3)

محمود محمد عليعلى خلاف النبوات التى ختمت فى بنى إسرائيل قبل البعثة الإسلامية بنحو تسعة قرون، جاءت النبوة المحمدية نبوة هداية، ليست نبوة استطلاع للغيب ولا إفحام للعقول بالخوارق المفحمة المسكتة، وإنما هى نبوة هداية أراد الله تعالـى لهـا أن تخاطـب وتفتــح "العقول" و"البصائر"، لا أن تفحمها وتقعدها عن النظر والتأمل والتدبر والتفكير والفهـم ـ ليست مهمة النبى أن يعلم الغيب "إِنَمَا الْغَيْبُ لِلهِ» (يونس 20)، وعلمه عند الله، "وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَ هُوَ" (الأنعام 59)، "يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَاعَةِ أَيَانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِى لاَ يُجَلِيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَ هُوَ" (الأعراف 187).. هذا المعنى الفارق لم يكن محض تصور متروك لاستخلاص الناس أصابوا فى ذلك أم أخطأوا، وإنما هو توجيه قرآنى صادر بأمر ربانى صريح إلى النبى أن يبدى للناس أنه ليس إلا بشرا رسولا اصطفاه ربه لحمل وأداء الرسالة .

لذلك أراد الإسلام لنبوة القرآن أن تكون نبوة فهم وهداية تدعو بكتابها المبين إلى النظر والتأمل والتفكير، وليست نبوة استطلاع وتنجيم وخوارق وأهوال.. النبى ليس منجما ولا عالمـا بالغيب، وليست النبوة نبوة سحر أو رؤى أو أحلام أو قراءة طوالع وأفلاك.. «قُل لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعا وَلاَ ضَرا إِلاَ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَنِى السُوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» (الأعراف 188).

لذلك حرص رسول القرآن أن ينحى عن أذهان الناس سمعة المعجزة المسكتة عندما جاءته ميسرة يوم كسفت الشمس وظن الناس أنها كسفت لموت ابنه إبراهيم، فأبى عليهم ذلك، ونبههم إلى أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تخسفـان لمـوت أحد ولا لحياته.. ومع تعدد ما ورد فى المأثورات عن المعجزات والآيات التى صاحبت مولد محمد عليه السلام وطفولته، إلا أن عنايته الكبرى كانت بلفـت انتبـاه الناس إلـى معجـزة القـرآن وما ينطوى عليه من آيات ومدد لا ينقطع (وذلك حسب ما ذكره أستاذي "رجائي عطية" في مقاله بعنوان "النبوة المحمدية أوائل النبوات").

ومن هذا المنطلق وجدنا أن النزعة العقلية تبدو لنا واضحة في حديث "ميثم الجنابي" عن فقدان "المواد الوثائقية" للنبي صلي الله عليه وسلم؛ حيث يقول ميثم الجنابي:" إن فقدان "المواد الوثائقية" عن حياته السابقة للدعوة هو نتاج لانعزاله الفردي. إذ لا تحتوي كتب السير والتاريخ سوى معلومات قليلة عنه، بينما تسهب عن أهله وأسلافه، ابتداء من قصي وانتهاء بعبد المطلب. لا سيما وإن الموقع الاجتماعي لأجداده وأسلافه والأخبار المنقولة عنهم عبر ذاكرة الأجيال، يجعل من الصعب تجاهل قيمة أخبار البيت الهاشمي حتى في مراحل ضعفهم الاقتصادي والاجتماعي. وقد أدى هذا الضعف على خلفية اليتم المبكر والفقر إلى أن تكون العزلة والانعزال ملاذه الأخير. ونعثر في القرآن على دفاع شديد عن الأيتام، بحيث وضع إهمال اليتيم في مصاف الكذب بالدين كما في الآية: "أرأيت الذي يكذب بالدين. فذلك الذي يدع اليتيم"، أو أن يجعل من إطعام اليتيم إحدى "ضمانات" دخول الجنة كما في قوله "وما أدراك ما العقبة. فك رقبة. وإطعام في يوم ذي مسغبة. يتيما ذا مقربة" .. الخ (24).

إن هذه النزعات وما صاحبها من توجهات قد أسهمت في تشكيل رؤي " ميثم الجنابي" وتنظيراته التي ضمنها كتابه الذي بين أيدينا.

وينهج الدكتور "ميثم الجنابي" في معالجته لقضية منهج الكتاب خلال أقسامه، منهجا نقديا في كل أقسامه، مع استخدام منهج تحليلي تركيبي، بمعني أنه كان معنيا بتحليل أقوال الآخرين فيما يتعلق بالمنهج ووسائله ووسائل التحقق به عند كل الطوائف والأفكار الأخرى.

لقد استطاع المؤلف "ميثم الجنابي" الوصول إلي نتائج ترفع من مستوي القارئ، وتجعله يقترب بسهولة من الكتاب إلي درجة الألفة والاستئناس، ويمكن إيجاز هذه الجوانب الإيجابية من المؤلف ما يلي:

أولاً: الجانب المعرفي: لقد جاء الكتاب مفعماً بالجانب المعرفي من حيث أن المؤلف وقف في الوصول إلي المعارف الضرورية لإنجاز هذا الكتاب، فقد تتبع المسار التطوري للفهم الصحيح للإسلام وحديث المؤلف عن الفهم هو حديث عن المعرفة، وعن نظرية المعرفة؛ لأن المعرفة والبناء المعرفي لا يمكن أن يتحققا إلا بقاعدة ثابتة من الفهم، ومن الأمثلة علي ذلك قول "ميثم الجنابي" في الإرادة الإلهية:" لكن المنطق يكشف ويبرهن على حقيقة جوهرية ألا وهي أنَّ غلبة الإرادة في التحدي الشامل جعلت من "إرادة الله" الملجأ الأول والأخير لاختيار الفعل بوصفه تحدياً. وبالتالي، فإنَّ "إرادة الله" تعني الإرادة المطلقة، أي إرادة اختيار الفعل بمعايير الحق، التي ستجد منفذها الجلي بالنسبة للوعي الديني والسياسي والأخلاقي في ما يسمى بأسماء الله الحسنى، بوصفها مؤشرات على الفضائل العملية. بينما يشكل اختيار أي منها تحقيقاً للإرادة. وضمن هذا السياق يمكن فهم تنوع واختلاف المواقف من الشدة إلى الرحمة، ومن الهجوم إلى الصبر وكثير غيرها، على وحدة الثبات في التغير. وذلك لأنَّ عدم اقتران الفعل المختار بمعايير الحق يؤدي بالضرورة إلى زعزعة اليقين وخلخلة الإرادة. فالإرادة الحقيقة بلا رغبة. بينما الإرادة المقيدة بالرغبة مجرد أهواء عابرة. ومن ثم ليست قادرة على الصمود أمام التحديات الكبرى. فقد جعل النبي محمد من كل تحد درجة قصوى، وانه لا صغائر في الأمور، انطلاقا من أنَّ الأشياء بالنسبة لله كلها سواء. الأمر الذي يجعل من الأشياء كلها سواء بالنسبة للإرادة المتسامية (25)؛ ثم يؤكد قائلا: ونعثر على هذه الصيغة في شخصية محمد وإرادته حالما تجسدت في حالة "شخصية نبوية وإرادة متسامية". ولعل الحادثة الشهيرة عن رفضه المساومة على نبوته وإرادتها الفاعلة مهما كلفه الأمر بالعبارة الشهيرة "حتى يظهره الله أو اهلك دونه". ففي هذه العبارة والموقف نعثر على باعث اليقين بوصفه جوهر الإرادة المحمدية. فالإرادة المتسامية تعادل على الدوام فكرة اليقين. إذ يتغلغل اليقين في الإرادة ويتماهى معها بالشكل والمضمون، بحيث لا يمكن التفريق بينهما. فقد ظهرت عنده منذ البداية فكرة "حق اليقين" و"عين اليقين". وهو يقين يختلف عن يقين العلم والمعرفة، ويقين التقليد، ويقين البلادة والغباء. فالأول يحتمل الشكوك، بينما الثاني لا يعرف الشك، أما الثالث فهو يقين التقليد بمختلف مظاهره وأشكاله، والذي كان يطغي على تقاليد الوثنية العربية. أما اليقين المحمدي فهـو يقين متفائل، وذلك لأنه يقين النبوة أو حدس الوجدان الخالص. من هنا تداخل التفاؤل بالمعاناة العميقة التي تضعه أحيانا أمام هاوية اليأس والقنوط، ثم تعيده من جديد إلى تفاؤل مغر. فالإنسان الذي يدرك إرادته على أنها الحلقة الرابطة بين الأزل والأبد لا يصاب باليأس والقنوط، أو على الأقل أنَّ هذه الأحوال تظهر وتضمحل بوصفها شفرات القطع الحادة لما هو عالق وعابر، أو حجر المبرد الذي يقطع الشكوك بيقين الإحساس الجديد بنعومة "الأذى"!(26).

ثانياً: التتبع الدقيق للحقائق التاريخية للنبي، فقد وفق المؤلف في الوصول إلي الحقائق التاريخية للنبي صلوات الله وسلامه عليه وتقديمها في صورة لا يجد القارئ صعوبة في إدراكها والإلمام بها، فقد اختار الوسائل المساعدة لذلك، من عرض نظري لنقد نصوص المؤرخين، إلي مجال تطبيقي معتمدا في ذلك علي نقد جملة من النصوص التاريخية التراثية، والتي توصل المؤلف من خلالها إلي حقيقة مهمة، ومن الأمثلة علي ذلك قوله:" بلورت الثقافة الإسلامية مختلف الصيغ النموذجية عن النبي محمد. بحيث ارتقى فيها إلى مصاف النبوة المتسامية، أو نبوة التشريع وخاتمة الشرائع والأديان. الأمر الذي جعل من التعامل معه بمعايير النبوة، كما بلورتها الثقافة الإسلامية في مجرى تطورها، ميدانا للاختلاف والاجتهاد، لكن المشترك فيها وبينها هو جعله نموذجا، ومثالا، ومرجعية مطلقة، وميزانا توزن به الأقوال والأعمال. بحيث لم تتورع الثقافة هذه نفسها، على الأقل في بعض تياراتها، من أن تبتدع أحاديث مزورة من حيث الصياغة لكنها معقولة من حيث المعنى كما نراه، على سبيل المثال، فيما ينسب إليه من قول: "إذا أنا مت كانت وفاتي خيرا لكم، تُعرَض عليّ أعمالكم"، و"إني أوشك أن ادعى فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وأهل بيتي" (27).

وهنا ينتقد هذا القول فيقول:" لكن مفارقة هذه الظاهرة تقوم في أن كتب "السيرة النبوية" بدأ من عروة بن الزبير (ت-93 للهجرة) مرورا بإبان بن عثمان (ت- 101 للهجرة)، وشرحبيل بن سعد (ت-121 للهجرة)، وابن شهاب الزهري (ت-124 للهجرة)، وانتهاءً بمحمد بن إسحاق (ت-151 للهجرة)، وبعدها أخذ منه وعنه ابن هشام (ت-213 للهجرة) في كتابه المشهور (السيرة النبوية) ولاحقا يضيف لها أو يتوسع في بعض جوانبها محمد بن سعد (ت-230 للهجرة) في (كتاب الطبقات)، هي تجميع كمي للمعلومات فقط (28).

ثالثا: الإحاطة الجيدة لحدود الموضوع المدروس، لقد أبان المؤلف عن حسن تبصر، وعن رؤية واضحة للموضوع المدروس، مما جعله متمكناً من المعلومات التي يعرضها، حتي استطاع أن يوجهها لخدمة الغرض الديني الذي وُضع من أجله الكتاب، ويتضح لنا ذلك من خلال مناقشة ميثم الجنابي لتقييم شخصية محمد عند الغربيين، حيث يقول المؤلف:" اما بالنسبة لدراسات والابحاث التي كتبت عنه في الثقافات غير الإسلامية، وبالأخص عند الأوربيين فقد اختلفت فيه الآراء والمواقف والأحكام. وفي اختلافاتها وتنوعها تعكس اولا وقبل كل شيء اختلاف مراحل الأحكام، ومستوى تطور المعرفة وتدقيق العلوم، ونوعية المناهج، إضافة إلى مختلف الصيغ الظاهرية والمستترة لانتماء الباحثين الديني والقومي والثقافي.. ثم يعطسنا إشارات كثيرة لبعض الكتب "النموذجية" بهذا الصدد، مثل: المؤلفات القديمة التي كتبها بيوتر الموّقر (ولد عام 1594)، الذي ألف كتابان، الأول تحت عنوان (سيرة النبي وحياته) والثاني (جدل بين مسلم ونصراني). وكلاهما مليئان بالتشويه والكذب.()12، ومثل كتاب كوسين دي بيرسيفال(1795-1817) عام 1846-1848 عن (تاريخ الاسلام وحياة محمد) بثلاثة أجزاء. وتبعه أو تزامن معه كتاب ميولر عام 1858 بأربعة مجلدات ضخمة عن حياة محمد هي من بين أفضل الأعمال المكتوبة آنذاك بالإنجليزية وصدرت تحت عنوان (حياة محمد وتاريخ الاسلام منذ الهجرة، مع مقدمة خاصة بالمصادر الأصلية المتعلقة بسيرة محمد). () 13، وكذلك مثل كتاب بيل، ر. (أصل الإسلام في بيئته النصرانية) عام 1928 بالإنجليزية، وكتاب سويتمان ج. (الاسلام واللاهوت النصراني) بثلاثة أجزاء (1945-1955) بالإنجليزية، وكتاب المؤلفان فيول ف.، وشنايدر (حياة محمد) بالألمانية 1955، وأخيرا كتابات واط مونتغومري واط (محمد في مكة) (1953) و(محمد في المدينة) (1956) وكلاهما بالإنجليزية. والأخير من بين أكثر الكتب موضوعية ودقة وتتبعا لحياة محمد العملية (29). ... وللحديث بقية..

 

الأستاذ الدكتور / محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط .

.....................

(24) ميثم الجنابي: محمد رسول الإرادة، ص 67-68.

(25) نفس المصدر، ص 178.

(26) نفس المصدر، ص 179.

(27) نفس المصدر، ص 8.

(28) نفس المصدر، ص 9.

(29) نفس المصدر، ص 14.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم