صحيفة المثقف

علي رسول الربيعي: مناظرة غادامير- هابرماس.. التأويل والنظرية النقدية

2372 Habermas and Gadamer1عرض هابرماس نظريته في المعرفة والمصلحة، بتصنيفها الثلاثي الأبعاد للعلوم، لأول مرة في محاضرته الافتتاحية في جامعة فرانكفورت عام 1965،[1] بعد خمس سنوات من نشر غادامير كتابه "الحقيقة والطريقة". تبين منها ما ستكون عليه القضايا الرئيسية للمناظرة أو النقاش مع غادامير: قدم هابرماس تفسيره للمعرفة والمصلحة وكشف عن أهمية الدور الذي يسنده إلى العلوم التحليلية والتجريبية؛ على عكس مطالب المثالية الظاهراتية، وعلى عكس النسبية التاريخية للتقاليد عند غادامير ايضًا، قدم هابرماس نظريته النقدية وأكد على وظيفتها التحررية؛ وقام في معارضة الشمولية التعميمية لهيرمينوطيقا (تأويل) غادامير، من خلال تقييده هذه المطلقية ونطاق الهيرمينوطيقا.

اندلع نقاش غادامير-هابرماس مع نشر هابرماس في عام 1967 "مراجعة كتاب غادامير" الحقيقة والطريقة".[2] أتفق فيها هابرماس مع غادامير على أن مقاربة الواقع الاجتماعي تكون بالضرورة من خلال الفهم التفسيري/ التأويلي، بوساطة اللغة التي تحملها التقاليد الثقافية حيث يربط المفسر/ المؤول ما يريد فهمه بمعتقداته ونظامه القيمي. لكن يعارض هابرماس إضفاء الطابع المطلق على اللغة والتقاليد الثقافية من قبل غادامير، اذ يرى- هابرماس- في ذلك "أننا نُسلم إلى الأحداث (والتقليد) التي تتغير فيها ظروف العقلانية بشكل غير عقلاني، حسب الزمان والمكان، والعصر والثقافة".[3] ويرى أنه طبقًا "للحقيقة والطريقة"، فإن النسبية الثقافية واللغوية لكل فهم ممكن ينتج عنها هيرمينوطيقا محدودة حصريًا للحوار ودمج الأفق. فيصبح هذا التاريخ ذا مغزى فقط في نتائجه "الفعالة" والمؤثرة؛ ويكون تفسير الواقع الاجتماعي غير نقدي ومرتبط باللغة والتقاليد.

ينظر هابرماس إلى هذه الصعوبات في هيرمينوطيقا غادامير بوصفها حصيلة "تصور اللغة كمقياس تعتمد عليه جميع المؤسسات الاجتماعية.[4]" تصبح اللغة إذن متطابقة مع المؤسسات الاجتماعية؛ ويُطمس التمييز بين الواقع اللغوي وغير اللغوي؛ وبالتالي يُختزل البحث الاجتماعي في تفسير اللغة. فيشير هابرماس، مقابل هذا الاختزال اللغوي، إلى أن اللغة لا تستنفد العملية الاجتماعية ولا هي السلطة النهائية في الحياة الاجتماعية، فاللغة نفسها تعتمد على القوى غير اللغوية لأنظمة الهيمنة والفعل الاجتماعي، حيث يمكن أن تتغير التقاليد اللغوية طبقا للأوضاع التجريبية.

يقدم هابرماس نقدًا لاذعًا لمفهوم الحكم المسبق عند غادامير ذلك لأن تأييد غادامير لصحة الأحكام المسبقة المصدق عليها من قبل التقاليد تنفي قوة التفكير.[5] يسعى هابرماس، على العكس من ذلك، إلى تمكين القدرات النقدية للتفكير من تفكيك العقائد الدوغمائية التقليدية. فيقترح أن يتم الجمع بين الهيرمينوطيقا ونقد الأيديولوجيا، حيث يظهر اعتماد الشرعية اللغوية فيما يخص العلاقات الاجتماعية على الظروف الفعلية.  إنه بمجرد ألا يُنظر إلى اللغة كإجراء استدلالي ولكن بوصفها مشروطة بالعمليات الاجتماعية الواقعية التجريبية للسلطة السياسية والعمل تنكشف القدرة الأيديولوجية للغة، وتتغير "التجربة الهيرمينوطيقية التي تواجه هذه التبعية وهذا الاعتماد للإطار الرمزي على الظروف الفعلية إلى نقد الأيدلوجيا ".[6] يقترح أيضًا إلغاء الطابع المطلق لهيرمينوطيقا غادامير عن طريق وضع التقاليد الثقافية ضمن أطر الفعل الاجتماعي والتاريخ العام الكلي، والتي تثبت وتؤكد الأوضاع والظروف التجريبية التي تنشأ بموجبها التقاليد وتتغير.

تتبع "ردود" غادامير منظور هيدجر في أن مهمة الهيرمينوطيقا الفلسفية أنطولوجية (وجودية) وليست منهجية؛ ولغويًا هي الصيغة الأساسية للوجود البشري؛ ومن هنا جاءت “عمومية" الهيرمينوطيقا، "التي لا يُستثنى منها أي شيء"، بما في ذلك التفكير النقدي الذي يقترحه هابرماس. كما أنه من غير  الممكن أن تخترق اللغة شروطها وأوضاعها التجريبية في العمل والسيطرة، لأن هذه "الأوضاع" نفسها يتم توسط اللغة فيها؛ فجميع موضوعات المعرفة ومنهجياتها "محصورة في أفق اللغة العام. لا يُستثنى نقد الإيديولوجيا من تاريخية ولغوية الفهم من القبول غير النقدي للتقاليد. ولا يمكن حتى لمفهوم هابرماس حول التفكير النقدي، الذي يعبر عن مثال أو نموذج للعقلانية، أن يدعي الاستقلال عن التقليد التاريخي ولا يمكنه الخروج من دائرة الهيرمينوطيقا.[7]

لا يجد هابرماس، من جانبه، صعوبة في قبول الوضع المتعالي (transcendental) للغة والتاريخية كشرطين ضروريين لإمكانية التجربة. ومع ذلك، يبدو أن هدف النقاش هو الخروج من النسبية السياقية والظرفية[8] لهيرمينوطيقا غادامير من أجل بناء أرضية مدعومة عقلانيًا للبحث الاجتماعي؛ وللخروج من التقليد الهيدجري والغاداميري  من أجل  تقديم نقد للتشويه الذي تمارسه الأيديولوجيات وممارسة التحرر الاجتماعي.[9]  قد يُنظر إلى هابرماس طبقًا لهذه الأهداف، على أنه "أسسي كانطي، ويعبر عن نوع متعالي من الأسسية.[10]  أنه يقع تحت فئة المعبرين عن نظرية التفسير الشكلي الأسسي. ومع ذلك، فإن من سمات رؤية هابرماس، بدءًا من المعرفة والمصلحة هي ربطه البنى العقلانية المتعالية المسبقة بالظروف العلمية- التجريبية.

يتوج سعي هابرماس الأخير لوضع الأسس العقلانية للنظرية والممارسة الاجتماعية بنظرية العقلانية التواصلية، ونظرية التطور الاجتماعي.[11] تستند كلتا النظريتين إلى مفهوم للعقلانية متأصل في التواصل البشري، وعلى إمكانية "إعادة بناء عقلاني" لأنواع الواقع الاجتماعي - اللغوي والمعرفي والثقافي. فعلم إعادة البناء هو العلم الذي يتعهد بجعل معرفة ضمنية صريحة ومنظمة وممنهجة.

يستلزم مفهوم هابرماس "للبراغماتية الشاملة" إعادة بناء عقلاني للمفاهيم والقواعد والمخططات المتضمنة في الكفاءات المعرفية واللغوية والتفاعلية. يمكن التعرف بسهولة على هذه القواعد الشكلية  للبراغماتية الشاملة العامة بوصفها أحد أشكال الفلسفة الكانطية المتعالية، في شكل شروط ضرورية لإمكانية اللغة والتواصل؛ على الرغم من أن قواعد علم إعادة البناء مكونة من بيانات تجريبية لاحقة، إلا أنها  تعتمد بشكل مسبق على حالة شبه متعالية وهي  تؤسس الافتراضات العامة الضرورية للتواصل وتحافظ عليها.[12] تبرز البراغماتية الشاملة لهابرماس كمثال مبتكر لنظرية التفسير الشكلي ( الذي يتم وفقًا للقواعد) المتجذرة في الظروف التجريبية.[13] وهكذا فإن القواعد الشكلية التي تجعل التواصل ممكنًا هي نفسها أصبحت ممكنة بفضل الشروط التجريبية للكفاءة التواصلية الفعلية. تجعل علوم إعادة البناء عند هابرماس الشروط التجريبية للتفسير مبادئ عقلانية ممكنة وعامة وشاملة؛ على عكس نظرية التفسير التجريبي التي تجعل اختلاف الشروط التجريبية للتفسير ممكنة. يظل منطق مشروع هابرماس النظري، على الرغم من اهتمامه بفكرة التغيير، مطابقًا لطروحاته في كتاب "المعرفة والمصلحة" حيث يمتد منطق التحقيق والتساؤل مثل المنطق المتعالي إلى بنية تكوين المعرفة ذاتها؛ ولكن، تتجسد هذه البنية المنطقية كعملية استقصاء، في ظل ظروف تجريبية.[14]

لقد رد هابرماس على نقاده قائلًا: أنه مقتنع بالإمكان التواصل مع أسلوب كانط المتعالي لطرح الأسئلة دون الاضطرار إلى تبني طريقته وافتراضاته الأساسية.[15]

إن الهدف من البراغماتية الشاملة هو إعادة بناء أساس المحادثة أو الخطاب ليكون ذات صلاحية عامة وشاملة. يحاول هابرماس من خلال إعادة بناء الخطاب والمحادثة اليومية أن يضع أساسًا معياريًا للنظرية الاجتماعية. علاوة على ذلك، ستقدم إعادة البناء المعياري للخطاب العادي مفهوم الاتصال غير المشوه، وبالتالي تُمكن من نقد الأيديولوجيا لفضح التشويه الذي تمارسه. إن إعادة البناء التي تسعى إليها البراغماتية الشاملة هي الكفاءة التواصلية التي تفترضها أفعال الكلام في الخطاب العادي. يدعي هابرماس أن العلاقة بين المتكلمين لها أساس عقلاني يقوم على ادعاءات بالصحة والصدق؛ وهي متضمنة في أفعال الكلام الخاصة بذات المتحدث ويتم التعرف عليها ضمنيًا من قبل المستمع. يدعي كل متحدث ضمنيًا بخصوص فعل الخطاب/ الكلام أن ما يقال مفهوم وجليً؛ وأن مضمون اراءه وأحكامه وافتراضاته صحيحة؛ وأن فعل الخطاب/الكلام نفسه مناسب؛ وأن المتكلم صادق.

تفترض الكفاءة التواصلية، بالإضافة إلى ادعاءات الصحة هذه، مجموعة من المسلمات البراغماتية اللغوية، مثل الضمائر الشخصية والأفعال الأدائية والقصدية حيث تعتبر أساسية لأي موقف أو خطاب.[16] تندمج هذه الافتراضات المسبقة للكفاءة التواصلية في مفهوم وضع الخطاب المثالي. وإن وضع هذا الخطاب، على الرغم من كونه غير واقعي، اللا أنه افتراض لا مفر منه للتواصل: أنه يوفر مناقشته غير محدودة ومنفتحة وحرة ومتساوية، وخالية من القيود الخارجية، وتوزيعًا متماثلًا لفرص الاختيار وتطبيق أفعال الكلام؛ وهذه شروط للشكل المثالي للحياة الاجتماعية أيضًا.

تقع مسألة الحقيقة ضمنيًا أيضًا في بنية موقف الخطاب المثالي. تتأسس الحقيقة، من وجهة نظر هابرماس، (متبعًا جارلس بيرس) بالإجماع العقلاني، أي "بقوة الحجة الأفضل"، وهو معنى القول: أنها تتحقق في ظل الظروف الحرة والمفتوحة والمتساوية لحالة الخطاب المثالية. إن الإجماع الذي تدعمه التقاليد (غادامير) أو تفرضه الهيمنة يفشل في اختبار العقلانية. وهكذا يظهر موقف الخطاب المثالي كأساس معياري للنظرية الاجتماعية وتحدي عام للأنماط السائدة من النسبية.

يبدو أن الخط التطوري لفكر هابرماس وقيادته للثقافة الفكرية للحداثة قد انتقل من التوجه المبكر الذي يركز على كانط والمثالية الألمانية، إلى النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، إلى التأويل ما بعد هيدجر، إلى الوضعية في القرن العشرين، إلى فلسفات اللغة الأنجلو- الأمريكية، والى اتجاه التزام متزايد بإعادة تأهيل العقل النظري والعملي للتنوير. إن هدفه فيبري هو لجلب "تحت سقف واحد" العلوم الطبيعية، النظرية النقدية الهيرمينوطيقا، والعقلانية التواصلية والحوار والفهم.

في إعادة تأهيله للتنوير، الذي يراه في علاقته بـ "مشروع الحداثة غير المكتمل"، ينصب تركيز هابرماس على القضايا التالية: العقلانية، والعمومية، والتمييز بين اللغة والواقع غير اللغوي؛ تحرير الحقيقة بواسطة النقد الأيديولوجي والتحليل النفسي؛ مفهوم الكفاءة التواصلية والحقيقة العقلانية التوافقية؛ المفهوم المتفائل للبنى التنموية للعقلانية والأخلاق في الفرد البشري والتطور الاجتماعي.

 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

.............................

[1] D. Emmet  and  A. MacIntyre , eds. Sociological Theory and Philosophical Analysis . London, 1970, pp. 36-55

[2]: حول تتابع الأحداث الرئيسة في النقاش بين الفيلسوفين انظر

F. Dallmar and Thomas McCarthy, eds., Understanding and Social Inquiry, Notre Dame, Indiana: Notre Dame Press, 1977, pp. 335-363.

[3] A Review of Gadamer's Truth and Method"  [1967]  Fred  Dallmar and Thomas McCarthy, eds. Understanding and Social Inquiry. Indiana: Notre Dame Press, 1977, p. 359.

[4] A Review of Gadamer's Truth and Method", p. 360.

[5] A Review of Gadamer's Truth and Method," p.  358.

[6] A Review of Gadamer's Truth and Method," p. 360.

[7] أنظر:

Hans-Georg Gadamer, "On the Scope and Function of Hermeneutical Reflection." Philosophical Hermeneutics, Berkeley: University of California Press, pp. 18-43.

قام بول ريكور وريتشارد برنشتاين  في محاولة التوفيق  بين قضايا متعددة أثيرت في هذا النقاش  ، لكن مو جهة نظر مختلفة أنظر:

Paul Ricoeur, "Ethics and Culture: Habermas and Gadamer in Dialogue," Philosophy Today, 17, 1973, pp. 153-65;

Richard J. Bernstein, Beyod Objectivism and Relativism, pp. 182-97.

[8] Thomas McCarthy, "Rationality and Relativism: Habermas's 'Overcoming' of Hermeneutics, Habermas: Critical Debates. pp. 57- 59.

[9] Thomas McCarthy, "Rationality and Relativism: Habermas's 'Overcoming' of Hermeneutics, Habermas: Critical Debates. pp. 57- 59.

[10] أنظر:

T. Z. Lavine, "C. I. Lewis and the Problem of Foundationalism," presented to American Philosophical Association, Eastern Division, 1984.

[11] إن نظرية هابرماس البرغماتية للتطور الاجتماعي مدينة لعلم إعادة البناء الوراثي لعلم النفس المعرفي البنيوي التزامني لبياجيه ونظرية كولبرج المرحلية للتطور الأخلاقي، وتدعم هذه النظريات "التماثلات" البنيوية التطور الوراثي ومراحل التطور المجتمعي.

[12] أنظر:

"What is Universal Pragmatics?", Communication, and the Evolution of Society. Boston: Beacon Press, 1979, pp. 1-68.

[13] بذلت المعرفة والمصالح الإنسانية جهودًا مماثلة لتجذير المصالح المعرفية في الظروف الطبيعية. وأنظر أيضا المفاهيم المسبقة المشروطة تجريبيا.

C. I. Lewis's Mind and the Word­ Order.

وللحصول على وجهة نظر مختلفة عن هابرماس بهذا الصدد انظر:

V. Tejera, "Habermas and Buchler."

[14] Knowledge and Human Interests, p. 94.

[15] Habermas: Critical Debates, p. 238.

[16] أنظر:

John B. Thompson, "Universal Pragmatics," Habermas: Critical Debates, pp. 116-133.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم