صحيفة المثقف

محمود محمد علي: محمد رسول الإرادة.. قراءة نقدية في كتاب الدكتور ميثم الجنابي (4)

محمود محمد علينعود وننهي حديثنا عن قراءتنا النقدية لكتاب الدكتور ميثم الجنابي "محمد رسول الإرادة"، وهنا نتساءل: والسؤال الان هو: هل نجح المؤلف "ميثم الجنابي" في تحقيق هذا الهدف الذي نذر كتابه له؟

في اعتقادي أن المؤلف تمكن – إلي حد كبير – من تحقيق هذا الهدف، إذ يلحظ القارئ – المنصف- أن المؤلف ظل يطرح الأسئلة الكبرى، ثم يقدم الإجابة عنها بطريقة المحاججة العقلية البعيدة عن التعسف والاتهام، كما ظل يتكئ علي أكثر من شاهد وأكثر من دليل حتي يجلو الفكرة ويؤكدها، دون الاعتماد علي الشوارد من الشواهد أو المفرد من الأدلة، وخير مثال علي ذلك قوله: لقد أجبر النبي محمد العرب الوثنية على التفكير و"الإبداع" بالشكل الذي يخرجهم عن مألوف ما تعودوه من صيغ الكتابة والتفكير. وشأن كل إجبار "متسام" اتخذ في بادئ الأمر صيغة الإمكان أو الاحتمال المعقول. وحالما تصبح الإمكانية واقعا مقبولا في التأمل والتفكر حينذاك يصبح الخروج على المألوف جزءا من العقل والإيمان. من هنا يمكن اعتبار استعدادهم على أن "يقولوا مثل ما يقوله" إقرارا ضمنيا بإمكانية وقبول الارتقاء عن تقليد الأسلاف، أي انه أجبرهم على الخروج من قيود العادة وأوهامها. وليس مصادفة أن يتوصل الفكر الإسلامي لاحقا للقول، بأن المعجزة هي "خرق العادة"، بمعنى الخروج عن المألوف. بمعنى الإبقاء على إمكانيتها بوصفها إبداعا ممكنا. بعبارة أخرى، ليست "المعجزة" ما هو مستحيل بالطبع، بل ما هو خارق للمألوف. وقد تمتعت هذه الفكرة بقدر هائل من الاستعداد للتغير والتجسد والبرهنة والتحقيق في مختلف الميادين. لكن الميدان الأكبر والأكثر جوهرية بالنسبة لمحمد كان يقوم في استبدال "الجاهلية" بالإسلام، والبرهنة على انه أمر ممكن بما في ذلك تحقيقه في مشروع كوني جديد (30).

كما راح " ميثم الجنابي" يعلق بين الفينة والأخرى، ويحاور القارئ ويشركه في الحوار، ويبدي غضبه أحياناً ممن يمس عقيدته أو ثوابته، حتي ليجعل بعض العبارات القرآنية لازمة تتكرر عنده كعبارة، كما نراها في الآية القائلة:{إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية، حمية الجاهلية، فانزل الله سكينة على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى}؛ وهنا يقول ميثم الجنابي:" إننا نعثر في هذه الآية على وداع رمزي للجاهلية، يتضمن في الوقت نفسه نفيها الشامل، من خلال نفي حمية الدماء بسكينة الروح، والجاهلية بالتقوى. كما نعثر فيها أيضا على تمثل فعلي سوف يظهر لاحقا في تحويل الجاهلية إلى مرحلة ضرورية بالنسبة للوعي الديني والتاريخي والثقافي، عندما أدرجتها الثقافة الإسلامية في فلك الإيمان والعقل والمعرفة والتاريخ، أي عندما حولتها إلى معيار الإدراك اللغوي الدقيق والحقيقي لمعان القرآن، وجعلت من نتاجها الأدبي نموذجا "كلاسيكيا" للمقارنة والاقتداء، بحيث جعلت من فضائلها الكبرى فضائل الإسلام نفسه. ولم يكن بإمكان هذا التحول أن يحدث إلا بعد تذليل الجاهلية بوصفها نموذجا وأسلوبا في التربية والفكر والسلوك والنفسية والقيم" (31).

كذلك يحسب للمؤلف قوله:" كان الحدس النبوي الأول لمحمد يقوم في تعلم قراءة الوجود وليس خطوط القلم. فقد كان الخطاب الأول من أعماق حراء أو من أعماقه يَصْبّ في هذا الاتجاه، بمعنى أن يتعلم قراءة الوجود بقلم "الإبداع الإلهي"، الذي خلق الإنسان وغرس في أعماقه مهمة تعلم ما لا يعلم. وليس مصادفة أن يطلق النبي محمد على وجود العرب آنذاك لفظة الجاهلية، بسبب عنادهم في الأعراض عن التعلم وبالتالي البقاء فيما كان وبَقى. وهذا هو  عين الجهل. وقد كان ذلك بداية ما يمكن دعوته بالجهاد الأول، أي تحدي الجاهلية بالفكر والفكرة، والذي نعثر عليه في اغلب الآيات القرآنية عن الدعوة للتفكر والتأمل والعلم والمعرفة عبر مخاطبة القوم والإنسان بشكل عام بعبارات "ذوي العقول والأفئدة".  الأمر الذي جعل فكرة المجاهدة في العلم مقدمة العمل بوصفها إرادة حية تجاه الحاضر (32) ؛ وأيضا قوله:" قدّم محمد في نبوته الإسلامية ديناً جديداً وتشريعاً خاصاً له رؤيته المتميزة تجاه كل الإشكاليات والقضايا التي واجهها في مجرى صراعه ضد الوثنية العربية أولا، ثم اليهودية ثانيا، والنصرانية ثالثا (33).

كما نجد " ميثم الجنابي" يجمل آراءه باختصار شديد وهدوء لافت، مدافعاً عن منهجه، مبرزاًً حقه في الجدل والنقاش ليس بغرض التجريح الشخصي، بل بحثاً عن الحقيقة العلمية، وفي إشارة من إشاراته الدالة النادرة يكبر المؤلف في صاحب المشروع اعتداده برأيه والجهر فيه بلا مواراة أو تمويه، مؤشراً إلي ضرورة أن علماءنا المعاصرين عن بنية معرفية تبني ولا تهدم، ومن ذلك قوله: صنعت الإرادة الفردية لمحمد شخصيته النبوية، كما صنعت شخصيته النبوية إرادة تاريخية أو طاقة تاريخية ثقافية كبرى وجدت تعبيرها وتحقيقها في الثقافة الإسلامية اللاحقة وحضارتها. بعبارة أخرى، لقد جعلت الإرادة الفردية المتسامية من محمد نبياً، بينما جعلت إرادته التاريخية الكبرى من النبي محمد رسولاً ذا رسالة وشريعة؛ وجسّدت الشخصية المحمدية وحققت فكرة الإرادة التاريخية، بوصفها الإرادة المتفائلة تجاه المستقبل، وذلك لأنها كانت منذ بداية النبوة مليئة باليقين. ونعثر على هذه الحالة النفسية والعقلية للإرادة المحمدية من ناحيتها الفكرية المجردة في ظهور عبارات "عين اليقين" و"حق اليقين" في الآيات الأولى للوحي القرآني. ووجد ذلك تعبيره العملي الدقيق والواضح والجلي والمستميت من أجل تحقيقه في العبارة العميقة والمباشرة التي واجه بها طلبات وتحديات قريش من أجل ترك النبوة والتخلي عنها: "لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أنْ اترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه" (34).

ويسرني في نهاية هذه القراءة أن أبارك للأستاذ الدكتور ميثم الجنابي  تأسيسه لموضوع جديد يهم الكاتب والمؤلف؛ خاصة وأنه يعد في نظري الفيلسوف العراقي الكبير الذي استطاع أن يكون له في كل الشرق والغرب صوت، وفي كل ناد رأي، وفي كل صحيفة بحث، حتي اشتهر أمره، وذاع ذكره في روسيا وسائر الأقطار الأوربية والعربية، وهو عالم بكل ما في هذه الكلمة من معني، وكاتبا، تملأ مقاله  من قوة الحجة آيات بينات، وسياسياً وطنياً، صادق العزم ما وقعت الغرامات ـ وأستاذا في فنه، لا تستعصي عليه منه المشكلات، وهو نعم الرجل الوفي، الذي يضحي في سبيل صداقته، ونعم الباذل للجهد والفكر في سبيل سعادة الوطن وسعادة بنيه. وهو من الرجال الذين تجدهم  من ثبات علي المبدأ، واستقلال في الرأي، وإدراك  لمعني الحياة الحرة البريئة، علاوة علي أن حياته تعد درساً بليغا لمن شاء أن يتعلم: يتعلم الصلابة في القومية، والإخلاص للوطن، والدفاع عن وادي الرافدين مسقط رأسه، ويفني في خدمة قومه، وفي خدمة وطنه.

لقد كان ميثم الجنابي عالما في الفلسفة، وحجة في السياسة، وكاتبا  حكيما،  وكان علي كثرة متاعبه، وتعدد مشاغله، وتنقلاته من ساحة إلي ساحة، ومن تخصص إلي تخصص، يختلس من الليل ساعات، ومن الراحة فترات .. وكثيراً ما كنت استشعر أنه كان صحفيا بطبعه وسليقته، فكم امتلأت الصحف بأخباره، وأفكاره، ونوادره، وتحفه، وكم نقلت عنه أروع ما ينقل عن الوطني، عن الفنان، عن المبتكر، عن المجدد  .. وتلك هي ثروة الأفذاذ العباقرة، كبار النفوس، كبار القلوب.

علاوة علي كونه يمثل شعلة وهاجة، وحركة دائمة، وعربيا صميما، وجرئياً صريحاً، لا يداهن ولا يرائي، يصدر عن عقيدة، ويعمل في غير جلبة، عرفه الكبير والصغير، ولمس فضله الوزير ورجل الشارع وهو والله صورة فريدة من صور الرجال، بعلمه وبيانه وعمله ووطنيته، فطر علي صفات نادرة، سيرته في مراحل عمره سيراً حفل معه بالطيبات، واتجهت قواه منذ صباه لخدمة المصلحة  العامة، وعمل علي هيئته في تواضع خال من التمجيد والتبجح، وما طلب العوض والمكافأة عما أجهد  نفسه فيه، ذلك  أنه كان متشبعاً بروح النهوض، ويعرف كيف يرضي ضميره بأداء فرض لا بد من قضائه. قل أن رأيت من أهل صناعة هذا الرجل العظيم من هضم علمه مثله، أو جمع إلي علمه معارف تمثلها، وهي ليست بحسب الظاهر من اختصاصه أو شارك في مسائل كثيرة مشاركة المستقصي الحصيف، لا مشاركة النتفة.

وفي النهاية لا أملك إلا أن أقول بأن كتاب " محمد رسول الإرادة"، كشف لي بأنني إزاء نموذج نادر يصعب أن يتكرر، لمثقف واسع الثقافة، وكذلك لمفكر حر نزيه لا يقيم وزناً ولا يحسب حساباً إلا للحقيقة العلمية وحدها، وفوق ذلك وأهم من ذلك بالنسبة لنا، أنه كان يقدم مادته العلمية فى أسلوب بالغ الجاذبية والتشويق تجعلها أشبه ما تكون بالعمل الفني الممتع دون أن تفقد مع ذلك شيئا من دقتها الأكاديمية، ولهذا لم أكن مبالغاً حين قلت عنه في أحد مقالاتي بأن ميثم الجنابي نموذج كبير لـ "الفيلسوف والإنسان".

 

الأستاذ الدكتور / محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط .

.........

(30) ميثم الجنابي: محمد رسول الإرادة، ص 114.

(31) نفس المصدر، ص 116.

(32) نفس المصدر، ص 131.

(33) نفس المصدر، ص 162.

(34) نفس المصدر، ص 172-173.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم