صحيفة المثقف

أنمار رحمة الله: سِحْرُ الزّوجة

انمار رحمة اللهكان زواجي تقليدياً من امرأة لم ألتقِ بها سابقاً، شاءت الأقدار أن نرتبط في علاقة معقدة. أصحو بعد ليلة العرس لأجد امرأة غريبة نائمة الى جواري.!. انه أمرٌ غريب فعلاً.. وصل الحال إلى ما هو عليه، نتيجة فشلي المتكرر في علاقات حب من طرف واحد. لهذا قررتُ الانتقام من فشلي في أن أخوض علاقة عشق ملتهبة، كالتي نسمع عنها في الأغاني ونراها في الأفلام، وأطلق النار على حياتي بطلقة زواج تقليدي رتيب.. ومرّت السنون.. وانجبنا أطفالاً، ومع كل يوم يمرُّ أكتشف أنني كنت مخطئاً. فلولا التسرّع في قرار الانتقام من فشلي في علاقات الحب السابقة، لكنتُ الآن متزوجاً من امرأة تفهمني وأفهمها، تحبني وأحبها. أو قد أكون بلا زواج إلى الآن، وهذا أهون من عيشي مع امرأة كان ارتباطي بها كلاسيكياً على طريقة جدي وجدتها.. لهذا لم أتوان في أن أدلف إلى بيت منعزل خارج المدينة، قيل أنّ فيه ساحراً عجيباً يفعل المعاجز. ذهبت إليه ذات يوم وشرحت له حالتي فسألني:

- هل تريدُ تغيير حالك..؟

أجبته فوراً:

- نعم.. أريد زوال كل شيء يمتُّ إلى زواجي بشيء.. ومن غيرك يستطيع هذا، فأنت تعرف جيداً كيف تفرِّق بينَ المرء وزوجه..

ابتسم الساحر قائلاً:

- طلبك سهل.. لكنني سأقول لك ماذا سيحدث وماذا عليك أن تخسر بالمقابل

وافقت على كلامه وقد ملأني الفضول لمعرفة ما سيحدث وماهي شروطه فأجابني :

- بداية ستختفي زوجتك ويرجع بها الزمن لتمارس حياتها بعيداً عنك، وسيختفي أطفالك أيضاً لأنهم ظهروا للعالم بعد زواجكما..

سرح بالي قليلاً وأنا أنظر إلى وجهه المتيبس والغترة المتدلية على جبينه وهي تخفي إحدى عينيه، ثم قلت له:

- نعم.. أوافق على هذا.. هل هذا ما سأخسره؟

أجاب الساحر:

- لا بالطبع.. ستخسر نصف عمرك..

- نصف عمري؟!

أخذ الساحر شهيقاً خفيفاً ثم قال:

- الزوجة يا هذا أليست هي شريكة عمرك؟! لهذا عليك أن تعطي نصف عمرك لها لكي تطلقك طلاقاً سحرياً لا يضرها ولا يضرك.. عليك أن توافق على التنازل عن نصف عمرك المتبقي لها..

فكّرتُ طويلاً بكلامه ولكنني قلت في نفسي وماذا يعني؟.. حتى لو تنازلتُ لها عن نصف عمري المتبقي فسيبقى لي كم سنة ألهو بها وأمرح وحيداً بلا إزعاج وبلا عراك ومنغصات يومية.. فأخبرته أنني موافق على هذا. ثم باشر الساحر في تحضير طقسه الغريب. فجأة تحركت الستائر وتدفّق الدّخان من مبخرة وضعها أمامه، واستولى عليّ النعاس وهو يتكلم بكلمات لم أفهمها. ثم ناولني قدحاً فيه شراب مرٌّ، أمرني أن أجرعه دفعة واحدة، لكنني لم استسغهُ وكدت أقذفه من فمي لولا إصراره عليّ بشربه.. على أية حال أوصاني الساحر أن لا أذهب للمنزل إلا بعد ليلة، وبالفعل ذهبت إلى أحد الفنادق القريبة وقضيت ليلتي وأنا أفكر في ماسيحدث، وهل كان كلام الساحر حقيقة أم خيالاً مزيفاً، لعله مشعوذ غبي أخذ مني أجرة عالية وخدعني؟!. ولم أستطع النوم حتى الصباح فضولاً واشتياقاً لمعانقة حياتي الجديدة. وحين أطلت الشمس على وجه المدينة ذهبت مسرعاً للمنزل.. قرعت الباب ولكن لم يفتحه لي أحد.. أخرجت مفاتيح الباب ودلفت وأنا أنظر إلى المنزل بحذر كمن يترقب هجوماً. كانت الغرف تغطُّ في عتمتها والهدوء يخيّم على المكان كله.. دخلت إلى غرفة الأطفال فوجدتها على حالها، فتحت دولابهم فتفاجأت انه بلا ملابس!. هرولت إلى غرفتي فكانت هي الأخرى بلا ملابس زوجتي.. ملابسي كانت وحدها معلقة في الدولاب!!. فقلت في نفسي يبدو أن هذا الساحر قد سحرني ولم أعد أرى الأشياء لكنها قد تكون موجودة!. لعل زوجتي الآن في المطبخ تعدّ الفطور للأطفال النائمين على الأسرّة، وأنا مسحور الآن ولم أرهم!!. أخرجت من إحدى زوايا الدولاب علبة كان فيها صور للعائلة، صُعقت حين لم أعثر على صورة واحدة لزوجتي وأطفالي!. لقد كانت الصور الموجودة في العلبة هي فقط صوري القديمة قبل الزواج، وبعض الصور الحديثة مع الأصدقاء، ولم أعثر على صورة واحدة لعائلتي.. بداية تملكني قلق فادح، ثم استولى عليّ الهدوء شيئاً فشيئاً حين تذكرت أنها كانت رغبتي، وأن هذا العالم الجديد الذي أعيشه الآن كان حلمي، ولم يتبق سوى أن أمارس حياتي عازباً من جديد، وأفتش عن فتاة أحلامي التي سأحبها وأعيش معها قصة حب ملتهبة، متذكراً أن نصف عمري قد ضاع الآن ولا أدري قد يكون المتبقي منه ليس سوى سنوات أو شهور وربما أسابيع.. ثم زاد قلقي حين استولت عليّ فكرة أنني قد أموت قريباً ولا أعرف كم من السنوات التي منحتها لزوجتي السابقة، وهذا ما دفعني للعودة إلى منزل الساحر البعيد لسؤاله أو معرفة أي شيء يدلني على حساب ما منحته لها من عمر. والغريب أنني حين عدتُ إلى منزل الساحر لم أجد منزلاً أصلاً، وحين سألت في المكان عن منزله اجابني أغلب من صادفتهم أنني متوهم فلا منزل هنا لشخص بهذه المواصفات!!. ماذا يحدث؟!. هل أنا في غيبوبة أم حلم؟!. ألم يكن هذا الساحر اللعين في هذه البقعة أم تراه قد سحرني بهذا أيضاً؟!. ولكي أتأكد أنني لم أكن مسحوراً وأن كل شيء حقيقي، ذهبت لكي أتطقّس على حال زوجتي، فانا أعرف مكان أهلها بالطبع لهذا ذهبت إلى زيارتهم. فخطر في بالي ماذا لو لم يعرفني أحد منهم؟!. وبالفعل لم يعرفني أخوها الذي تحايلت عليه في السؤال عن منزل آخر مزيف في المنطقة، فأجابني أن لا عائلة هنا بهذا الاسم فشكرته وكاد قلبي يتوقف من تلك الصدمة العجيبة.. لقد كان أخوها يعرفني جيداً  بحكم أنني نسيبهم منذ سنوات، ولكن كأنني شخص غريب لم يكترث الأخ لحالي فغادرت على مهل والحيرة تدبّ كنمل متوحش في عقلي.. لم أستطع النوم لأكثر من ليلة وأنا أفكر في ما حدث، وهذا التفكير سلب مني الفوز بمشاريعي المؤجلة من مرح وحياة مليئة بالعشق والعلاقات والأسفار. ثم عادت بي الذكريات لما قالته لي ذات يوم زوجتي، أن ابن خالتها كان مغرماً بها، وكانت تعيّرني دائماً بهذا حين يحتدم العراك بيننا لتندب حظها. ولا أدري كيف هرولت في اليوم الثاني إلى منزل ابن خالتها الذي لا يبعد عن منطقتنا كثيراً، صباحاً حيث الناس والتلاميذ والحافلات يملؤون الشوارع، فتوقف شعر رأسي حين رأيتها تخرج من باب منزله برفقته ومعهم أطفال كانوا كما هو واضح أطفالهم!!. لم يكونوا أطفالي انا وهي بل هم آخرون يشبهون ابن خالتها الذي كان يسير معها!!. لقد لعنني هذا الساحر الخبيث ومضى؟!. أرجعها إلى صباها وأعاد لها حياتها ثم أكملها في مسار مختلف، وأنا بقيت عالقاً في عالمي هذا ولم يرجعني أيضاً كما يحدث في قصص آلة الزمن؟!. عالقاً مع ذكريات طويلة عريضة عن عائلة كانت موجودة واختفت. وأي اختفاء؟!. هي لم تمت وأطفالي عالقون الآن في دوامة زمنية لا أستطيع الوصول إليها، ولا أعرف أين هم الآن في الماضي أم في الحاضر!!. أسابيع وأسابيع تمضي وأنا جالس كحيوان مريض في غرفتي، انظر إلى الجدران وأخرج كل ساعة إلى الصالة والمطبخ والحوش، أطالع المكان وتتراءى لي صورهم وهم يطوفون هنا وهناك. وللحظة لم أتذكر بتاتاً سوى اللحظات الدافئة معهم.. حتى قررت أن أذهب إلى منزل ابن خالتها وأصارحهم بكل شيء، لعلها تتذكرني فمن المستحيل أن لا يحدث هذا، وأنبهها عن أطفالنا الذين اختفوا في عالم غامض. وقد كانت فكرة غبية، لأنني حين وقفت لحظتها على الباب وخرج لي زوجها المفترض، قلتُ له أين زوجتي، فوضع كفه على صدري وقال عن أي زوجةٍ تتحدث؟!. ربما أخطأت العنوان.. لكنني صرت أنادي باسمها، فخرجت ونظرت لي نظرات كلها استغراب، صحيح أن لحيتي كانت كثة وملابسي فاحت منها رائحة لكنني كنت واثقاً ثقة الغبي أنها ستتعرف عليّ. وقد صدمتني بعبارتها التي نادت بها زوجها قائلة (هل أتصل بالشرطة؟) فأجابها وهو يدفعني لأسقط بعدها على الرصيف ( لا داعي لهذا.. يبدو أنه رجل مختل ولن يقترب إلى هنا مرة أخرى).. بعد هذا الموقف مرت الأيام كأنها مناشير على قلبي المتخشّب.. لم أعد أريد شيئاً في الحياة سوى عودة كل شيء إلى حاله، لقد اشتقت إلى رؤية أبنائي ورؤيتها في منزلها القديم. وكنت أشعر أن عمري بدأ يتناقص بسرعة مهولة، حتى صرت شائخاً في مدة بسيطة، وما هذا النقصان إلا ضريبة دفعتها لكي أتخلص من زواجي الذي صرت ألملم بقاياه المتناثرة كالأوراق الممزقة في شوارع الذكريات.. ولم انتبه إلى قدميّ اللتين ساقتاني بلا شعور إلى مكان الساحر المنعزل خارج المدينة، وبالفعل لم أصدق عينيّ وفركتهما كثيراً حين لمحت منزله الذي كان في المكان ذاته!!. هرولت إليه كما يهرول التائه العطشان في صحراء صوب غدير ماء، وطرقت بابه بقوة ففتحها لي وكان كما هو.. سألته أين اختفيت فضحك وقال لي:

- ها.. هل نعيد كل شيء إلى مكانه ؟!

سقطت على ركبتيّ وأجبته ودموعي تفرّ من عينيّ كطفل يتيم

- نعم.. أرجوك.. أرجوك

لكن الساحر قال لي :

- إعلمْ .. أن ضريبة عودتك إلى عالمك السابق ستحتم عليك أن تدفع عمرك المتبقي لزوجتك، ولأطفالك كي يعودوا إلى هذه الحياة

وافقت على هذا من دون تفكير وقلت له وأنا أمسك بكفه راجياً:

- اوافق.. سأمنحهم ما تبقى من عمري لكن أرجعهم.. أرجعهم حتى لو عشت يوماً واحداً معهم، على الأقل سأعيش معهم كذكرى والد متوفي لمدة أطول من عيشي معهم وأنا على قيد الحياة..

وبدأ الساحر يجري الطقس ذاته، وبالفعل أنهى كل شيء ثم أعطاني القدح ذاته فتذكرت طعمه المرَّ في البداية، لكنني استغربت حين كان الشراب حلواً؟!. شربته كله دفعة واحدة بلذة لم أألف مثلها في حياتي، ثم نبهني أن لا أذهب للمنزل إلا صباح اليوم التالي. وبالفعل لم أذهب حتى صباح اليوم التالي ولم أبت في فندق ليلتها، بل جلست على الرصيف المقابل لمنزلي وأنا أنتظر طلوع الشمس، ولم أرتح حتى رأيت باب منزلي يُفتح وقد خرج منه أطفالي، يحملون الحقائب ذاهبين إلى المدرسة، ودّعتهم زوجتي بصوتها المألوف عندي جداً.. لقد عدتُ إلى المنزل وعشتُ حياة طويلة معهم. مع اطفالي الذين كبروا يوماً بعد يوم، وزوجتي التي لم تخلع ثوبها الأسود منذ عودتي..

 

أنمار رحمة الله

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم