صحيفة المثقف

ميثم الجنابي: انطون سعادة وأيديولوجية الفكرة القومية الاجتماعية (7)

ميثم الجنابيالتقييم النقدي للفكرة القومية عند انطون سعادة

لقد توصلت في المقال السابق إلى أنَّ الرؤية المتضاربة عند انطون سعادة من حيث أسلوبها في تأسيس الفكرة، ومنهجها في التحليل والنقد والمواقف، وغايتها العملية الكبرى، قد أدت إلى تناقضات كبرى في فكرته عن القومية. والسبب هو نزوعها الأيديولوجي الصرف.

وفي هذا كانت تكمن حدود الاختلاف والتناقض "الديناميكي" بين المساعي الفلسفية في تأسيس الفكرة القومية "السورية" وتأسيسها الأيديولوجي الصرف. وبغضّ النظر عما يمكن قوله عنه وعنها بهذا الصدد، فإنَّ إبداعه النظري وسلوكه العملي كانا يتمثلان رحيق الصعود العقلاني والواقعي والمتجانس للفكرة القومية الحديثة. إذ نعثر عنده على صيغة واقعية ولحد ما عقلانية للحدس العميق بصدد القومية أو الأمة السورية بوصفها تركيبة أو تشكيلة ثقافية وليست عنصرية. ومن ثم العثور فيها على نمط أولي أو صيغة جزئية لحقيقة القومية العربية وفكرتها المحتملة. والمقصود بذلك الفكرة التي سوف ابسطها لاحقاً والقائلة، بأنَّ الصيرورة القومية العربية قد بلغت أوجها في كينونة ثقافية طبعت بطابعها "الأمة العربية" من حيث كونها واقعاً وإمكانية متجددة. وذلك لأنها تصيرّت بقدر واحد في منظومة مرجعيات ثقافية متسامية وتاريخ ثقافي قائم بذاته. الأمر الذي جعل من الممكن تنوع مظاهرها ولكن بوصفها أشكالاً متباينة ومتوحدة لتاريخه الذاتي. ومن بين اكبر وأوضح مظاهر هذا التباين الديناميكي هو ما يمكن أنْ نطلق عليه اسم مراكز وولايات الكينونة العربية الثقافية وهي: شبه الجزيرة العربية، والمشرق العربي، ومصر والسودان، والمغرب العربي (بما في ذلك تاريخه الأندلسي).

فقد كانت الفكرة القومية عند انطون سعادة تتسم بحوافز وبواعث ايجابية مستقلة من حيث مقدماتها وغاياتها. من هنا فكرته عن أنَّ "رسالة البعث القومي الاجتماعي إلى السوريين ليست متولدة من مجرد كره الأجنبي، بل من رغبة حقيقية في صهر نظرياتنا وعقائدنا المتنافرة وسبكها في وحدة روحية لا تعود تتمكن المطامع الأجنبية من تفسيخها وإضعافها". ولم يكن ذلك معزولاً عن إدراكه طبيعة وآثار الخلل القائمة في انتشار وهيمنة الفكرة التقليدية والطائفية الدينية والسياسية. إلا أنَّ هذه النظرة كانت تفتقد في الوقت نفسه لإدراك قيمة التراكم الطبيعي والتاريخي في مجرى تذليلها الإصلاحي. بمعنى أنها لم تدرك الحقيقة القائلة، بأنَّ القضاء على هذا الخلل يفترض المرور بإمراضه من اجل أنْ يكون العلاج طباً عقلياً أو حكمة عملية دقيقة وليس سحراً! غير أنَّ للهيمنة الأيديولوجية "منطقها" الخاص ومذاقها المرير في مواجهة الماضي والحاضر والمستقبل. وقد كانت هذه الثلاثية الأبدية للوجود ميدان الوجد القومي وأمجاده المفقودة بالنسبة لانطون سعادة. من هنا حماسته المفرطة في تأسيس الفكرة القومية السورية. وفي هذا الحماس جرى تهذيب وتشذيب الفكرة القومية السورية ونتوء ملامح الغلو الأيديولوجي فيها. بحيث جعلها تعاني من خلل فكري ومنهجي في التأسيس النظري. ولعل عبارة "القومية السورية" هي بداية هذا التشويش. فمن الناحية "الجغرافية" ليست "سورية" هنا سوى ما أطلق عيه العرب عبارة الهلال الخصيب. بل أنَّ انطون سعادة يضيف إليها شبه جزيرة سيناء وقبرص. وإذا كان لاحقا قد استعمل عبارة الهلال الخصيب بعد جعله سورياً، أي إطلاق عبارة "الهلال السوري الخصيب"، فإنَّ ذلك لم يحل إشكالية الاسم والمعنى والمضمون.

إنَّ سبب هذا الخلل المنهجي يقوم في تغليب الخاص على العام وكذلك في خطأ تحديد مقدمات ومرجعيات الفكرة القومية التي جعلت من عبارة "القومية السورية" لا تتسم بالدقة من حيث الأصل والجغرافيا والمعنى. مع ما يلابسها من إشكالية بالنسبة لفكرة القومية في هذه المنطقة بوصفها منطقة "المشرق العربي". فعبارة سورية من حيث الاسم والأصل خارجية وجزئية. فالاسم إغريقي والمكوّن آشوري. ولا يفي بالغرض اسم الهلال الخصيب السوري. لأنه لا يحل المشكلة بل يزيدها غموضاً. والأمر يختلف في ما لو أطلق عليه عبارة الهلال العربي الخصيب أو المشرق العربي. فكلاهما أدق وأعمق وأصدق من حيث المقدمات والغايات والشكل والمضمون.

أما المصدر العام لها الخلل المنهجي فيقوم في افتقاد الفكرة القومية السورية عند انطون سعادة إلى قاعدة فلسفية دقيقة في تأسيسها للأبعاد التاريخية للفكرة القوية السورية. الأمر الذي أدى إلى هيمنة مفارقة خاصة في فكره وفكرته تقوم في وجود فكرة فلسفية منغلقة وانفتاح أيديولوجي! وهي مفارقة يصعب حلها بمعايير المنطق! الأمر الذي حدد كمية ونوعية الخلط والتشويش الكبير في اغلب مفاصلها المتعلقة بوعي الذات القومي والتاريخي. لقد أراد أنْ يجعل تاريخ سورية ووعيها الذاتي معزولاً مفصولاً عن صيرورته التاريخية بوصفه كينونة ثقافية عربية إسلامية. ولعل موقفه من الدين واللغة الذي تخلل اغلب مفاصل موقفه النقدي من الفكرة القومية العربية ومحاولة الاستعاضة عنهما بعنصر البيئة أو الجغرافيا من بين أكثرها تعبيراً بهذا الصدد.

لقد انطلق انطون سعادة في فهمه لعناصر الدين واللغة تجاه قضية الفكرة القومية بمعزل عن الماضي والحاضر، أي عن الواقع والإمكانية. وهذا بدوره لم يكن معزولاً عن الفكرة "السورية" المستقلة عن تراثها العربي الإسلامي. كما إنَّ محاولاته إبراز خصوصيتها من خلال نقد التاريخ العربي الإسلامي أو الكشف عن"خصوصيته" بهذا الصدد، لم تكن أكثر من أحكام أيديولوجية صرف لا علاقة لها بالتاريخ الفعلي ومنطق التطور الثقافي. من هنا يمكن فهم ترديده لأحكام "أجنبية" عن "سورية" نفسها وتاريخها السياسي والثقافي وكينونتها الفعلية. إذ انه لم يجد في التاريخ السوري تاريخاً ذاتيا فعلياً إلا في المرحلة الأموية. ومع أنَّ الخلافة الأموية كانت جزء من صيرورة الدولة العربية "الإسلامية" إلا انه يفصلها عنها بوصفها نفياً لتقاليد "الدولة الدينية" التي وضع النبي محمد أسسها التاريخية والعقائدية الكبرى. بمعنى انه ينتزعها عن تاريخ العرب وتاريخ الإسلام لكي يجعلها جزءاً من "تاريخ سوري" قائم بذاته. وهذا حكم لا علاقة لها بتاريخ الصيرورة الذاتية للدولة العربية الإسلامية. أما أحكامه القائلة، بأنَّ النبي محمد استخدم "الدولة لإقامة الدين وجعل الدين أساسا لتنظيم شعب باق في حالة همجية"

 

[1]، فإنها مجرد ترديد باهت لبقايا الاتهامات الشعوبية وكذلك استعادتها الفجة في مرحلة الصعود الكولونيالي الأوربي. بينما سبق وإنْ جرى نقدها وتفنيدها منذ قرون عديدة بمعايير التجربة الكونية الفعلية للحضارة العربية الإسلامية. وينطبق هذا على حكمه القائل، بأنَّ الدولة التي أنشأها النبي محمد كان تخضع لغرض الدين وليس الدين هو الذي انشأ لغرض الدولة. وهو حكم مقلوب لأحكام التاريخ الفعلية. كل ذلك يشير إلى ما يمكن دعوته باختلاط الرؤية الأيديولوجية بالتاريخية والفلسفية والعلمية، التي أعاقت وشوشت إمكانية الرؤية السليمة لمسار التاريخ العربي في سوريا بوصفه تاريخاً ذاتياً وجوهرياً بالنسبة للفكرة القومية الحديثة. ومن خلاله فهم جوهرية اللغة والدين في الوعي الذاتي العربي، بوصفهما مكونين تاريخيين وثقافيين للفكرة العربية بوصفها فكرة ثقافية وليست عنصرية[2]. وذلك لأنَّ اللغة بالنسبة للذات العربية والتاريخ القومي ليست قضية منطقية أو شكلية مجردة، بل وليست حتى قضية ثقافية كبرى، بقدر ما هي مكون روحي وعقلي ومنطقي وثقافي يرتقي إلى مصاف المرجعية التأسيسية، أي المكوّن الجوهري في الصيرورة التاريخية والكينونة الثقافية العربية، التي جعلت من الأمة العربية أمة ثقافية. الأمر الذي ميزها عن سواها في تاريخ الأمم الكبرى، أي كل ما جعل ويجعل لحد الآن من الفكرة القومية إشكالية كبرى لم يجري حلها بسبب ضعف أو عدم رؤية هذه الحالة الخاصة[3].

وينطبق هذا على فكرة عزل الدين عن الدولة بوصفها مصدر التقدم الحديث. والقضية هنا ليست فقط في تاريخ وبنية الفروق الكبرى بين الإسلام والنصرانية بهذا الصدد، بل ولأنَّ الفكر الأوربي العقلاني نفسه، كما هو الحال في شخصية ماكس فيبر على سبيل المثال وكثير غيره من ممثلي العقلانية والحداثة الأوربية، اعتبر البروتستانتية مصدر التطور العقلاني والتكنولوجي والاقتصادي والأخلاقي للغرب الحديث! أما تطبيق بعض مرجعيات الفكر السياسي الأوربي بمعزل عن تاريخها الذاتي فإنه يؤدي إلى تصنيع "الأوهام العقلانية". وذلك لأنها تبقى من حيث الأصل والفعل "عقلانية" مغتربة. وفي الحالة المعنية تعني بأنَّ هذه الفكرة تبقى مغتربة عن حقيقة التاريخ العربي ومصادر وعيه الذاتي. فهي تجهل أهمية الدين وتراثه المتنوع والمتعدد بالنسبة لبناء الفكرة القومية نفسها على أسس ذاتية سليمة. فالقومية تفترض إعلاء شأن مؤسسات ومرجعيات جديدة تناسبها من خلال النفي التدريجي المتراكم بمعايير الوعي الذاتي وليس حسب مقتضيات الرؤية الأيديولوجية المبنية على أساس تأمل تجارب الآخرين أيا كانت حصيلتها. وينطبق هذا على تقديمه للنموذج التركي الحديث. والقضية هنا ليست فقط في انه لا علاقة للإسلام التركي بالعالم العربي، بل ولأنَّ نهوض تركيا الحديث كان له مقدماته الخاصة بسبب استمرار الدولة القومية، على عكس العالم العربي و"سورية" بشكل خاص. وبالتالي، فإنَّ إشكالية الدين والدولة بالنسبة للعالم العربي هي إشكالية مفتعلة، أي أيديولوجية خالصة وتقليدية فجة لتجارب أوربية مفصولة ومعزولة عن تاريخها الذاتي. بل إنَّ تأمل التجارب التاريخية الأوربية بهذا الصدد تكشف عن أنْ التغطية الدعائية والسياسية للتبشير وأفضلية النصرانية على غيرها و"مرجعية" همجية الأديان والثقافات الأخرى وما شابه ذلك كان على امتداد قرون، القاسم المشترك عند أكثر واكبر الشخصيات العقلانية الأوربية. وبعد نفاذ هذه المهمة جرى الانتقال التدريجي إلى مرجعيات أخرى لم تتحرر بصورة نهائية من ثقل هذا الإرث المريض. وبالتالي، فإنَّ محاولة الانتقال أو حرق المراحل، لا يؤدي إلا إلى تجارب باهتة وعديمة القدرة على النمو الطبيعي.

خلاصة القول، إنَّ موقف انطون سعادة من الدين واللغة يكشف عن ضعف إدراكه لطبيعة المكون الثقافي للحضاري في تاريخ الأمم. كما انه يمثل نمطاً من الخروج على فكرة تلقائية التاريخ الثقافي، ومن ثم دور وإمكانية المكونات التي لعبت فيه أدوارها الخاصة. فالأسطورة الإغريقية لها دورها الخاص في الفكر والثقافة، ومن ثم التاريخ الحضاري الإغريقي. بينما لا أثر لها في التاريخ العربي. وعلى العكس لعب الدين من حيث كونه منظومة، أثراً جوهرياً ومنِّظماً وفاعلاً في إرساء أسس الحضارة العربية وتأسيس مرجعياتها العقائدية الكبرى، التي أثرت بدورها على صنع منظومات مرجعية متنوعة ومتوحدة في الوقت نفسه في ميادين الفكر والروح والقيم وغيرها. إنَّ عدم إدراك حقيقة الإسلام كما هو، ودوره وأثره بالنسبة للفكرة العربية، بوصفهما توأمان لصيرورة تاريخية كبرى وكينونة ثقافية تلازمها سوف يؤدي بالضرورة إلى انتشار وهيمنة الخلل الفكري والسياسي تجاه إدراك القيمة التاريخية والتأسيسية للفكرة الإصلاحية بالنسبة للمستقبل. بعبارة أخرى، إنها تؤدي إلى الجهل بقيمة المرجعية الفكرية القائلة، بأنَّ الحقائق التاريخية الكبرى هي حقائق ثقافية ومن ثم منطقية.

إنَّ قضايا العرب والعروبة والإسلام واللغة العربية هي بديهيات تاريخية ثقافية ووجودية في الوعي والضمير الفرد والاجتماعي في الشام والعراق وفلسطين والأردن وليست إشكاليات فكرية أو روحية أو حتى سياسية. لكن الأمر مختلف نسبيا في لبنان النصراني وليس لبنان المسلم. ولهذه القضية تاريخها السياسي الخاص وخللها الاجتماعي وتشوهها الطائفي، أي حصيلة "منظومة" الخلل العميق في الوعي الاجتماعي اللبناني الذي لم يستطع التخلص منه إلا قلة قليلة جداً. أما بالنسبة لانطون سعادة فإنه أراد تذليل هذا التاريخ المزيف أو الزمن السيئ و"منظومة" الخلل، ولكن من خلال القفز على تاريخ المشكلة ومن ثم مستقبلها بوصفها تطوراً تلقائياً، وليس مشروعاً أيديولوجياً صرف. الأمر الذي جعل من اللغة العربية والدين الإسلامي والثقافة العربية وفكرة العروبة إشكاليات أيديولوجية وسياسية صغرى وليس مرجعيات ثقافية كبرى. وبالتالي الاستعاضة عن التاريخ الثقافي المتراكم في صيرورة العالم العربي وكينونة الثقافية بمصدر البيئة (الجغرافيا والأرض) بوصفها القوة الصانعة للروح القومي السوري. مما جعل من فكرته القومية صيغة نسبية وجزئية للفكرة القومية[4].

فقد كانت الاستعاضة عن التاريخ الثقافي المتراكم في صيرورة العالم العربي وكينونة الثقافية بفكرة الأرض والبيئة نكوصاً على مضمون الفكرة الاجتماعية نفسها بوصفها فكرة عقلانية وثقافية. والقضية هنا ليست فقط في أنَّ فكرة الأرض (التراب) هي فكرة غير عقلانية، ومن ثم لا يمكنها أنْ تكون أرضية عقلانية للفكرة القومية، بل وبسبب فقدانها للأرضية الواقعية نفسها. فالأرض "السورية" هي أرض عربية، أما تحويلها إلى مصدر الصيرورة التاريخية للروح القومي بالضد من "صحراء العرب" فإنه لا يعمل إلا على توسيع الهوة المفتعلة بين "القومية السورية" و"القومية العربية" مع ما يترتب عليه من إمكانية وضع أحدهما بالضد من الآخر. ولا يغير من ذلك وجود الفكرة الدقيقة والسليمة التي قال سعى إليها انطون سعادة من أنَّ "العوامل الجغرافية السلالية والتاريخية والسياسية والنفسية"، هي "عوامل تغلب على الدين"[5]. إنها فكرة سليمة من الناحية المجردة فقط. وتصبح مطابقة "للروح القومي" للأمة حالما يجري تذليل الدين و"المرحلة الدينية" في الوعي بوصفها مرحلة تاريخية طبيعية وثقافية خاصة، أي تذليل المكون الديني- اللاهوتي وتفعيل المكون الثقافي العقلاني. وبدون ذلك تصبح هذه المواقف والأفكار والأحكام النظرية مصدراً لتشويش الوعي النظري والعملي وتخريب تكامله التاريخي. وذلك لأنها تسير باتجاه مخالف بل ومضاد للرؤية النظرية العلمية الكامنة في إدراك قيمة التاريخ الثقافي الذاتي، وبالتالي عدم رؤية الحاضر بمعايير المستقبل. مع ما يترتب عليه من خلل في الرؤية المستقبلية للفكرة القومية "السورية" نفسها.

وقد يكون موقفه من "تجديد الروح القومي السوري" في مجال الأدب والإبداع نموذجاً لذلك. إذ أنَّ اغلب، إنْ لم يكن جميع استنتاجاته النظرية تصبّ بهذا الاتجاه، بحيث أدت إلى فكرة عامة تقول، بأنَّ الروح القومي السوري ينبغي له، من اجل تجديد ذاته في ميدان الأدب، الرجوع إلى الأصول التي دمرتها الثقافة العربية! فالسوريون لم يفلحوا بإكساب شخصيتهم على الثقافة العربية إلا في زمن الخلافة الأموية، ولما جاء العهد العباسي قلّ التأثير السوري وكثر التأثير الفارسي. وإنَّ ما أخذته الثقافة العربية من الثقافة السورية كان طفيفاً وجزئياً، وذلك بسبب مزاج العرب "الحار المكتسب من طبيعة بلادهم الحارة ذات الرمال المحرقة" التي لم تتفق مع "هدوء النفس السورية النامية في محيط معتدل لطيف تتغير فصوله تغيراً منتظماً فلا ينزعج الفكر في مجراه". وأنَّ "طبع العرب القديم مخالفاً للعمران والاطمئنان إلى راحة الضمير"، وأن "اللغة القومية الجديدة (العربية) قد طغت على اللغة القومية القديمة"، وأنَّ حصيلة "الأدب العربي" لا تتعدى كونها أبيات من الشعر تارة تمثل الشعور الجامح، ونماذج من الكرم البدوي والحكم السخيف، وبعض أخبار وقادة العرب وأمرائهم. وهو كل الثروة الروحية التي ورثها "السوريون" عن العرب[6]، وأنَّ "القول بوحدة الأدب العربي خطأ مشهوراً لا يفضل الصواب المهجور"[7]، وما الى ذك. لكن الأمر اختلف حالما جاء دور الاتصال بالغرب والآداب الغربية. حينذاك "لمس السوري في هذه الآداب آثاراً من أساطيرهم السابقة ومثلهم العليا وسرعان ما تحول الفكر السوري الجديد عن الانقياد إلى المثل العليا الضئيلة التي خلفها الأدب العربي إلى البحث عن المثل العليا المعبرة عن النفس السورية". بعبارة أخرى، إنَّ الغلّو في "السورية" قد أدى ليس إلى سلخها الفعلي عن مقوماتها الذاتية، بل وأدى إلى نوع من الاستلاب لا يقل عما كان انطون سعادة يدعو لمواجهته. وذلك لأنَّ الحصيلة الجلية لذلك تقوم في توصله إلى أنَّ التأثر بالغرب الحديث هو أسلوب أو طريق وعي الذات السوري القومي الأدبي والروحي!! أما اعتبار إدراك الذات السورية ووعيها الروحي من خلال الاحتكاك بالثقافة الغربية بسبب ما فيها من مثل عليا مميزة للثقافة والروح السورية فهو أما استلاب ثقافي أو ضغينة ضد العرب المسلمين أو لجهل بالتاريخ الثقافي والقومي العربي (السوري) أو جميعهم. أما النتيجة المترتبة على ذلك فهي تمهيد الطريق النفسي والفكري لسلخ "سورية" عن ذاتها العربية. ولا يغير من ذلك العبارات والكلمات والشعارات التي تعتبر الفكرة القومية السورية الاجتماعية الأشد دفاعاً وتمثلاً للعروبة الحقيقية وليس الوهمية كما دعاها انطون سعادة أحيانا. والسبب يكمن في أنَّ تغليب الخاص على العام في الرؤية النظرية للفكرة القومية السورية قد أدى من حيث الجوهر إلى تأسيس فكرة قومية في العالم العربي لا علاقة لها بالعروبة! ووجد ذلك انعكاسه في الاستنتاج النظري الفكري القائل بانعدام وجود أمة عربية واحدة. وكتب بهذا الصدد يقول، بأنه "لما لم يكن العالم العربي قطراً واحد وبيئة واحدة وسلالة واحدة ومجتمعا واحدا، فلا يمكن أنً تكون له شخصية فيزيائية ونفسية واحدة. وبالتالي لا يمكن أنْ تكون له قومية واحدة ومطالب واحدة ونظرة واحدة إلى الحياة والفن"[8]. وبالتالي، فإنَّ "تسمية شعوب العالم العربي أمة هي من باب إطلاق الأسماء على خلاف مدلولاتها ومعانيها"[9]. وهو حكم يستتبع عدم توصله إلى إدراك ماهية الأمة العربية بوصفها أمة ثقافية، أي كل ما توصل إليه بصدد "الأمة السورية".

إنَّ تأسيس الفكرة القومية السورية بالصيغة المذكورة أعلاه عند انطون سعادة كانت تحتوي على محاولة تأصيل الاستمرار الثقافي. غير أنَّ إشكالاتها تقوم في عدم إدراكها جوهرية التاريخ العربي الإسلامي بالنسبة للفكرة القومية السورية بوصفها فكرة عربية. ولم يكن هذا بدوره معزولاً عن الخلل المنهجي المتعلق بفهم حدّ وحقيقة ومسار التاريخ والمعلومات والآثار. وبغض النظر الأسباب الشخصية والمنهجية الكامنة وراء هذا الخلل، فإنَّ حصيلته تشير إلى جانب واحد محدد لا لبس فيه وهو التحزب الأيديولوجي الصرف المبني على ضرورة وأهمية "الدولة السورية" من اجل التمتع بتاريخ ذاتي خاص. لكن تفسيره وتأسيسه يتسم بخلل بنيوي هائل من الناحية التاريخية والثقافية والمنهجية. فهو تأويل لا يصنع غير نفسية وذهنية التحزب المفتعل. ليس ذلك فحسب، بل ويقف بالضد من منطق الفكرة القومية الحديثة في العالم العربي بوصفها فكرة عربية أولا وقبل كل شيء. بمعنى يمكنها أنْ تكون عربية سورية وليس سورية عربية. وذلك لأنَّ كل التاريخ العربي الثقافي جرى في "سورية"، أي في منطقة المشرق العربي (أو الهلال الخصيب). أما الرجوع إلى ما قبل ذلك فهو مجرد أساطير. وإذا كان ذلك لا ينفي أهمية هذا الرجوع بل وضرورته بالنسبة للوعي الثقافي العام، فإنه ليس بذي قيمة جوهرية بالنسبة لوعي الذات القومي "السوري" الحديث بوصفه وعياً قومياً عربياً. وبدون ذلك لا يؤدي هذا التنظير إلا إلى توسيع مدى الانفصام الثقافي والانغلاق القومي. وبالتالي إلى عدم إدراك العلاقة الضرورية بين الواقع الحالي والمستقبل، والإمكانية والواقع، والكمون والحقيقة، والجزئي والكلي في القضية القومية العربية.

إنَّ هذه الملاحظات النقدية تبقى جزءً من ضرورة تقييم التجربة النظرية للفكرة القومية العربية الحديثة. وهي لا تقلل من فكر انطون سعادة، على العكس. أنها تكشف عن قوتها وإشكالاتها في الوقت نفسه. وذلك لأنَّ انطون سعادة يبقى، بالنسبة لي، أحد أعظم مفكري ومنظري الفكرة القومية العربية الحديثة. وإنَّ فكرته عن القومية السورية تبقى ذات أهمية عملية في ظروف العالم العربي الحديث ولكن بعد إعادة تدقيقها في ظل مستجدات الصيرورة المتأخرة للفكرة القومية العربية وواقعها الفعلي.

ا. د. ميثم الجنابي

.......................

[1] انطون سعادة: الإسلام في رسالتيه، ص180.

[2] إن إشكالية الدين واللغة بالنسبة للفكرة القومية العربية هي إشكالية "لبنانية"، أي "سورية" ضيقة لازمت مرحلة صعودها وتنافر قواها الداخلية بأثر الاستعمار الفرنسي وبقايا الانحطاط الاجتماعي والثقافي والسياسي والدولتي التي لازمت السيطرة والهيمنة العثمانية. بل إنَّ كل من حارب أو عارض أو سعى لنقد أهمية وجوهرية اللغة (العربية) والدين (الإسلامي) بالنسبة للفكرة القومية كانوا من أقليات قومية أو دينية (مسيحية). والشخص الوحيد الذي تجاوزها من خلال الرجوع إليها بوصفها مرجعية بما في ذلك من خلال اعتناقها الشخصي هو ميشال عفلق. ويندرج ضمن هذا السياق أتباع الأيديولوجيات الغربية من ذوي الاستلاب الثقافي والجهل المعرفي وبالأخص "اليسار"، أي تيار التقليد السياسي والأيديولوجي والاستلاب الثقافي الذي عادة ما لازم محاولات "الأقليات" العرقية والدينية "الاندماج" المفتعل بقضايا وإشكاليات العالم العربي. ولا تخلو فكرة ومواقف انطون سعادة المتعلقة باللغة (العربية) والدين (الإسلامي) بالنسبة لتأسيس الفكرة القومية العربية من تأثير دفين وغير مباشر لنفسية وذهنية الأقلية الدينية (النصرانية). ولا يغير من هذه الحقيقة محاولاته الجادة والمتجانسة والمخلصة من اجل إرساء أسس الفكرة القومية على قواعد الدنيوية الخالصة. ومن ثم الإبقاء على الدين باعتباره قضية شخصية.

[3] الاستثناء الوحيد في تاريخ الفكر العربي الحديث هو ما توصل إليه عبد العزيز الدوري في كتابة (الجذور التاريخية للقومية العربية)

[4] بل يمكن القول، انها الوجه الاخر للفينيقية اللبنانية ولكن اكثر توسعا من الناحية الجغرافية – بالاسم فقط- وذلك لان كل ما يقدمه سعادة من ادلة لا تتعدى في الاغلب حدود لبنان الحديث والنصرانية اللبنانية.

[5] انطون سعادة: الإسلام في رسالتيه، ص 236.

[6] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج3، ص141.

[7] انطون سعادة: نشوء الأمم، الآثار الكاملة، ج11، ص123.

[8] انطون سعادة: الإسلام في رسالتيه، ص245.

[9] انطون سعادة: الإسلام في رسالتيه، ص245.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم