صحيفة المثقف

محمود محمد علي: قراءة إبستمولوجية في كتاب التحليلات الأولى الأرسطية (1)

محمود محمد عليلا شك في أن الأورغانون الأرسطي بشهادة معظم مؤرخي المنطق، قد تطور إلى حد بعيد، وأنه لا يوجد كتاب من كتابات “أرسطو” المنطقية ظل بدون تغيير، فضلاً عن أن معظم تلك الكتب قد وضعها “أرسطو” في زمن متأخر داخل إطار عام يتطابق إلى حد ما مع تعاليمه الأخرى، ولذلك فإن تحليل الخطوات المختلفة في تطوره تعد مهمة صعبة (1).

وهذه الصعوبة تتمثل في أن كل كتابات الأورغانون الأرسطي ليست بمستوي واحد، فبعض النصوص كما يذكر مؤرخ المنطق الألماني “بوشنسكي” لا يتجاوز نصوص “أفلاطون” أو معاصريه، بينما تدل نصوص أخري علي قدرة منطقية خارقة، ومن ثم فهي تكشف عن تقدم ملموس بالمقارنة مع النصوص الأخرى (2).

ويذكر مؤرخ المنطق ” بوشنسكي ” أنه يمكن استخدام معايير عديدة لذلك الأمر، وذلك علي النحو التالي (3):

1- استخدام القياس التحليلي (الحملي)، والذي يعد بمثابة الاكتشاف الأخير

2- استخدام الحروف، كاختصارات وكمتغيرات.

3- مستوي الصرامة المنطقية، والأسلوب والذي كان مختلفاً جداً في كتابات عديدة، وربما من المفترض أن يكون قد تحسن مع الوقت.

4- التحسن الذي طرأ علي تحليل القضية، من الشكل البسيط ” أ – ب ” مروراً باستخدام الشكل الأكثر تعقيداً، وإن الذي يوجد فيه ب في كله يوجد أ “.

5- إن الحروف تظهر علي الأرجح في البداية، كاختصارات بسيطة، ثم كمتغيرات حدية، وفي النهاية كمتغيرات قضوية.

6- إن القضايا الموجهة التي تتوافق مع فلسفة أرسطو الخاصة بالمستقبل، تعد فيما يبدو الاكتشاف الأخير.

ثم يؤكد ” بوشنسكي ” أنه بتطبيق هذه المعايير، فإننا نجد أن الأعمال المنطقية لأرسطو – علي الأقل من حيث الاهتمام – يمكن أن تكون قد كتبت بالترتيب التالي: –

أ- ففي البداية يأتي كتاب الطوبيقا ( مع كتاب السفسطة والذي يعتبر تكملة لكتاب الطوبيقا، وهو بمثابة المقالة التاسعة منه )، وهما لا يشتملان بأية حال علي متغيرات، كما أن القياس لم يكن قد تمت معرفته بعد ؛ علاوة علي أن المستوي المنطقي فيه متدن وتحليل القضية الحملية فيه بدائياً (4).

ب- كتاب المقولات، وهو ينتمي فيما يبدو إلى نس الفترة ؛ حيث يعد مدخلاً لكتاب العبارة (5) ؛ وهو يشتمل علي نظرية في الألفاظ، ويتعامل معها بدون استخدام متغيرات.

ت- كتاب العبارة، ولا بد أنه كتب فيما بعد، ويتضمن هذا الكتاب نظرية السيميوطيقا، التي كانت فيما يبدو في الأصل أفلاطونية، ومع أنه لا يوجد أثر في هذا الكتاب للمتغيرات وللأقيسة، إلا أنه من الملفت للنظر أن مستواه أعلي من كتاب الطوبيقا والسفسطة والمقولات ؛ علاوة علي اشتماله فصل في الموجهات، وإن كان لم يزل أولياً بالمقارنة مع ما يوجد في التحليلات الأولى (6).

ث- يمكن وضع المقالة الثانية من كناب التحليلات الثانية بعد ذلك مباشرة ؛ حيث إن أرسطو الآن في القياس والمتغيرات معاً، وإن كانت المتغيرات تستخدم دائماً كاختصارات فقط. أما عن المستوي المنطقي، فإنه قد كان فيما يبدو أدني درجة من الأجزاء الأخرى لكتاب التحليلات الأولى (7).

ج- أنه يجب أن نضع بعد ذلك الفصول 1، 2، 3، 7، 23، 46، من المقالة الأولى لكتاب التحليلات الأولى، كما أن ما لدينا ليس مجرد متغيرات فحسب، بل إنها مستخدمة كمتغيرات حدية. كما يوجد أيضاً تفصيل كامل للقياس، فضلاً عن أن المستوي التكنيكي للقياس ملفت للنظر (8).

ح- أما أخر الأعمال المنطقية، فربما تكون الفصول 3، 8، 22 من المقالة الأولى للتحليلات الأولى، والمقالة الثانية من الكتاب نفسه ؛ إذ أننا نجد هنا معظم النظريات الدقيقة كنظرية الموجهات. فضلاً عن استخدام المتغيرات أحياناً كمتغيرات قضوية (9).

وعلي ضوء هذا الترتيب الزمني السابق، فإنه يمكن القول بأن الأورغانون الأرسطي، قد تطور بالتمييز بين مرحلتين: مرحلة ما قبل التحليلات، ومرحلة التحليلات. في مرحلة ما قبل التحليلات، قام “أرسطو” بالتنظيم المنهجي لقواعد المجادلة، والتوسع في القسمة الأفلاطونية علي نحو ما يوجد في الطوبيقا والمقولات والعبارة، وهي الكتب التي طور فيها أرسطو إلى حد بعيد وقرر بوضوح مجموعة القواعد أو القوانين التي تقوم عليها هذه القسمة (10).

علاوة علي ذلك، فقد حاول “أرسطو” في تلك المرحلة إبراز العمومية في أعماله عن طريق الاستخدام غير الملائم إلى حد ما للضمائر، أو عن طريق الأمثلة علي نحو ما يفعل “أفلاطون” في محاورة الجمهورية.

أما مرحلة التحليلات، فقد أتاها اسمها من موضوعها ومنهجها، فموضوعها أجزاء القياس والبرهان، وهما آلة العلم الكامل ومنهجها تحليل القياس والبرهان إلى أجزائها، فإن العلم الكامل إدراك الشيء بمبادئه، ولا يتسنى هذا الإدراك إلا بالتحليل، والبرهان ينظر إليه من حيث صورته ومن حيث مادته، فهو ينحل إلى مبادئ صورية، وأخري مادية، والتحليلات التي ترد البرهان إلى المبادئ الصورية التي يتعلق بها لزوم التالي من المقدم لزوماً ضرورياً بصرف النظر عن مادة البرهان، تسمي التحليلات الأولى، والتحليلات التي ترد البرهان إلى المبادئ المادية التي يتعلق بها صدق التالي، تسمى التحليلات الثانية (11).

وكتاب “التحليلات الأولى “، يمثل مرحلة القطيعة المعرفية لكل صور الممارسات السابقة للفكر المنطقي عند كل من الأيليين، والسوفسطائيين، وأفلاطون، والتي كانت متمثلة في منهج القسمة الثنائية، حيث أخذ “أرسطو” في أوائل “التحليلات الأولى ” علي منهج القسمة في أنه لا يوصل إلى نتيجة مفيدة، نظراً لأنه بدلاً من نيل موافقة الآخر علي نحو ما، فإنه يتوجب علي هذا المنهج في كل خطوة من خطواته، أن يرجوه بالموافقة علي إدراك ذلك، ولهذا انتهي أرسطو إلى أن أسلوباً كهذا يعجز عن الإيصال إلى نتيجة، وبالتالي فهو غير استنتاجي. إذ أنه عندما نقسم المرتبة ” أ ” المنتمية إلى ” ب ” بدلاً من ” لا – ب”، إذ لا بد من موافقة المحاور علي ذلك، حتي نتمكن من التقدم، وهو ما نحتاجه باستمرار في كل خطوة جديدة، وحول هذه النقطة لا يقدم لنا منهج التقسيم أية مساعدة، ولهذا انتهي “أرسطو” إلى أن “القسمة الثنائية” ما هي إلا مجرد قياس ضعيف لا يمكنه في الواقع إثبات شيء، ولكنه يكمن في سلسلة الافتراضات (12).

وكذلك فإن كتاب “التحليلات الأولي" يقطع الصلة المعرفية بينة وبين كتاب الطوبيقا لأرسطو نفسه، والذي يعتبر أحد مؤلفات الشباب التي كان يتمرس فيها “أرسطو” ويتدرب علي صياغة القواعد النظرية لعلم المنطق كما جاءت بعد ذلك في التحليلات الأولى (13).

فعلي سبيل المثال لا الحصر، نجد في كتاب الطوبيقا فقرتين سابقتين لنظرية الرد غير المباشر الوارد في الفصول من الواحد والثلاثين إلى الخامس والأربعين من الباب الأول من كتاب التحليلات الأولى الفقرات 46 b 40-50 bH، ومؤدي الفقرة الأولى: إذا ما كان الخير جنساً للذة، فهل تكون أي اللذة، ليست خيراً، لأنه إذا ما وجدت لذة غير خيرة فسوف يتضح أن الخير ليس جنساً للذة، لأن الجنس يجمل علي كل شيء يندرج تحت أي نوع معطي (14).

ونلاحظ هنا أنه توجد إشارة إلى قياس وارد في صورة الضرب Barabara (من الشكل الأول ) ” إذا كانت كل لذة خيراً، وكانت س لذة فإن س هي خير ” لإثبات صحة قياس في صورة الضرب Felapton (من الشكل الثالث)، وإذا ما كانت ” لا س ” هي خير، وكل ” س”، فإن بعض ما هو لذة ليس خيراً (15).

وتوجد إشارة مماثلة لهذا في الفقرة التالية ” لننظر ثانية ما إذا كان النوع المفترض يصدق علي شيء ما، ولكن الجنس لا يصدق عليه، مثل ما إذا جعلنا الموجود أو الذي يمكن معرفته جنساً للذي يمكن أن ندلي برأي عنه. لأن الذي يمكن أن ندلي برأي عنه يمكن أن يحمل علي شيء غير موجود ( لأن كثيراً من الأشياء غير الموجودة هي موضوعات للفكر)، ولكن من الواضح أن الموجود والذي يمكن معرفته هو جنس للذي يمكن أن ندلي برأي عنه (16).

وفيما يلي قياس من الضرب Ferison من الشكل الثالث ط إذا كان لا واحد ما هو غير موجود،، موجود وبعض ما هو غير موجود يمكن التفكير فيه، فإن ليس بعض ما يمكن التفكير فيه يكون غير موجود، ويمكن رد هذا القياس إلى قياس من الضرب Darii من الشكل الأول، فنقول ” إذا كان كل شيء نفكر فيه موجوداً وبعض غير الموجود يمكن التفكير فيه، فإن بعض غير الموجود يكون موجوداً (17).

وفي هذين المثالين من الأقيسة كما في التحليلات الأولى، يشير أرسطو إلى الشكل الأول للرد، ولكنه يصوغ أمثلته دون استخدام متغيرات (18).

وثمة نقطة أخري جدية بالإشارة، وهي أن كتاب الطوبيقا لم يقطع صلته بالفكر المنطقي الأفلاطوني، بدليل أن ممارسة فني التصنيف والتعريف في الأكاديمية، هي التي حددت محتويات كتاب الطوبيقا، ومن المحتمل أن تكون نظرية المحمولات هي التي اكسبت كتاب الطوبيقا الوحدة بما تنطوي عليه من وحدة قد درسها الأكاديميون من قبل، لأن “أرسطو” يعرض للمصطلحات الأساسية، مثل الخاصة والعرض والجنس والنوع والفصل، كما لو كانت معروفة من قبل. وكتاب “الطوبيقا” هو نتاج للتفكير المنهج الجدلي المستخدم في الأسئلة المتعلقة بالتعريف والتصنيف (19).

علاوة علي أن القصد من كتاب “الطوبيقا”، فيما يقول أرسطو هو ” أن نستنبط طريقاً يتهيأ لنا به أن نعمل من مقدمات ذائعة قياساً في كل مسألة تقصد “(20)، فإن الكتاب يكون في الواقع عملاً منطقياً قائماً علي مبدأ عام يمكن علي أساسه البرهنة علي أمور حسية، وهذه المبادئ إما أن تكون قواعد منطقية – ويوجد هنا عدد ليل من هذه الواعد علي عكس ما يحدث في التحليلات أو إرشادات منهجية وملاحظات سيكولوجية (21).

من كل ما سبق يتضح لنا أن كتاب الطوبيقا لم يتعد مرحلة الممارسة العفوية للتفكير المنطقي السابق علي أرسطو، حتي وإن انطوي علي بعض القواعد المنطقية، بدليل أن لغة كتاب “الطوبيقا” هي نفس لغة “أفلاطون” ومن قبله السوفسطائيين والأيليين. ولذلك فإن كتاب الطوبيقا هو أحد مؤلفات الشباب التي كان يتمرس فيها “أرسطو” للتدريب علي صياغة القواعد النظرية لعلم المنطق كما جاءت بعد في التحليلات الأولى... وللحديث بقية.

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

..............

1- W. Kneale , M. Kneale: The Development of Logic ,Clarendon Press , Oxford , 1984 , P.23-24.

2-روبير بلانشي: المنطق وتاريخه، ص 41.

3- أ. م. بوشنسكي: المنطق الصوري القديم، دار الثقافة لدنيا الطباعة والنشر، 1990م، ص 102-103.

4-نفس المرجع، ص 103.

5- د. محمد فتحي عبد الله: الجدل بين أرسطو وكنط، دار الوفاء، الاسكندرية، 1999م، ص 36.

6- أ. م. بوشنسكي: المرجع السابق، ص 104.

7- نفس المرجع، ص 104.

8- نفس المرجع، ص 104.

9- نفس المرجع، ص 105.

10- نفس المرجع، ص 105.

11- د. محمد فتحي عبد الله: المرجع السابق، ص46.

12- أرسطو: منطق أرسطو، ج1، تحقيق عبد الرحمن بدوي، ط1، وكالة المطبوعات، الكويت، 1980، ص225.

13- د. حسن عبد الحميد: التفسير الابستمولوجي لنشأة العلم الحديث، بحث منشور ضمن كتاب نظرية المعرفة، مكتبة سعيد رأفت، القاهرة، 1988م،.. ..، ص 201.

14- Aristotle: Topica, Translated by W. A. Pickard-Cambridge، B.IV،ch.1, 120b, 17-20.

15- د. محمد فتحي عبد الله: المرجع السابق، ص 125.

16- Aristotle: op cit، B.IV,ch.1،101b, 20 ff.

17- د. محمد فتحي عبد الله: المرجع السابق، ص 125.

18- W. Kneale , M. Kneale The Development of Logic, London, 1990, p.38-39.

19- د. محمد فتحي عبد الله: المرجع السابق، ص 127-128.

20- Aristotle: op cit، B1،100a, 1 ff.

21- أ. م. بوشنسكي: المنطق الصوري القديم، ص 128.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم