صحيفة المثقف

سامي عبد العال: الهُروب من الفلسفة

سامي عبد العال"الهروب من الفلسفة يكشف هروباً أكبر من حركة الحياة ..."

"إذا كانت هناك أيّةُ ميزةٍ للفلسفة، فإنها تقوِّي جوانبَ إنسانيتنا الحُرة بالمقام الأول ..."

ليس كلُّ ما نهرب منه شيئاً مُخيفاً بالضرورة، لكنه قد يكون أمراً صعب الترويض بطبيعة الحال. نظراً لكونِّه يتطلب إمكانيات وقدرات إنسانية خاصةً لا تتوفر في البيئة الحاضنة له، كما أنَّه أمرٌ قد يجد نفسه شاذاً كغرابٍ أسود بين طيور واضحة البياض. وهذا تحديداً شأن الفلسفة في بيئاتنا العربية الاسلامية، حيث التَّوجُس من كل ما يدعو للتفلسف، أي انتشار فوبيا المصطلحات والمعارف والاهتمامات العقلية، لدرجة التحفظ إزاء لقب فيلسوف الذي يجري شجبُ الاقتراب منه ضمنياً أو صراحةً. وقد يُطلق اللقب على سبيل السخرية والتندر ليس أكثر وسيجد أصحابه حرجاً فيما يمارسونه من طرائق التفكير. وذلك يصح اعتباره هكذا، حتى بالنسبة لفلاسفة غربيين يستنكفون تسميتهم بالفلاسفة مباشرة بدءاً من لودفيج فتجنشتين مروراً بآلان باديو وانطوني نيجري وليس انتهاء بجوديث بتلر وسيلا بن حبيب.

ولكن لأنَّ الفلسفة في بيئاتنا العربية القاحلة فكرياً تنتمي إلى الآخر الغربي (كنوعٍ من إلصاق اتهامٍ ما به)، فقد نراها غريبة غربة المجهول وسط جُموع بشرية تثرثر وتبتلع الكلام. ثقافة المجتمعات العربية تستسهل ما يأتي تلقائياً كأنَّه جاء بلا مقابل، جاءَ هبةً من السماء، سقط قضاءً وقدراً من عوالم أخرى. وتحتاج عملية دفعه بعيداً إلى طقوس من جنس الاحتماء بالمألوف والعادات والتقاليد والبعد عن مواطن الشبهات. إنَّ الهروب من الفلسفة سمة عامة راسخة رسوخ بعض التاريخ العربي في توبيخ التفكير والبعد عن قضايا الإنسان وغياب المعالجات المبتكرة للمشكلات.

الفلسفة في التراث العربي لها جميع الأوصاف المُنفرّة إلاَّ أنْ تكون مقبولةً. لو نتخيل من قبيل المفارقات البائسة، لوجدنا وضعَ الفلسفة لدينا كما يلي:

1- الفلسفة فكرٌ لا قيمة له (إزاء زحام كل القيم الممكنة!!)، كأنَّ مجتمعاتنا لا تجد مساحةً لتكديس القيم على الطرقات وفي الردهات والتواريخ والعصور المختلفة وفوق أرفف المكتبات وتحت أكمات الأشجار. ولم يبق أمامنا سوى التنقيب عن الأنشطة العقلية غير ذات القيمة كالفلسفة والمنطق والنقد والتحليل. وبات يضرب بالتفكير المثل في كون من تفلسف فقد أضاع وقتاً دون طائل. ويظل المتكلم يقول لمحدثه أدخل في الموضوع مباشرة وبطَّل فلسفة، أي أن الفلسفة تعوق الحوار البرجماتي ولا تصل بنا إلى فائدة ترجى!!

2- الفلسفة أصل الهموم المتراكمة فوق القلب (عبر واقع سعيد وبهيج!!). المثل السائر لدى الامهات حين يدعين للأبن: " رُوحْ يا بني .. ربنا يكفيك شرّ الفكر"، أي اذهب يا ولدي إلى حال سبيلك مصحوباً بالتوفيق والسداد وفتح أبواب الأمل، ولكن شريطة أنْ تبتعد عن الفكر حتى لا تلاحقك لعناته في كل مكان. ولا ندرى كيف يكون ثمة أمل و رجاء في قادم الأيام بلا إعمال للفكر ليلاً ونهاراً. والمقولة تربط الفكر بالمشكلات نظراً لميراث قديم أنْ من يفكر هو مشغول البال نتيجة الظروف الحرجة التي يمر بها. وأن الفكر لا أهمية له في الحياة إلاَّ أن ينغّص عيشنا ويغمس العقل في سوء الأحوال والمآل.

3- الفلسفة تُصنّف ضمن العلوم غير النافعة، هي أضغاث أحلام وكوابيس (وسط نوم وغطيط هانئين إلى الابد!!). والغريب أنَّ هذا حكم ثقافي عام لا رجعة فيه. وتبدو الفلسفة من مخلفات الأوثان التي لا توضع في سلة مهمات الحياة إلاَّ عرضاً. وتوجد مثل هذه الفكرة في مجتمعات لا تعي حتى ما هي المعرفة، لأنَّ المعارف التي يظن الناس انها دون قيمة هي على درجة كبيرة من الأهمية وإنْ كانت بلا موضوع محدد كالفلسفة. لأنها العمق الكلي لوجود المجتمعات وهي الإشعار والنبض العميق للفكر خارج القيود والمحددات الجزئية وتمثل احساساً بعيداً لما يحدث على صعيد الوعي وتحولاته.

4- الفلسفة تُلاحَق كنوع من الزندقة والهرطقة (في بيئة إيمان خالص أو هكذا يُفترض!!). ذلك نتيجة ادعاء التدين المزيف وانتشار تجارة الدين بين الناس. وليس التفلسف مقترناً به من حيث المبدأ. وقد قال ابن تيمية قديما " من تمنطق فقد تزندق". والمنطق رغم كونه أورجانون (ألة) الفكر لمعرفة الصحة من الخطأ كما يقول أرسطو، إلاَّ أن قولاً كهذا ينفي أية أهمية للمنطق. والسذاجة أن تصبح العبارة شعاراً في الثقافة الجارية إلى مداها البعيد. وهي تمثل كراهية التفكير المنطقي من الأساس. رغم أنه مع عدم وجود المنطق الناس يفكرون أصلاً في شئونهم بطريقة منطقية. أي ليس الناس منتظرين دراسة المنطق حتى يكونوا منظمين في حياتهم العامة!!

5- الفلسفة حذلقة خطابية (وسط كلام دقيق!!). كثيراً ما توصف الفلسفة بالكلام المتحذلق الذي يلف ويدور. في إشارة إلى أنَّ الذهنية العربية تعرف كلاماً آخر أكثر دقة وإحكاماً. والموقف أنه لا هذا الربط بين الفلسفة والكلام المتحذلق صحيح ولا وجود كلام محكم في الخطابات العامة صحيح بالمثل. كل ما في الأمر أنَّ الكلام العام مباشرٌ ولا يحتاج مجهوداً في إيصال الأفكار وأنَّ سلطة الفكر السائد تُمرر ما تريد دون مساءلةٍ. وكان على من يفكر بشكل مختلف ومن يصوغ عبارته بالطريقة ذاتها على نحو أعمق أنْ يُطرد شر طرد من مجال القول. فيتحول الكلام العميق والفاهم لجوهر الأمور إلى حذلقة حتى يكف عن مخالفة السائد وعن الاتيان بشيء مغاير أكثر اتساعاً وحنكة في الحياة. ودوماً ستكون الفلسفة خذلقة مكروهة لو أشارت إلى وجوه غائبة في القضايا المطروحة للنقاش.

6- التفلسف مكر وتخابث (إزاء ما هو ثابت وأصيل!!). وهذا المعنى ليس موضوعاً لاتهام الفلسفة، لأنه خلط معيب بين ما هو أخلاقي ومعرفي وعقلي. ويصعب بل يستحيل أن يخرج التفلسف بهذه الطريقة البعيدة عن الصلاحية العقلية التي تهم كل إنسان. كما أن الفلسفة تدريب عقلي غير مباشر على جعل انسانيتنا هي المعيار الذي يحرر الثقافة من القيود والقصور. وربما لا تجد الثقافة الشائعة كلمات لتعبر بها عن المضامين البعيدة والعميقة لمعاني الحياة دون السقوط في الاستعارات والمجازات الملتوية.

7- الفلسفة ابتعاد عن سبيل الله ويجب تجنبها ( خشية الانحراف والانزلاق إلى الالحاد!!). والمقارنة هنا غير صحيحة بالمرة، لأنّ هناك خلطاً بين دائرتي العقل والإيمان، بين البرهان والعرفان. فالفلسفة تحفر حول المعتقدات الساذجة وتقوي درجة الوعي بها وتغربلها أمام النقد والتحليل. وليس من شأن الفلسفة مزاحمة الدين من قريبٍ أو بعيد، لأنها ستفشل فشلاً ذريعاً لو تحولت إلى دين، تماماً كالهر يحاكي صولةَ الأسد. كما أنه لا يعنيها أنْ تمزج دلالة الإيمان مع نشاط العقل وإلَّا لتناقضت ذاتياً ولقضت على منهجها بنفسها ولصادرت على المطلوب من أول وهلة.

8- الفلسفة سفسطة بلا غاية، أي جدال فارغ وعقيم ( وسط حياة جادة!!). لا تطرح الفلسفة السفسطة ككلام يترك بلبلة أو يستحضر مضمونا فارغاً. لأن السفسطة هو الكلام الذي فقد معناه وليس هذا مهمة الفلسفة ابتداء. كما أنَّ السوفسطائيين المشهورين في تاريخ الفلسفة كانوا حاذقين في فنون الجدل والتعبير عن الآراء بأكثر من طريقة. والسوفسطائي هو الماهر في صنعته وليس الذي يبلبل الألسنة أو يراوغ بلا هدف. وافلاطون هو من روج صورة زائفة عن السوفسطائية في بلاد اليونان ،لأنَّهم لم يكتبوا آراءهم وأفكارهم بوضوح ولم يصل إلينا مما كتبوا الشيء الكثير. إن افلاطون كان فيلسوفاً للدولة مما جعله ينكل في محاوراته بشكل غير مباشر بمن يعارض آراءه أو من يقف في الاتجاه النقيض.

السؤال: ما طبيعة هذا الهروب الثقافي الكبير من الفكر؟ ما هي أشكاله المختلفة في ثقافتنا العربية؟

الهروب خوفاً

نتيجة انتشار ثقافة الرعب من التفكير الحُر يبتعد الناس عن مناقشة قضاياهم على نحو فلسفي. كما أنَّ تعبير التفكير الحر (ليس وارداً لدينا من الأساس)، لأسباب تاريخية سياسية أكثر منها واقعية. فالحرية غير متاحة بمعناها الجذري والفاعل في الحياة. وبالتالي يصاب الإنسان بفقدان الإرادة، لأن إرادة القول تفترض استقلالاً لا رعاية وتؤكد وجود فاعل لا عبودية للقطيع وتحتم حياة منتجة لا عالة على مجتمعات أخرى.

إن المجتمعات التي تنتج أفكارها وغذاءها وكيانها الحضاري تستطيع أن تبدع أفكاراً ورؤى فلسفية حرة بالتأكيد. أمَّا التي تكتفي بانتظار لقيمات حضارية من هنا وهناك إنَّما تعد مجتمعات تتوحل في أخطائها التاريخية. لأن الفلسفة تعني نقداً كلياً مرهوناً برؤية كونية تحقق المعاني البعيدة للحياة. وبالتالي يعد نقد الأخطاء جزء لا يتجزأ من الحرية، لأن الحرية ابداع وثقافة في المقام الأول، وغياب التفلسف يعني غياباً لما يربطنا بهذا الشريان الإنساني الأهم في الحياة.

الهروب تفاهةً

قد لا يكون رفض الفلسفة رفضاً مباشراً، إنما يأخذ طريقاً بملء الفعل الذي تتركه لمجتمعات فارغة من الفكر. فالفلسفة فن التعرف على ما هو كوني تلبية لإنسانية عامة لا تخطئها الأفكار في العقل والروح. ودون ذلك يعتبر الأمر ثرثرة في غير مكانها، كمن يملأ جوف المفاهيم الكبرى كالإله والحقيقة والمعنى بانفعالات جزئية مرتبطة بالكراهية والعواطف دون أنْ تهم إنسانا مهما يكن.

والشيء الساخر أنْ يرتكب المشتغلون بالفلسفة هذه الحماقة الفاجعة، أي أنهم لم يعووا كيف يكونوا على مستوى التفلسف مبدين آراءهم بعبارات الحب والكراهية كأطفال سذج على شواطئ الحقيقة. ولقد ساعد في انتشار هؤلاء البلهاء وجود الوسائط الافتراضية التي يفرغون فيها قيئهم الانفعالي. ويبدو كلامهم السطحي على الفيس بوك أو التويتر مهماً، بينما لا يعد فلسفةً ولا فكراً، بل "فضلات لغوية" ليس أكثر. وللأسف يطلقون على أنفسهم لقب فلاسفة، غير أنهم مجرد نماذج للفشل والتفلت من الفلسفة بشكل خلفي. وهم أشبه ببعض الحيوانات التي تنتشي هاربة على نحو منكسر ومخزٍ أثناء العراك مع حيوانات أخرى أشد شراسة، على المنوال نفسه، ستجد هؤلاء الأدعياء منتفشي الأوداج وحادي النظرات وفاغري الأفواه مع العبارات كأنهم جادون بالفعل!!

للفلسفة فنونها العميقة في اختراع الكلي أينما سمعت دبيبه عبر التفاصيل، وهو ما يهم إنسانيتنا التي لا تفرق بين مجتمع وآخر. والفلسفة كذلك مشاركة في انتاج الأصيل المبدع لا تكرار الأمر الطارئ والمؤقت. والعقول الكبيرة ككبار الفلاسفة هي عقول كونية عابرة للثقافات، كأنها تقصدنا عينا ونجد فيها ما يسد رمقنا الأقصى للتأمل والتفكير. أما عقول التافهين، فهي محض " غُدد ثقافية" ليس وراءها إلاَّ حيل النكاية والاغاظة الحمقاء. لكن كيف لعقول النمل أن تدرك الجبال الشماء التي تعْبرها؟!

الهروب تكفيراً

وهو ما يقر في قاع العقل الشعبوي بصدد الفكر والاعتقاد. أي يمارس الشعبويون والناس العاديون الأفكار كأنَّها صدى بعيد لتهمة التكفير التي تلحق بكل من يتفلسف. وبالتالي لا يقبلون الفلسفة ولا التفكير العقلي ولا النقد. وقد يتعثرون في أية أفكار فلسفية ولا يرحبون بأية مناقشة من هذا القبيل. وهؤلاء ليسوا بسطاء فقط، بل قد يدخل في نطاقهم المثقفون وأساتذة الجامعات والمتعلمون وأصحاب الرأي حيث يعتبرون الفلسفة كفرا بواحاً متأثرين بالتراث الديني (الفقهي تحديداً). إن هذا الجانب واسع الانتشار نتيجة عدم إدراء ما هي الفلسفة ولا كيف تمارس دورها الفكري في جوانب المجتمعات وحياتها.

والرأي بتكفير الفلاسفة الذي أطلقه أبو حامد الغزالي والسلفيون قديما مازال سارياً لدى دارسي العلوم الطبيعية والإنسانية. وبلغ أوجه راهناً لدى الجماعات الدينية، بل اعتبرته الأخيرة جزءاً لا يتجزأ من جهازهم الأيديولوجي واتخاذ المواقف. ولعلنا رأينا جماعات اسلامية قد كفرت الأديب المصري نجيب محفوظ بعد نشر روايته (أولاد حارتنا) وحاولت اغتياله ولم تقرأ هذه الجماعات الرواية ولم تخضعها لمعايير فنية لا أيديولوجية، ومن قبل كُّفر طه حسين بعد كتابه (في الشعر الجاهلي) وأحمد لطفي السيد حين تم اعتباره من زمرة الديمقراطيين والليبراليين، والكلمتان كانتا تقابلان في عصرة تهمة الشذوذ والتهتك الاخلاقي نتيجة الكفر بمرجعية التراث والشريعة!!

الهروب خرافةً

وهو العودة إلى الخرافات المتضخمة في اللاوعي الجمعي مثل الاعتقاد بالسحر الأسود والشعوذة والدجل والقوى الشريرة. فبدلاً من التفكير الحر والمنتج، يتم إحياء هذا الجانب الشعبوي وغير الشعبوي. وهو ما يلتهم مساحة الحرية العقلية ويقتل ملكات الفكر الكوني بصدد إحياء إنسانية الإنسان لصالح قوى شريرة تسكن مجتمعاتنا وتهيمن على أوصالها في جنح الظلام.

وقد لا يكون هذا الجانب واضحاً في حياتنا، لكن ربما يتولَّد كإفراز صديدي لوجود أنظمة سياسية فاشستية، حيث ترسخ هذا الأسلوب بالاستبداد وطمس الأفكار الفلسفية الحرة ومحاربة المبدعين والمفكرين. مما يدفع مواطنيها لاعتناق الخرافات والشعوذات علماً بأنها (أي الأنظمة المستبدة) هي أول خرافة فعلية في حياتهم. لأن الاستبداد يهمه ملئ الفراغ الحيوي الذي يخلفه غياب الفلسفة نتيجة خطورتها الكلية، إذ لو امتلأ هذا الفراغ ابداعياً وفعلياً، فلن تكون انظمة الاستبداد إلاَّ أول ضحاياه وسيحرر وعي الإنسان.

 

سامي عبد العال

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم