صحيفة المثقف

مريم لطفي: زكاة الجسد.. فلسفة الصوم

"أياماً معدودات فمن كان منكم مريضاً أو على سفرٍ فعدة من أيامٍ أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوعَ خيراً فهو خيرٌ له وان تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون"

الصوم لغة هو الامتناع عن شئ معين، سواء كان فعلا، او قولا، وهو مأخوذ من الفعل صام اي امسك، ومن هنا ينادي المسحراتي ويقول"امساك".

اما الصوم اصطلاحا فهو الامتناع عن جميع المفطرات المعروفة من طلوع الفجر الى غروب الشمس مقترنا بالعبادات والمعنى اللغوي يعتمد على المعنى الاصطلاحي ويدعمه، فالصوم ليس صياما عن الاكل والشرب وسائر المفطرات بل عن الكلام ايضا كما جاء على لسان مريم(ع) "إني نذرت للرحمن صوما فلن أُكلم اليوم إنسيا".

والاحكام الشرعية التي نصت عليها الايات القرانية التي تخص الصوم جملة وتفصيلا والتي تشمل جميع المؤمنين القادرين عليه ولم يفرق الله في ذلك وقد جاءت الاحكام متسلسلة وتخص كل مناحي الحياة"والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات".

والايات القرانية واضحة وليس فيها لبس، وللصوم فصولا ومسائلا وشروطا ابتدءا من رؤية الهلال وحتى اكتمال عدة الشهر ثلاثون يوما، ومن شروطه البلوغ، العقل، القدرة عليه، الصحة، الاقامة، فيجوز للمسافر او المريض الافطار في رمضان وتعويض ذلك في وقت آخر"فمن كان مريضاً أو على سفرٍ فعدة من أيامٍ أُخر".

وطالما تردنا ونحن مسلمون اسئلة سواء من المسلم او غير المسلم بل اننا احيانا كثيرة نتسائل لماذا علينا ان نصوم شهرا كاملا بايامه الثلاثين وليس يوم او اثنين او ثلاثة او عشرة، وبرغم الاجوبة المعروفة بان الصيام يعّلم الانسان على الصبر والاحساس بجوع اخيه الفقير الذي لايمتلك قوت يومه، وان يهذبه ويحافظ على صحته، فقد ادرك الطب ان للصيام دورا عظيما تستطيع من خلاله ان تاخذ اجهزة الانسان وخلاياه استراحة لتستطيع المواصلة فهل فكرت مثلا بعمل جهاز ما متواصلا دون توقف!وهذا بالضبط مايحصل لاجهزة الجسم المختلفة التي يجب ان تحصل على اجازة تستعيد فيها نشاطها، والاهم ان الانسان ذاته عندما يُحرم من نعمة الاكل والشرب والامور الدنيوية الاخرى فهذا كفيل بان يجعله مقدرا لنعم الله اذا ماحرم منها، لكن هناك اجوبة تجاب باجوبة اخرى من نوع اخر اكثر ايغالا، بمعنى يقال مثلا انا انسان مؤمن، صبور، كريم، اكرم الفقير واشعر بشعوره فلماذا اصوم!!

هذه الاسئلة تحتاج الى اجوبة شافية، و لكي يتحقق شرط الاقناع، يجب ان تكون اجابتي مبنية على اسس قويمة، فانا كانسان مؤمن مكلف تكليفا ان اكون رسولا عن ديني الذي شرفني الله بحمل رسالته، وان اجعله مستساغا رائقا كماء زلال خال من التعقيد، في وقت يتعرض فيه الدين للهجوم وبشراسة وتنتقد احكامه، وكان واجبي وانا ابحث وابحث واستقصي واتحرى الحقائق والتي دعانا الله فيها في كتابه العزيز لنتدبر وقد اكون اول من تشرف بهذه المعرفة وهي منّة من الله جل وعلا وتشريفا خصني به بعد البحث والاستقصاء وهذا ماتوصلت اليه..

نأتي هنا لنفسر" أيام معدودات" وهذا يعني لغويا الاعداد من ثلاثة الى تسعة ايام كحد اقصى، ودعونا نتأمل طويلاونتدبر ذلك،

فلما كانت السنة اثنا عشر شهرا والشهر ثلاثون يوما فاذا قسمنا ثلاثون على اثنا عشر فيكون الناتج اثنان ويبقى ستة.

اذن يكون حصة كل شهر حوالي ثلاثة ايام اي يوم عن كل عشرة ايام لان الستة المتبقية هي زكاة الاشهر الباردة والمعتدلة التي يصادف فيها رمضان شتاءا وربيعا وخريفا وهي ستة اشهر حيث يكون النهار فيها قصيرا فهو تقريبا نصف يوم من ايام الصيف القائظ والذي يتميز بطول ساعات نهاره ومن حيث الشروق والغروب، فالستة هي نصف الاثنا عشر، وبهذا يكون الصوم يومان صحيحان وهوصيام ايام الصيف والنصف هوصيام ايام البرد ويعتبر يوما كاملا، وبما ان الصوم زكاة عن الجسد فهو يتوزع على اشهر السنة ثلاثة ايام لكل شهر اي يوم عن كل عشرة ايام فتحقق هنا شرط العدد"أياما معدودات" والايام كما ذكرنا هي ثلاثة وهو مانصت عليه الاية الكريمة، فهل انتبهت اخي القارئ وتاملت هذا الاعجاز البديع الذي يخصنا الله به ليزكي اجسادنا من الرجس على مدار السنة، انها القدرة الاعجازية التي تعجز عقولنا عن استيعابها وادراكها، والتي اختص بها الله جل وعلا ودعانا لتدبرها، فالصيام يمثل كري الجسم كما تكرى الانهار من الطمي والغرين لتستعيد عافيتها ونقاءها..

 وقد يقول قائل بانه انسان ملتزم ولايقترب من مال حرام فمالداعي لزكاة الصوم !

والاجابة تتجسد بالتساؤلات الاتية:

- الم يحدث ان اكلت وشبعت ونمت مرتاحا فيما جارك جائعا يتضور ولايستطع ان ينام!

"ليس المؤمن من بات شبعانا وجاره جائع"

- الم يحدث انك دخلت مطعما فاخرا واكلت كل مالذ وطاب وكان هناك من يرمقك عبر الزجاج وهويتمنى ان يكون مكانك!هل شعرت بنفسه! بحاجته! بجوعه! هل شعرت بوجوده اصلا!

- الم يحدث ان اشتريت شيئا مستخدما وربما كان هذاالشئ مسروقا!

- الم يحدث ان بعت سلعة اكثر من ثمنها بكثير!

- الم يحدث ان استوليت على مكانا ليس لك واستفدت منه!

- الم يحدث انك اكلت مالا حراما دون ان تشعر كان تكون غُصبت على ذلك لسبب اولاخر، او انه لم يكن لك خيار في ذلك، او امرتك نفسك طمعا!"ان النفس لامّارة بالسور إلا مارحم ربي".

- الم تتجرأعيناك ان تطمع بماليس لك غيرة وحقدا وحسدا، واقترفت يداك اي معصية، وساقتك قدماك لمكان سوء، وتفوه فاك بكلمات بذيئة جعلت الاخرين يتالمون منك او وشاية او غيبة او فتنة تسببت بخراب بيت او دمار اسرة!

- هل وضعت نفسك مكان عامل النظافة اوسائس الكراج اونادل المطعم او الكاشير وان تدفع مبالغ كبيرة لشراء شئ ما فيما هو ينظر ويتحسر!

- هل اكلت مال يتيم وبررت ذلك باي تبرير!

- هل استوليت على ارث اخوتك من دون ان يرف لك جفن!

هل كنت بارا حقا بوالديك ولم تكلفهم مالاطاقة لهم به!

- هل سألت نفسك يوما ماالغاية التي يريدها الله من صيامنا، وهل الله الغني بحاجة الى صيامنا!!

انت تصوم ثلاثة ايام عن كل شهر زكاة لجسدك وجوارحك وتطهيرا لروحك "انما الله يريد بكم اليسر " وقد حسبها الله حسابا دقيقا ووزعها بيسر وبالتساوي على اشهر السنة بحساب دقيق ليزكيك ويطهرك "ولسوف يعطيك ربك فترضى"فانظر لرحمة ربك التي فاقت العقول وانظر الى فلسفة الصوم التي ينظر اليها البعض على انها امتناع عن الطعام والشراب فقط، في حين انها فلسفة انسانية اخلاقية قبل ان تكون دينية، فهل هناك اعجاز اكثر من ذلك..

لكن وللاسف قد يستغل بعض الصائمين يومه بتحشيد الطاقات والموائد المبالغ فيها وقد يتضاعف وزنه اضعافا بدلا من زكاته فاي صيام هذا!

والحقيقة ان بعض الناس يتبعون حمية قاسية ليظهروا بمظهر حسن ويتهربون من الصيام الذي يجعل انفسهم وارواحهم بمظهر اكثر حسنا، اولئك الذين شغلتهم الحياة عن الواجبات الشرعية المفروضة على كل انسان والتي فيها تقويم وقوامة للانسان"اولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالاخرة".

وكما نعلم بإن الله في كل احكامه يأخذ جانب الاستثناء وليس التعميم والقسر فقد اعفى الصوم عن عباده الذين لايطيقونه لمرض او علة اولكبر السن فجعل الفدية زكاة عن كل يوم " وعلى الذي يطيقونه فدية طعام مسكين"، ومن الجدير بالذكر ان كلمة يطيقونه تعني لايطيقونه اي يطيقونه بمشقة وتعب، والكلمة تاتي من الاطاقة وليس من طاقة .

ورغم ان الصوم واجب على كل مؤمن ومؤمنة لكن الله جعله تطوعيا اختياريا، لان الله يحب ان يتوجه عباده اليه طواعية وليس قسرا وخوفا"فمن تطوع خيرا فهو خير له"فالله جل وعلا يريد بنا اليسر ولايريد بنا العسر، وليس من الخلق الانساني والديني اننا نرتكب اخطاءا وان كانت "لمم" دون الاعتذارعنها فالصيام واجب وعليك ان تقدمه بكل ادب، فاغلب الناس صيّام وهم يزاولون أعمالهم بكل صبر ثم تأتي انت وتتعصب على اهل بيتك او زملاء العمل او الجار او العامل الذي يقدم لك خدمة، بذريعة انك صائم !فهذا لايمت للانسانية الدينية بشئ، لانك صائم تقربا لله فلا تحمل غيرك اعباءا لتثبت لنفسك شئ ما! وعليك ان تنتبه لافعالك واقوالك وان تكون قدوة حسنة لاسرتك واصدقائك.

ورمضان هو الشهر التاسع في التقويم الهجري وللرقم تسعة اعجازا ومكانة كبيرة في القران الكريم،  ورمضان من الرمض وهوشدة الحر لانه غالبا ماكان ياتي في وقت الحر في جزيرة العرب، والاسم متطابق مع مايشعر به الصائم من حرارة في جوفه من شدة الجوع والعطش فيكون جوفه رمضا وهو اذن اشتداد الظمأ، وهنا يتطابق فيه الاسم والمعنى، وهو ماخوذ من رمض اي احترق فرمضان يحرق الذنوب لما فيه من الاعمال الصالحة، وهو الشهر الذي نزل فيه القران في ليلة القدر وهي خير من الف شهر"انا انزلناه في ليلة القدر وماادراك ماليلة القدر خير من الف شهر، تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم" فهي الليلة التي ينزل فيها الملائكة وجبرائيل (ع) ليبارك الاعمال الصالحة، فاي رحمة هذه، وله قدسية كبيرة عند المسلمين لما فيه من العبادات والاستغفار والاذكار والبركة التي اغدقها الله عليه لسموها وقدسيتها فقد خصها بالسلام"سلام هي حتى مطلع الفجر"، ولما فيها من غفران الذنوب حيث يردع المؤمن نفسه عن شهواتها واهواءها ولهذا كان الصيام مقترنا بالصبر وجزاء الصبر الجنة "وبشر الصابرين"وكسب الثواب والرضا والتقرب الى الله جل وعلا"شهر رمضان الذي أُنزل فيه القران هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان " اي هاديا من الضلال ودلالات واضحة لاحترام حدود الله والاحكام والفارق بين الحق والباطل والخير والشر والظلمات والنور"انا انزلناه في ليلة مباركة".

وبالمقابل اذا تاملنا قليلا وكثيرا سنجد ان رمضان هو نقيض ريان فالريان اسم يطلق على احد ابواب الجنان وهو مخصص لصائمي رمضان –سبحان الله-  وهو اسم علم مذكر من اصل عربي ومعناه المرتوي بعد عطش الذي شرب حتى ارتوى وهو المكافأة للصائم عن رمضه وكل صائم هو رمضان وهو اسم على مسمى حيث انه يطلق على الباب الذي يدخل منه الصائمون ومما يدل على عظم فضل الصوم ان ابواب الجنة كلها تفتح في رمضان بالاضافة الى ان الله خصص بابا اسماها" الريّان" لعباده الصائمين، قال رسولنا الكريم محمد(ص) "إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه احد غيرهم فاذا دخلوا أُغلق فلم يدخل منه أحد"، وهذه الغبطة والمنة التي يمن بها الله تعالى على عباده المؤمنون الصائمون تطوعا حيث يكافا بها الصائم باعلى درجات المغفرة والرحمة "وسيق الذين اتقوا ربهم الى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت ابوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين" فمرحى لكل من شهد الشهر وصامه تطوعا وبركة وتقربا لله جل وعلا، جعلنا الله ممن استوعب نعمه وادركها ففاز بالرضا وحسن المقام"وجوه يومئذ ناضرة الى ربها ناضرة".

 

رمضان كريم/ مريم لطفي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم