صحيفة المثقف

الحسين بوخرطة: انكسار وخنق أوطان وتعسر انبعاث..

الحسين بوخرطةقراءة تأويلية للقصة القصيرة "الخوف" للدكتور علي القاسمي

لم يكن الحلم الذي استولى على عقول الجماهير والنخب داخل القطر الواحد في العالمين العربي والمغاربي، من المحيط إلى الخليج، سنوات المقاومة من أجل الاستقلال وبناء الأوطان في سياق سياسي دولي بقطبين قويين، إلا تشييد أسس وجسور أنظمة سياسية بمقومات نظرية فكرية وثقافية تعيد لحضارة المنطقة أمجادها، ويتم الارتكاز عليها لبناء وحدة ونهضة إقليمية بأبعاد جيواستراتيجية حكيمة. لم يدر في خلد الفاعلين، في زمن المقاومة والنضال، سوى فكرة واحدة، وهي تحويل الأوطان إلى فضاءات معرفية، تستوعب كل أبناءها، وتتقارع فيها بسلمية الأفكار والإيديولوجيات، وتتنافس بإيجابية قصوى على ابتكار المعارف والسبل القابلة للتفعيل، راسمة محطات بأهداف واضحة، تتراكم من خلالها مقومات حماية كرامة وحرية الشعوب وتحقيق رفاهيتها وسعادتها.

امتزج الفكر والسياسة، ووثق التاريخ مرورا عسيرا من مرحلة لأخرى. فضاء الوطن القطري الواحد لم يحتضن أغلبية أبنائه. تشبث الوطنيون بالفكرة، واستسلم الانتهازيون للمواقع والكراسي والغنائم، تم اصطناع، بكل الوسائل المتاحة، دوائر النفوذ المحيطة بالسلطة المركزية بطبعة عسكراتية. وعم التهافت ترابيا، في إطار منطق متصارع وعنيف، لتقوية الامتدادات المناصرة، ليضيع الوطن، ويحرم من مادته الرمادية وروحه الجماعية. تكلست العقول، وضعفت عضلات الأوطان وتماسكها، لينتشر ضوضاء وضجيج اصطدام الحديد بالحديد تارة، وبعضلات أو أطراف المعارضين تارة أخرى، لتنقبض النفوس، وتحاصر الإرادات، وتلتهب النيران حارقة الأماني والآمال. همشت "الفكرة الصافية" وأصحابها، واعتبرت تعنتا. تم ترديد الهمسات على الآذان تحت طائلة الوعيد والتهديد، بنفحات الابتزاز والتخويف، رافعة عتبة التفاوض، ومعلنة في نفس الوقت رسمية انفراج الأوضاع في عدد من الأقطار، وبرزت خصوصيات وسطية في أخرى. تجاوز الصراع بعد سقوط جدار برلين وحشية جز الألسن والإبادات والاختطافات والتغريب بدون محاكمات، ليمر إلى مرحلة وسطية أخرى تتخللها أوامر بالاعتقال المشروع ظاهريا ومؤسساتيا. لاح صوت من الأعلى مكررا ومبررا الحاجة إلى مزيد من الوقت لإعداد المقال للمقام، رافعا هنا وهناك، ومن مرحلة سياسية إلى أخرى، شعار "لكل زمن رجاله".

في سياق هذا التقديم، كل من يسترسل في قراءة القصة القصيرة "الخوف" من تأليف الدكتور علي القاسمي، لا يمكن أن يتممها وهو في حالة عادية. ستنتابه بلا شك الرعشة والخوف تارة، ويستسلم كيانه للارتجاف رعبا وهلعا وللحمى جراء فضاعة تسلط رواد الطمع وحب السلطة والمال. لقد أرخ من خلال فقراتها لمرحلة أساسية ومحورية في تاريخ المنطقة، مرحلة أجهض فيها الحلم العربي، وتحول إلى كوابيس قاتلة. تم الاستيلاء ووضع اليد بالحديد والنار على الأوطان واستباحتها في تواريخ متباينة لكن يجمعها منطق واحد، لتتناسل الاعتقالات والاغتيالات والاختطافات وجز الألسن والأيادي.. ضاق واختنق الأفق، واضطرت العقول النيرة بفعل تعسف الأوضاع السائدة للبحث عن منافذ لدخول عالم الاغتراب واللجوء السياسي ومعانات التهجير القسري ... إن البحث على توطيد نفوذ السيطرة لم يترك أي فرصة للتفكير في تقوية الأوطان بزرع بذور المعرفة والديمقراطية، لتصبح الأجهزة الحاكمة، حكومات عسكرية أو شبه عسكرية، متعصبة للذات ودوام سيطرتها.

إن عمليات الانقضاض على الحكم على إثر انقلابات فجائية، عسكرية أو شبه عسكرية، أو ثورات بدون زعامات شعبية حقيقية، سرعان ما انفكت شعاراتها وتحللت، ليتم اللجوء المفضوح إلى اللعب على الخوف وتغذيته باستمرار لخلق الهشاشة والقلق والتذمر في الروح الجماعية والفردية داخل البلد الواحد.

بهذه الانطلاقات غير المشرعنة نضاليا وشعبيا، التي عرفها عدد من الأقطار الإقليمية في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات تكدرت الأوضاع، وتفسخت العلاقات الاجتماعية، وارتمى المواطن رغما عنه، بنفسية مخنوقة، في غياهم الهم والتيه والدوخة والدوران.

وللوقوف عن تجليات هذا الوضع الفوضوي المخيف والمرتبك (ضعف السلطة التدبيرية بسبب انشغالها بترويع وتطويع نفوس مواطنيها)، اختار له الدكتور القاسمي عبارات مذهلة ومعبرة صورت للقارئ بإبداع تركيبة نفسية رجل القصة (الراوي) بالدقة المتناهية:

- خلَّف صخبَ المدينة وأدرانَها وراءه وأتى ينشدُ رحابةَ البحر وصفاءَه (الهروب).

- أحس بصعوبةٍ في التنفُّس وبشيءٍ ما في صدره، يسبّب له أَلَماً مُمضّاً ينضاف إلى صداعه.

- تلفّت حوله، فلم يَرَ في الشارع إلا سيّارات تتلاحق مسرعةً، وهي تُطلِق أبواقها المدوِّية، وتنفث دخاناً أسود من مخلَّفات وقودها.

- ألفى نفسه، بعد برهة، خارجاً من المدينة، مارّاً بشوارعها الخلفيّة العارية من الأشجار، وأحيائها التعيسة ذات المواخير القذرة السريّة، والروائح الكريهة المنبعثة من أكوام القمامة وفضلات الكلاب الضالة والأليفة، وهو يسرع الخطى مهرولاً صوب البحر.

وصل الراوي إلى البحر، إلى الملاذ الذي يتيح تثبيت النظر في أفق الأمل لترتاح فيها العيون. عظمة البحر التي تقاوم جبروت الإنسان وتسلطه. ينحني احتراما وإجلالا للبواخر متقنة الصنع ولقادتها المهرة، ويجلب المتعة والسعادة لركابها. إنه هروب الراوي من كرب المعيش باحثا عن الطمأنينة المنبعثة من شساعة البحار والمحيطات. إنه الهروب الذي خص له القاسمي عبارات الفقرة الموالية التالية، ليلامس القارئ المعنى والمغزى منها: جلس على ربوةٍ عاليةٍ تتوسّط حقلاً من الحقول المُطلّة على البحر - راح ينقّل بصره من خضرة الوهاد المحيطة به، إلى زرقة ماء البحر المترامي حتّى الأفق - راح فكره يتأمّل أحوال المدينة، وتتردّد فيه حكايات والده وذكرياته عنها، عندما كانت، إبّان طفولته، امتداداً لتلك الحقول المُزهرة والبساتين النضرة، لا يُسمَع فيها إلا تغريد الطيور ومزامير الرعاة - لم يكُن ثمّة ما يعكّر صفو ذلك المساء، فالنسيم رائق، والبحر ساجٍ، وأمواجه تنساب برقَّةٍ.

إنه زمن القطبين، زمن الانقلابات والانقضاض على السلطة، وما يترتب عنها من أوضاع صعبة، تقلصت الفضاءات الآمنة أو انعدمت بشكل كلي، بحيث يتحرك جبابرة الخوف والتخويف في كل مكان. إن فترة ارتياح السارد من فظاعة أوضاع المدينة لم تدم طويلا. فالفضاء المتسع الخالي، الذي حال بينه وبين الألم والخوف، سرعان ما فاجأه بحدوث فاجعة مرهبة وشنيعة. سكون المساء لم يدم طويلا. فما إن انتابه إحساس غريب جعلنه يَفزُّ ويدير رأسه بتوجُّسٍ إلى الخلف، مثلما يفزع جوادُ ويصهل وهو على بُعد عشرات الأميال من هَزَّةٍ أرضيةٍ داهمة، حتى داهم المكان جبابرة جز الألسن ورواد القهر ونهب الخيرات (النص:" بيد أنّي أبصرتُ أربعةَ رجالٍ قادمين من المدينةِ يحثُّون السير في اتّجاه البحر... تبيَّنتُ (للراوي) أنَّ الرجل الذي يسير في المقدِّمة، يرتدي ملابس مدنيّة ويداه مقيَّدتان إلى الخلف، والثلاثة الآخرون يحيطون به وهم يلبسون زيّاً موحَّداً خاكي اللون...).

إنه رجل بصفات وملامح المناضلين أو تراب وطن يعشق شعبه (النص: جبهةٌ ناصعةٌ، وعينان تشعّان نوراً، وملامح لم ينَلْ من طلاوتها العَنَتُ، ولم يحجب روعتَها المصابُ. وجهٌ مشرقٌ محبوب) بين يدي الانقلابيين العسكر وبوليسيهم السياسي، المتجبرون الذين لا يرحمون، ويلاحقون المعارضين أو رواد الفكر الأحرار أنّى ذهبوا وحيثما حلّوا، ليجب بهم في دهاليز التعذيب، ويخضعون خيرات الوطن لنزواتهم ومصالح ذويهم وأتباعهم، لتنتفي معاني الوطن (النص: كانت وجوه هؤلاء حادّة التقاطيع، مُتسمّرة مُتصلِّبة إلى الأمام في اتِّجاه البحر. الحقد ينقدح من عيونهم الخُزْر). أما صفة زعامة وشهامة وتاريخ نضالية المعتقل المنغرسة في وجدان السارد)، فعبر عنها بمعرفته اليقينية له، وكونه من أبناء القرية، وكان مجسدا لشساعة تراب الوطن من الغرب إلى الشرق، ومن الشمال إلى الجنوب (النص: هذا وجهٌ أعرفه، هذا وجهٌ ألفتُه منذ طفولتي ... وجهه قريبٌ من قلبي، حبيبٌ إلى روحي، له طعم التمر، وعذوبة الماء الفرات، وطالما حدّثت أطفالي عنه، فأحبّوه كما أحببته. ولكنّي لا أذكر اسمه. أسعفيني يا ذاكرتي المرهقة! انجديني باسم الرجل الأسير!).

فعلا، لقد نجحوا في تقييد وتكبيل سواعد الوطن بشدة لا تترك له أي فرصة للتنصل أو التخلص من أيديهم والهروب إلى مصير آخر (النص: الرجل ذاته في محنةٍ اليوم. وظلّ سؤالٌ محيِّر يجلدني: لماذا يقيّدون يدَي هذا الرجل؟ وإلى أين يقتادونه، يا تُرى؟).

أما عن الأساليب القمعية المعتمدة لإسكات الأفواه وتكميمها، فعبر عنها الكاتب بالفقرة التالية: "وضعَ أحدهم يديه بعُنفٍ على فكَي الرجل، مُرغِما إياه على فتح فمه. وسحب الثاني شيئاً لم أتبينه من الفم الفاغر، واستلَّ الثالث خنجراً، فقطع ذلك الشيء ورمى به في الماء. ورأيتُ بعينيّ خيطاً أحمرَ يمتدُّ من بقعة الماء تلك حتّى الأفق، ليلتحم بأشلاء الشمس المبعثرة هناك، ويرتفع إلى عنان السماء كنافورةِ دم...).

أمّا الوطن الأغر، بصفاته التي تشمل كل الأوطان، فشيمته المقاومة وعدم الاستسلام وكتابة صفحات التاريخ تارة بالأمجاد وتارة أخرى بالدماء (النص: فقد كان يقاوم بصلابةٍ، رافعاً رأسه بين الفينة والفينة إلى السماء وإلى الخلف). الوطن، بتاريخه وكبريائه، عندما يشتد عليه الضيق والاختناق، ينتفض ويصرح، وإذا عم الصمت حوله، يتربص بالزمن باحثا بإصرار عن فرص الحرية (النص: في أثناء ذلك وقع نظره عليّ من بعيد، أو هكذا خُيّل إليّ.  خُيّل إليّ أنَّ عينَيْه تستنجدان بي، تحثّانني على أنْ أتحرَّك، أنْ أصرخ في وجوههم، أنْ أفعل شيئاً، أنْ أنادي على الفلاحين في الحقول القريبة، أن أستغيث بالعمال في مصانع المدينة...).

لم يتدخل الراوي لأن حدة التدافع والتضامن أضعفها الخوف. إنها حالة انتظارية بائسة مكفرة، تتلاطم في جوفها في نفس الآن مشاعر الحصرة والعجز والوهن والعنفوان التاريخي. إنها كذلك مشمئزة بسبب المحاولات القهرية لإفراغ العواطف من حمولة الاعتزاز بالانتماء، لكنها تتطلع لاستيقاظ الضمير الجماعي واستنهاض الهمم (النص: بَيدَ أنّي بقيتُ جامداً في مكاني. فقد أخذ الخوف يتسرَّب إلى مسام جلدي ويتخلَّلها... لقد شلَّني الرعب المنبعث من نصالِ خناجرهم المسلولة، وأقعدني الخوف كسيحاً بلا حراك.. بشيءٍ من المرارة والخجل، اعترفتُ في دخيلتي أنَّني لست قتاليّاً بطبعي.. ولكن ماذا سأروي لأبنائي بعد اليوم؟ ... حتّى إنْ أخفيتُ الحادث عنهم وغلَّفته بالصمت والكتمان، فهل يعني ذلك أنَّ ما وقع لم يقع؟.. سيلاحقني مشهدُ ذلك الرجل الأسير كظلّي، حيثما حللتُ وأنّى توجَّهتُ.. وقلتُ في نفسي يجب أن أتحرَّك الآن، قبل أن يبتروا أطرافه، ويقطّعوا أوصاله، ويقضوا عليه". ولكن بدلاً من أن أتقدَّم إلى الأمام، وجدتُني مرتجفاً أجرُّ رجليَّ الكسيحتيْن إلى الوراء مبتعداً...)

لقد سقط جدار برلين، وتم الإعلان على النظام العالمي الجديد، ولم تجد أنظمة عدة بلدان عربية لحمة شعب موحدة ومتراصة تدافع عنها وعن وطنها، بل تم استحلال تدخل الأجنبي عسكريا لإسقاطها. لقد تبين تاريخيا أن تدبير الحكم الميكيافيلي بإشاعة الخوف من البطش، والقمع من أجل الاستمرار والسيطرة، لا يضمن وطنا حرا لمدة طويلة.

برزت خصوصية وطن أو أوطان وأخرى في مخاض عسير، وارتقت نضالات سلمية كما وكيفا، ونوقش التعذيب السياسي. وغلب الإطناب والتكرار على النقاش في شأن ديمقراطية الصناديق، لترتفع المطالب بإقرار وقفة تأمل لبناء أوطان ديمقراطية وإقليم ينجب كل برهة أطنان الثمار. تشكلت نخب رجالات الدولة في الاقتصاد والسياسة والإدارة، وعفا الله عما سلف، وبرز صيت نخب الفكر المستقلة، وتكثف التواصل والنقاش من أجل تشكيل عقل جماعي يرسم معالم وطن بسمات العرب والمغاربيين التاريخية. غاب الحديث عن الاختطاف والتعذيب وجز الألسنة وتكميم الأفواه، لتصدر أحكام بالاعتقال هنا وهناك. لم يتم الاستسلام للصمت، بل ارتفعت الأصوات الحقوقية، وتعددت الإضرابات عن الطعام، وتمت تعداد عمليات العفو وإخلاء السبيل أو المتابعات في سراح.

إنه وضع جديد بإعلامه القوي، وضع تزايدت فيه حدة الخوف، لكن هذه المرة من السجارة، والمشروبات الكحولية، والسرعة في السياقة، واستهلالك الدجاج والديك الروميين،.. تم استحسان الخوف كمرادف لركوب قاطرة المغامرة والمخاطر والمجازفات في الاقتصاد والسياسة والثقافة. ألغيت الحدود بين الخوف واليقظة والحذر. تفرع كل وطن إلى وطنيين، الأول مكروب ومغموم بإكراهات ورهانات التكيف مع العولمة وخائف من الانحدار والتقهقر، والثاني منشغل ومهموم بحقبة ما بعد الحداثة والهلع من تحويل العولمة إلى أدغال موحشة لا ضوابط إنسانية لها. تم الخضوع لعبقرية أنماط الإنتاج بلا سواعد عضلية، وتم تمجيد الاستهلاك، لتتخذ نسبة البطالة منحا تصاعديا. تم تفييئ الشعوب إلى ملاكين وغير ملاكين واندثرت البروليتاريا، وكثرت الاحتجاجات بمطالب اجتماعية.

أما تكيف الأنظمة والشعوب العربية والمغاربية سيبقى ناقصا للغاية ما لم تبرز العزائم لتشييد وحدة اقتصادية جهوية بسيادات قطرية متضامنة من الخليج إلى المحيط. أما عن أوضاع الأقطار المستقبلية، فلن تعبر المؤشرات عن زخم مشجع من الأمل إلا بتتويج مساراتها الجديدة على المدى القريب باستحقاقات دستورية وسياسية وانتخابية شفافة وذات مصداقية.

 

الحسين بوخرطة

.............................

للاطلاع على قصة الخوف للدكتور علي القاسمي

https://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=938920&catid=324&Itemid=1235

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم