صحيفة المثقف

مجدي إبراهيم: الإمام الجُنيد.. سيد أولياء الإسلام (6)

مجدي ابراهيمنعودُ فنقول؛ إنه قد تبين لنا - ونحن في صحبة الإمام الجنيد من خلال هذه الترجمة المختصرة - عن حياته، ومنهجه، ومكانته في التصوف، ومذهبه من واقع  أقواله وإشاراته، أنه كان في التصوف خاصَّة رائداً ومعلماً كَاَدَ ينقطع معه النظير؛ كان - طيَّب الله ثراه - نموذجاً معتدلاً مُدْهشاً أخَّاذاً بما تركه من أقوال وإشارات؛ بل وكتب ورسائل؛ فله غير كتاب "السّر في أنفاس الصوفية" - الذي وفقنا الله إلى تحقيقه؛ وقد كان أملاً يراودنا منذ سنين طويلة - الكثير من المؤلفات البديعة التي لم يكن يهتم بها هو شخصياً، ولكن تلاميذه ومريديه هم الذين نقلوا عنه كتاباته، ولم يكن يفضل هو أن تكون له مؤلفات. له من بين هذه المؤلفات كتاب الفناء، وكتاب الميثاق، ومسائل في التوحيد، وكتاب في الألوهية، وكتاب في الفرق بين الصدق والإخلاص، وكتاب عن أدب المفتقر إلى الله، ومسائل في السُّكْر والإفاقة، ورسائله إلى بعض إخوانه، ورسائل إلى أبي يعقوب يوسف الحسين الرازي؛ ورسائل إلى عمرو بن عثمان المكي، ورسائل إلى يحيى بن معاذ الرازي، وكتاب دواء التفريط، وكتاب دواء الأرواح؛ وشرَحَ مؤلفون بعض أقواله وأبيات له من الشعر لازلت حتى الآن مخطوطة.

كان الجنيد سَبَّاقاً في ميدان الجمع بين الشريعة والحقيقة، حَفَّاظاً للأصول الشرعية حتى وهو يخوض لجج الفناء: من منهجه الذي لا يعرف الإفراط ولا المغالاة رفض الشطح وَصَحَّحَ أخطاء الفناء، وكان مؤثراً للصحو والحضور على السكر والغيبة في حال الفناء على حد ما وصفه "آربري" و"هورت"؛ (Arberry: (A . J)، CL، Huart: Art “ Al - Junaid”  Encyclopedia of Islam. P. P.1065 - 1063 .) ولآربري راجع: Arberry (A، J): An introduction to the history of Sufism، oxford،1942

 p. p . 12 - 15 .))

لم يكن إلا صاحب مقام راسخ في التصوف على وجه العموم .. ولعل هذا المقام نفسه هو الذي أهَّله لأن يَتَصَدَّر الطائفة البغدادية، ويلقب بــ "طاووس العلماء"؛ ويعالج أطوار النقص والانزعاج التي تطرأ على الأصاغر والمريدين من أصحاب البدايات ويربأ عنها الكبراء والواصلون من كمل العارفين، ذوي النهايات. فلئن كان منهجه قد تميز بالحضور لا بالغيبة، وبالصحو والاعتدال لا بالسكر والجنوح، الأمر الذي أثار إعجاب الباحثين الغربيين؛ فلا أقلَّ من أن يكون له أثره الفعال والمباشر على الثقافة الإسلامية على وجه العموم، وعلى التصوف الإسلامي؛ والمعتدل على التخصيص، يقتفي أثر الشرع، ويحفظ فضيلة الاعتدال، ويغرس القيم النبيلة في نفوس المتدينين. ومن هذا الأثر انبثقت المدرسة الشاذلية كما تقدَّم فسبقت إليه الإشارة؛ فكانت هذه المدرسة بما فيها من تعاليم صوفية صرفة تغرس روح التصوف في تكريس الإيمان. ولم يزل هذا الأثر منهجاً في التصوف على الحقيقة عاملاً وباقياً من جيل إلى جيل، وسيظل في مستقبل الأيام باقياً فاعلاً إلى أن تقوم الساعة.

ولك أن تلحظ الخط الفكري للتصوف الإسلامي الذي استقاه أقطابه من رسول الله مباشرة في الصَّدْر الأول ثم الصحابة والتابعين؛ فكان منهجاً للحياة الروحية في الإسلام يتطور مع أصحاب المنازل والدرجات من الحكماء والفضلاء المتأخرين في القرنين الثالث والرابع الهجريين أمثال: بشر الحافي (ت 227هـ)، والحارث المحاسبي (ت 243 هـ)، وذو النون  المصري (ت 245 هـ)، وسري السقطي (ت 251 هـ)، وأبي القاسم الجنيد (ت 297 هـ)، ورُوَيْم (ت 303 هـ)، وأبو حمزة الصوفي البغدادي (ت 253 هـ)، وأبو سعيد الخراز (ت 279 هــ)، وأبو الحسين النوري (ت 295هـ)، وأبو يزيد البسطامي (ت 261 هـ)، وأبو بكر الشبلي (ت 334هـ) وأبو محمد الجريري (ت 311  هـ)، وحاتم الأصم (ت 237هـ)، وأبو تراب النخشبي (ت 245 هـ)؛ وأكثرهم من أقران الجنيد وأساتذته أو ممن صحبه أو صحبهم، كانوا حكماء أوصافهم بالفضل معروفة وقد مضت أحكامهم وعلومهم تجري في إطلاق الحكمة، ورمي الإشارة، وإظهار النكتة، وتركوا منهم مَنْ لم يكن منهم في خوضهم يلعبون.

نمضي لنرى أبو طالب المكي صاحب "قوت القلوب"، والغزالي الذي جاء في القرن الخامس صاحب "الإحياء"، على نفس المنهج الذوقي الكشفي الوجداني يتوالى ويتعاقب عبر القرون؛ ذلك المنهج الذي تحدَّث عنه المحاسبي في صورة عامة، وطوره الجنيد من بعده، ورسَّخه الغزالي، وتلقفه من بعده أبو الحسن الشاذلي، وأبو العباس المرسي، وابن عطاء الله السكندري؛ ووظفَّه ابن عربي توظيفاً فلسفياً ممزوجاً بالتجربة، ونحي به منحى مفتوحاً على الثقافات الأجنبية، فمزجه بالتيارات الفلسفية، والمصادر الإسلامية المنوعة مزيجاً قلَّ أن يشاركه فيه غيره، واستوفاه الجيلي والقاشاني وعبد الغني النابلسي والشيخ حسن رضوان من مدرسة الوحدة الوجودية، وبلغ مداه في الفلسفة الإشراقية عند السَّهْرَوَردي المقتول، وكان أقصى ما يكون ثورة عند عبد الحق ابن سبعين والعفيف التلمساني من رواد الوحدة المطلقة؛ فافترق بذلك التصوف بين سُنِّي محافظ وبين فلسفي مخلوط بمذاهب التفكير الفلسفي بوجه عام، ولكنه في النهاية يتأسس على دعائم ذوقية فلا يخرج عن "القاعدة" التي رسَّخها الأوُّل من رجال الحياة الروحية.

وما من شك في اختلاف هذا المنهج عن منهج النظار والمتكلمين، وتميزه في ذاته بمزايا السلوك العملي والإدراك الذوقي ومعانقة الحقائق الكبرى بالهمة العليا والتبرؤ من علائق الدنيا والإقبال على الله تعالى؛ فمن كان لله كان الله معه كما كان الغزالي يقول.

فمع ملاحظة هذا الخط الفكري لمسيرة التصوف في الإسلام، وملاحظة ما يتوَّج به من روح منهجية قائمة على الفاعلية الذوقية، نجد للجنيد على الحياة الروحية في الإسلام فضلاً كبيراً، لا يزال يسري هذا الفضل في المتأخرين بعده جيلاً وراء جيلاً حتى وصلت تعاليمه إلى المدرسة الشاذلية كما قلنا، وليس بغريب عندنا أن نشهد ابن عطاء الله السَّكندري ينقل في "مفتاح الفلاح" أصول طريقته في الذكر والعبادة والابتهال.

ونحبُ قبل أن نختم هذه الترجمة بطريقة الجنيد في الذكر والفكر والعبادة كما نقلها عنه ابن عطاء الله السَّكَنْدري، أن نشير إلى جزئية نراها غاية في الأهمية؛ فنقول: لئن كان تأثير الجنيد على التصوف غير منكور ولا هو مما يخفى على النظرة العابرة، فمع ذلك يجب أن يؤخذ مُمَحَّصاً في الاعتبار أن التأثير المباشر في الحياة الروحية يكاد يكون شبه معدوم؛ فليس هو كالتأثير المباشر في مجال النظر العقلي أو التفكير الفلسفي؛ وذلك لأن الأولى حياة؛ يعني عمل وممارسة ومعاناة، وتجربة ومقاساة أحوال، وأذواق ومواجيد، ومنازلات روحية يعيشها العارفون والأولياء؛ فأقوالهم وإشاراتهم من ذواتهم خاصّة؛ من تجاربهم، ومن أحوالهم، والطريق كما قلنا لسان صدق لا تقليد فيه، إبداعٌ على إطلاقه.

أما الثانية؛ فقد يجوز فيها ما ليس بجائز في الأولى، يجوز فيها التأثير المباشر، أي تأثير السابق في اللاحق مباشرة أو بالنظر العقلي المجرد التقليدي، فيسهل مع المراقبة وكثرة البحث كشف هذا التأثير من أول وهلة، وليس يسهل ذلك في الأولى؛ لأن الطريق إلى الله كما قالوا بعدد أنفاس الخلائق، الطريق نَفَس العارف. والعارف مُبْدعٌ على الحقيقة يتلقى معارفه من الله مباشرة، ولا يأخذ علمه عن ميت بل عن الحي الذي لا يموت، فكما أن لكل نَفَسُه فلكل ذوقه؛ وكما أن لكل ذوقه فلكل حاله؛ وكما أن لكل حاله فلكل مقاله؛ فتلك خصوصية خاصة بأرباب الأذواق والأحوال خاصّة بالتصوف؛ فكلُّ له طريقته التي يعبر بها عن أذواقه ومواجيده. فالتأثير المباشر فيه يكاد يكون على مستوى التجربة المعتمدة على المضمون الديني يتنسب إليه الولي العارف؛ مفقوداً أو يكاد.

ومن هاهنا كان الخطأ الذي وقع فيه أكثر المستشرقين ومن تابعهم من الباحثين العرب؛ فاعتبروا ما يُقال عن الفلسفة هو عينه ما يُقال عن التصوف، فحكموا على ميدان التصوف بنفس الحكم الذي حكموا به على ميدان الفلسفة، ولم يفرِّقوا بين الفكرة من جهة والحالة من جهة ثانية، وتعاملوا مع "الحالة" الشعورية كما لو كانت "فكرة" نظرية، وتعمدوا أن ينشئوا للتصوف في الإسلام مصادره المنَّوعة؛ ليخرجوه عنتاً من مصدره الديني ونصوصه التأسيسية؛ فليس من فرق لديهم بين التأثير في مجال الفلسفة والتأثير في ميدان التصوف. الكل يأخذ عن الكل، والكل يستقي من الكل؛ ولا فَرْق ..! وما يُقال عن التأثير يقال كذلك وبنفس الكيفية عن النقد. مع العلم أن التصوف كتجربة تتحد فيها الإرادة الإنسانية بالإرادة الإلهية ليس كالفلسفة النظرية التي تحتكم إلى تأملات العقل البشري وكفى ولا تستند إلى شعور التبتل العميق بالوعي الديني في مظانه الرئيسية.

من جانب آخر لعَلَّه يكشف عن تجربة الفقدان في حياتنا الفكرية المعاصرة نلحظ أن الشئون الروحية هى عمل القدرة الإلهية؛ وأن التأملات العقلية هى عمل القدرة الإنسانية المحدودة. والإنسان لا يسعد نفسه بنفسه سعادة الأبد الدائمة إلا إذا أتكئ على قدرة الله الذي خلقه؛ ولا يزال مفتقراً إلى هذه القدرة ما دامت فيه أنفَاس الوجود. وقديماً قال الفيلسوف الفرنسي "ديكارت" أبو الفلسفة الحديثة:" إن أولئك الذين منحهم الله عقولاً، لا مناص لهم من أن يستعملوها في السعي الدائب إلى معرفة الله تعالى؛ وإلى معرفة أنفسهم ..". ولك إنْ شئت أن تتأمل مثل هذه الكلمات الديكارتية البسيطة العميقة في آن؛ لترى الدلالة فيها توحي بأمرين: الأمر الأول؛ أنّ سلاحين أساسيين نفتقدهما في مواجهة الواقع الكدر المظلم الذي تعيشه أمتنا العربية؛ فلا بدَّ من استرجاع ما فقد واستعادة ما سُلب: أحدهما سلاح " النور العقلي". والآخر سلاح "النور القلبي". الأول: يمنحنا قدرة الانفتاح على "المبدأ"؛ والمبدأ هنا هو العقل. والثاني: يهبنا الهداية الإيمانية؛ وكلاهما يُعَبِّران بالضرورة عن وعي الإنسان الهادف بحقيقته الأصلية.

والأمر الثاني: إن نوراً فطرياً مغروزاً للعقل في أعماقه، يصل الإنسان بمقتضاه إلى معرفة الحقيقة التي هو عليها في نفسه تماماً كما يصل بمقتضى هذا النور الباطني إلى معرفة الله تعالى. والمعرفتان على السواء: معرفة النفس، ومعرفة الله؛ هما "اليقين" الذي لو أنطفأ معه نور العقل ما يصح له من بعد ذاك وجود؛ ولصارت معارف الإنسان كلها أهواءً شائبة ومظالم بينة وأوهاماً متبعة لا نورانية فيها ولا ضياء يهدي إلى سواء السبيل. 

ولئن كُنَّا نريد أن نختم هذا الحديث المختصر عن الجنيد بأصول طريقته؛ فلأنها هى الوسيلة الشرعية العملية التي أقترب بها إلى الله تعالى، ولندعو الله أن يقربنا بها إليه؛ إذ تكشف هذه الأصول عن دلالة واضحة في التصوف؛ وهى مع أنه بسيط بساطة الدين في أصوله ومصادره لكنه في الوقت نفسه عميق عمق الدين في الوصول بالإنسان إلى حقيقته الأصلية واكتشاف هذه الحقيقة في أغواره الدفينة من وراء الأسطح البرانية. 

لنختم حديثنا إذن بأصول طريقة الجنيد بلا شرح أو تعليق أو تخريج أو تدخل من جانبنا فيها؛ وهى ثمانية شروط كما نقلها عنه ابن عطاء الله في مفتاح الفلاح:

الأول: دوام الوضوء. الثاني: دوام الصوم. الثالث: دوام السكوت. الرابع: دوام الخلوة. الخامس: دوام الذكر، وهو "لا إله إلا الله". السادس: دوام ربط القلب بالشيخ، واستفادة علم الدَافعات منه؛ بفناء تصرُّفه في تصرف الشيخ. السابع: دوام نفى الخواطر. الثامن: دوام ترك الاعتراض على الله تعالى في كل ما يرد عليه خيراً أو شراً، وترك السؤال من جنة أو تعوِّذ من نار.

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم