صحيفة المثقف

ميثم الجنابي: العقيدة الثقافية السياسية للفكرة الروسية (9)

ميثم الجنابياختلاف الذهنية والنفسية الروسية والأوربية

لقد سعى دانيليفسكي إلى تحويل العقيدة الدينية الأيديولوجية إلى عقيدة ثقافية سياسية. ومن خلالها سعى لتأسيس ما اسماه بالاختلاف في الدين والنفسية والعقل  بين النمط الثقافي السلافي والنمط الأوربي.

ففي مجال ما اسماه دانيليفسكي بالاختلافات في البنية النفسية، سعى للبرهنة على أن للشعوب السلافية بنيتها النفسية الخاصة التي تختلف اختلافا كبيرا عن الأوربية. وهذا الاختلاف ليس إلا عنصرا واحد من ثلاثة عناصر أو مكونات جوهرية بهذا الصدد وهي كل من المكون الإثنوغرافي والذي تنعكس فيه خصوصية النظام النفسي للشعوب؛ وعنصر المبدأ الأخلاقي الأعلى الذي يستحيل بدونه البناء الحضاري. ولهذا المبدأ تجليات متنوعة في العلوم والفنون والنظام الاجتماعي؛ وأخيرا عنصر المسار التاريخي الخاص. وهذه كلها تحدد طبيعة الاختلاف بين الشعوب. من هنا وضعه إياها في صلب تحليله التاريخي والفلسفي من اجل البرهنة على خصوصية الشخصية السلافية.

فعندما نتناول تحديد السمات الأساسية للاختلافات الإثنوغرافية بين الشعوب السلافية والجرمانية، كما يقول دانيليفسكي، فإن أول ما نواجهه هنا هو الفارق الفيزيولوجي، الذي وفقا لتصورات بعض علماء الأنثروبولوجيا، يكشف عن الخطوط الحادة والمتميزة بين القبائل السلافية من جهة والقبائل الجرمانية والرومية من جهة أخرى. غير إن الخلل الفكري والنهائي بهذا الصدد يقوم في أن علماء الفيزيولوجيا والإثنوغرافيا الأوربيين يحاولون البرهنة من خلالها على دونية الشعوب السلافية. وإنها في نهاية المطاف ليست إلا مادة إثنوغرافية. وبالتالي تقع في أدنى درجات السلّم الانساني والثقافي. واستفاض دانيليفسكي في استعراض النظريات الأوربية بهذا الصدد، لكي يجد فيها في نهاية المطاف مجرد تقسيمات مصطنعة. والسبب هو أنها تعتمد على مبدأ جمع المختلف وتمزيق المتوحد1.

وبالضد من هذه المبدأ ونظرياته الأوربية المتنوعة، حاول دانيليفسكي التأسيس لمنهج آخر في الرؤية تجاه السمات المتخلفة للأقوام، والتي تميز بشكل فعلي خصائص الطابع القومي أو الوطني. وانطلق من أن البحث فيها يفترض استعمال وأسلوب وفهم آخر يتجاوز أسلوب التوصيف الظاهري والجزئي. بمعنى البحث عن السمات والصفات الخاصة التي تظهر في حياة الشعب أو الأمة لفترة تاريخية طويلة وتتسم بقدر من الثبات والعمومية. وحصرها في ثلاثة اشياء وهي: أولا، إنها ميزة مشتركة لجميع الناس باستثناء حالات نسبية. وثانيا، إن هذه السمة ثابتة ومستقلة عن الظروف الطارئة والمؤقتة ودرجة التطور. وثالثا، إن لهذه الميزة أهمية قصوى لاسيما وأنها تطبع النشاط التاريخي للشعب أو الأمة. واعتبر هذه الصفة أو السمة الأخلاقية الإثنوغرافية للشعب هي بمثابة تعبير عن السمات الأساسية لنظامه النفسي بأكمله. فالسمة العامة لشعوب النمط الرومي الجرماني هي صفة العنف الناتج بدوره عن احساسها بالعلو على غيرها. مما يحدد بدوره طريقة تفكيرها ورؤيتها لمصالحها الخاصة، التي تسعى دوما لفرضها بالقوة على كل من يخالفها، اعتقادا منها بأفضليتها وعلوها على الآخرين. ولم يجدوا في سلوكهم هذا أي حرج أخلاقي. على العكس انه يعتبرون ذلك امرا طبيعيا وأن "الأدنى" منهم ينبغي القبول به باعتباره هبة ونعمة! ونعثر، كما يقول دانيليفسكي، على مظاهر هذه النفسية في كل شيئ وموقف. إذ نعثر عليه في الدين بهيئة تعصب متشدد ضد الآخرين. وقد سالت في أوربا سيول من الدماء بسبب الخلافات الدينية والتعصب. بل إننا نعثر على هذه الصفة في طبيعة التغير الذي خصل في نوعية الدين النصراني، عندما تحولت المسيحية الأصلية في شكلها الأرثوذوكسي إلى كاثوليكية بما يستجيب لخصائص الشخصية الرومية الجرمانية. ليس ذلك فحسب، بل إن تاريخ النمط الثقافي الرومي الجرماني هو سلسلة من حلقات العنف. وذلك لأن الشخصية الأوربية لا تريد معرفة أي شيء باستثناء قناعتها الخاصة. أما القول، بأن كل هذه الأفعال هي من الماضي وأنها كانت نتيجة للفظاظة والهمجية القديمة استنادا إلى أن أوربا المعاصرة سواء البروتستانتية منها والكاثوليكية تقدم مثالا على التسامح الديني وعدم التدخل في شؤون الضمير الإنساني، فهو صحيح لحد ما، كما يقول دانيليفسكي. غير أن القضية أكثر تعقيدا مما تبدو في الظاهر. وذلك لأن هذا التغير الذي يجري الحديث عنه قد جرى بعد أن أخذ الاهتمام بالدين يفقد قيمته وتحول إلى شيئ لا لا قيمة له بالنسبة لاهتمامهم مقارنة بفكرة المصالح. بمعنى انه بعد أن أخذ الدين يفقد قيمته الاجتماعية السياسية، بدأ ينحصر ضمن اهتمام العائلة، الأمر الذي جعله يبدو أكثر تسامحا كما يقول المثل "نعطي لله ما لا حاجة لنا به". ثم إن صفة العنف المميزة للشخصية الأوروبية لا يمكن تذليها عبر النظر إلى حالة ما معينة أو نموذج جزئي. فما يجري طرده من الباب يدخل من النافذة، كما يقول دانيليفسكي.

وحتى حالما تحول الاهتمام الرئيسي للدول الأوروبية بعد الحمى الاستعمارية صوب قضايا الحرية المدنية والسياسية، فإن ذلك لم يقلل ولم يذلل الطابع العنفي لشخصية الشعوب الأوربية. إذ أخذت المقصلة عملها بلا توقف ولا هوادة، وإغراق المجتمع بطوفان الدماء والحروب الخارجية التي أخذت تبشر بحد السيف بالمساواة والأخوة والحرية كما كان الحال بالنسبة لنشر النصرانية زمن شارلمان بقوى الفرسان. وهذه كلها وكثير غيرها مجرد مؤشرات على حالة التعصب والعنف عبر فرض الأفكار والمصالح الخاصة بالقوة أيا كان ثمنها. لقد عملوا بقاعدة "الغاية تبرر الوسيلة". وكلما يظهر نمط آخر من الاهتمام الأوربي نعثر على صيغة جديدة من التعصب والعنف. وعادة ما يتخذ هذا السلوك اشكالا متنوعة، غير أن مضمونها يبقى كما هو. ففي أوائل الأربعينيات من القرن التاسع عشر تشق إنجلترا طريقها إلى الصين بالمدافع عبر تجارة المخدرات(الإفيون) كما يقول دانيليفسكي. وهنا يستفسر أيضا: فهل يتميز أو يزيد سلوك الغزاة الأسبان ومحاكم التفتيش وأمثالهم قيد أنملة على عنف التجار المتحضرين الذين يجبرون شعبًا مسالمًا ومحترمًا بعظمة تاريخه على تخريبه جسديا وروحيا من أجل مصالح تجارية بحت؟

وعندما يقارن الشخصية الأوربية بالروسية، فإنه سعى للبرهنة على أن تاريخ روسيا هو نمط آخر بهذا الصدد. فقد كان الدين بالنسبة للشعب الروسي موقعه الخاص في كل تاريخه. فهو لم يكن بحاجة إلى تبشير الموسوعيين الأوربيين لكي ينعم بفكرة التسامح، وذلك لأن التسامح كان مميزا لروسيا بما في ذلك في اقسى أوقاتها. وإذا كان بالإمكان العثور في التاريخ الروسي نفسه على بعض ملامح التعصب الديني، والتي لا معنى لتبريرها، تبقى مع ذلك لعبة أطفال مقارنة بما جرى في التاريخ الأوربي. وفي التاريخ الروسي، كما يقول دانيليفسكي، ينبغي التمييز بين نوعين مختلفين من الاضطهاد. ولكل منهما طابعه الخاص. الأول قبل بطرس الأول والثاني بعده. والأول كان اضطهادا دينيا، بينما الثاني سياسيا. كما تجدر في الوقت نفسه الإشارة إلى أن الشعب الروسي لم يتعاطف اطلاقا مع اضطهاد ذوي الاعتقادات النصرانية القديمة ولم يشارك فيها بتاتا. بل قامت بتنفيذه قوة الدولة.

لقد توصل دانيليفسكي بعد تقديمه وتحليله لمختلف جوانب التاريخ الروسي ومقارنه بمثيله الأوربي إلى استنتاج عام يقول، بأن الشعوب السلافية بطبيعتها خالية من عنف الشخصية المميز للشعوب الرومية الجرمانية، التي لم تؤثر فيها الحضارة سوى بتغيير طريقة العنف من شكل إلى آخر.

 

ا. د. ميثم الجنابي

.........................

1- إننا نعثر في آراء دانيليفسكي النقدية على أبعاد علمية وإنسانية عميقة. انه حاول الكشف عن مقدمات الرؤية العنصرية التي ميزت ثقافة النمط الأوربي. ففيها فقط، مقارنة بأغلب ثقافات وحضارات الآخرين القديمة والمعاصرة، تستفحل الرؤية العنصرية وتنظيرها "العلمي". إنها تستعمل انجازات العلوم الطبيعية بتوظيفها في مواقف أيديولوجية وسياسية، تفتقد إلى ابسط مقومات الروح الإنساني والأخلاقي. بحيث نراها تبني على هذه المواقف وتضعها في سلوكها العملي على امتداد قرون عديدة وحتى اليوم. كما نراها في سلسلة الحروب المحلية والبينية والعالمية وكذلك سلوك الاحتلال وإبادة شعوب بأكملها والعبودية ونزعات التمييز العنصري والفاشية والنازية وكثير غيرها. وهي صفة أوربية كما يقال بامتياز!

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم