صحيفة المثقف

محمود محمد علي: عبد الرحمن خليفة.. رائد فلسفة الإيديولوجيات السياسية

محمود محمد علي

العظماء هم المشاعل التي تضيئ لنا طريق الخير والنجاح، وهم النموذج الأسمى للتضحية والعطاء وتقديم مصلحة المجتمع والأمة علي المصلحة الفردية .وللعظماء أيضاً أياد بيضاء لا تنسي واسهامات خالدة طيبة في سجل العطاء الإنساني، لهذه الأسباب مجتمعة ولغيرها من الأسباب تهفو النفس البشرية للاستزادة من تاريخ حياة العظماء، ولمعرفة الطريق التي سلكوها والمصاعب التي اجتازوها لتحقيق عظمتهم وتميزهم في مختلف مجالات الإبداع، ولترك بصماتهم بأحرف من نور علي جبين البشرية.

بيد أن هناك عظماء للأسف عقب موتهم انحسرت عنهم أضواء الشهرة من المتخصصين في الفلسفة السياسية؛ وبالأخص في مصر بسرعة لافتة للنظر، مع أنهم أسهموا قدر استطاعتهم في الارتقاء بالبحث والدرس في مجالها، وعملوا قدر طاقتهم علي أن ينقلوا ما عرفوه إلي تلاميذهم، وعلي أن يبدعوا في أكثر من مجال مثل أقرانهم الأكثر شهرة الذين كان عليهم الإسهام في كل مجال من مجالات الفلسفة السياسية، استجابة إلي تحديات الركود الفكري في مجتمعهم ورغبة في الوقت نفسه في الارتقاء بهذا المجتمع من خلال نشر التنوير.

ويعد الأستاذ الدكتور " عبد الرحمن علي محمد خليفة"- أستاذ الفلسفة السياسية بكلية الآداب – جامعة الإسكندرية، من رواد الفلسفة السياسية الذين انحسرت عنهم أضواء الشهرة؛ حيث أنه قلما يذكر اسمه في المؤتمرات والمحافل التي تهتم بالفلسفة السياسية في مصر وفي العالم العربي، مع العلم بأن هذا الرجل كان واحداً من الأساتذة الجامعيين الذين استطاعوا في بحوثهم ومؤلفاتهم أن ينقلوا البحث في الفلسفة السياسية من مجرد التعريف العام به، أو الحديث الخطابي عنه – إلي مستوي دراستها دراسة موضوعية، تحليلية – مقارنة . وقد كان في هذا صارماً إلي أبعد حد: فالنص الفلسفي لديه هو مادة التحليل الأولي، ومضمونه هو أساس التقييم، والهدف منه هو الذي يحدد اتجاه صاحبه.

ويشهد علي ذلك زملاؤه بكلية الآداب - جامعة الإسكندرية التي شهدت مولده الوظيفي في أواخر تسعينيات القرن الماضي، بل ويشهد علي ذلك طلابه الذين أشرف تعلموا علي يديه وزملاؤه الذي احتكوا به في؛ نعم لقد كانوا يروا جميعا في الدكتور عبد الرحمن خليفة، بأنه نعم الرجل المتوحد الشامخ: سراجاً هادياً، عالياً كالمنار، وارفاً كالظل، زاخراً كالنهر، عميقاً كالبحر، رحباً كالأفق، خصيباً كالوادي، مهيأ كالعلم، لا يرجو ولا يخشي، طاقته لا تنضب، كأن وراءها مدداً يرفدها من سر الخلود .

والدكتور عبد الرحمن علي محمد خليفة من مواليد 1في الأول من مايو لعام 1930م، وهو مدينة المحلة الكبرى التابعة لمحافظ الغربية من قرية تدعي "محلة موسي"، وهو من الجيل الذين تعلموا في الكُتاب؛ حصل علي المدرسة الابتدائية من قرية محلة موسي .. والمدرسة الثانوية في طنطا ت ثم دخل كلية الآداب – جامعة الإسكندرية - قسم اللغة الإنجليزية، ثم حصل بعد ذلك علي كرس تربوي لكي يعمل مدرس ثانوي في الاسكندرية في مدرسة "السيد كريم"، وفي مدرسة "محرم بك" الثانوية، ثم سافر إلي المغرب العربي ثم رجع وتزوج في 1966 من الأستاذة الدكتورة "سلوي فكري" – الأستاذ بكلية التربية الرياضية بجامعة الإسكندرية، ثم التحق بعد ذلك بكلية الآداب بقسم الفلسفة في أعوام 1965 إلي أن حصل علي الليسانس في عام 1969م، وفي بداية السبعينات القرن الماضي حصل علي درجة الماجستير في الفلسفة السياسية، ثم حصل علي درجة الدكتوراه في أواخر سبعينات القرن نفسه في موضوع عنوانه "فلسفة السياسة عند دزرائيلي"، وكان ذلك تحت إشراف عبد المعز نصر والدكتور الخطيب، تم تعيينه بقسم الفلسفة بآداب اسكندرية في عام 1997، وبعد ذلك أعير لجامعات الإمارات لفترة طويلة، وخلالها نال درجة أستاذ مساعد، ثم أستاذ دكتور، إلي أن توفي في الحادي والعشرين من شهر مارس لعام 2004.

وللدكتور عبد الرحمن خليفة العديد من المؤلفات فإلي جانب رسالتيه للماجستير والدكتوراه قام بنشر عدد من المؤلفات ابرزها :

1- أيديولوجية الصراع السياسي - دراسة في فلسفة القوة، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1999م.

2- في علم السياسة الإسلامي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1990م.

3- المدخل في الايديولوجيا والحضارة (بالاشتراك)، مكتبة بستان المعرفة، دار الكتب، القاهرة، 2006م.

4- مقالات سياسية، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1985م.

5- محاضرات في الايديولوجيا والحضارة، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1985م.

6- في الفكر السياسي، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1986م.

والدكتور عبد الرحمن خليفة هو من رواد فلسفة الايديولوجيات السياسية، فهو رحمة الله عليه كان من المؤمنين بأن الأفكار السياسية لا تنشأ من فراغ، ولا تسقط من السماء كالمطر، إنما تكونها الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وببساطة ترتبط النظرية بالحياة السياسية. والناس لا يرون العالم كما هو، لكن كما يتوقعونه أن يكون، أو عبر حجاب من المعتقدات والافتراضات المتأصلة، وقد استخدم مفهوما الأيديولوجيا والأيديولوجي للإشارة إلى المتعصبين؛ ما جعل المفهوم ملتبساً، كما ارتبطت الأيديولوجيات السياسية بطبقات اجتماعية معينة؛ فالليبرالية ارتبطت بالطبقة الوسطى، والأيديولوجيا المحافظة ارتبطت بالأرستقراطية المالكة للأرض، والاشتراكية بالطبقة العاملة، لكن من المؤكد أنّه مفهوم يشمل جميع الأفكار والفلسفات السياسية باعتباره منظوراً لرؤية العالم.

فكل فرد في المجتمع يمتلك قدراً من الأفكار والتصورات يمكنه من خلالها أن يحدد علاقته بالآخرين، وأن يتخذ موقفاً من القضايا الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية، يتسم بالقبول، والإيجاب، أو بالرفض والمعارضة، معبراً عن الفكر الايديولوجي الذي يحمله ويدن له بالولاء، وينتج عن ذلك اختلاف العلماء والباحثين في النظر إلي الظواهر الاجتماعية والأنساق الفكرية وصفا وتحليلا لاختلاف التنشئة الأيديولوجية التي شكلت تفكيرهم .

ويذكر عبد الرحمن خليفة في كتابه "ايديولوجيا الصراع السياسي " بأن القوة موقف سياسي ينطلق من إطار ايديولوجي يساعد علي صناعة الاتجاهات في المجتمع، سواء منها الثقافية او الحضارية، وهي في ذلك ترتبط بمعامل التغير، الذي يخلق المناخ الفكري والفلسفي بمعني البيئة الصالحة لبزوغ القوة وازدهارها، ولذلك كانت هناك الارهاصات المختلفة التي تهدف دوما إلي تمهيد الطريق إلي تقبل القوة، وخي تحتل مكان الصدارة في الأنساق الاجتماعية والسياسية .

ثم يبين لنا عبد الرحمن خليفة بعد ذلك في كتاباته الأخرى بأن الأيديولوجيا تطورت سياسيا علي يد الفيلسوف والسياسي الإيطالي "نيكولا ميكافيلي" (1469- 1527)؛ والذي كان حلمه أن يرى إيطاليا الحديثة جمهورية مثل تلك التي كانت في روما القديمة، واعتبر ميكافيلي أن رؤيته لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال ثورة لديها قوة الإرادة لتصفية أعدائها.

كذلك يؤكد عبد الرحمن خليفة بأن مصطلح أيديولوجية قد استخدمه "كارل ماركس"، في كتاب "الأيدولوجية الألمانية" الذي كتبه مع "فريدرك إنجلز"، حيث رأى الأيدولوجية هي الأفكار السائدة عند الطبقة الحاكمة، أي أنها الطبقة التي تمتلك القوة المادية الحاكمة للمجتمع، وكذلك القوة الفكرية، فهذه الطبقة تمتلك وسائل الإنتاج المادي، وتسيطر على عقول الخاضعين لها فكريًا.

وفي الحقبة المعاصرة جاء كارل مانهايم (1893- 1947): حيث حاول كما يري عبد الرحمن خليفة، بناء نموذج للأيدولوجية غير النموذج الماركسي، وإن اتفق مع ماركس بأن الأفكار تُشكل من الظروف الاجتماعية، لكنه رأى في كتابه "الأيديولوجية واليوتوبيا"، الأيدولوجية كأنساق فكرية تدافع عن نظام اجتماعي معين، وتعبر عن مصالح المجموعة الحاكمة المسيطرة.

لم يكتف عبد الرحمن خليفة بذلك وجدناه يتحدث عن الأيديولوجيا عند نيتشه؛ حيث نظر نيتشه للأيديولوجيا علي أنها أوهام وحيل يُعاكس بها الإنسان قانونَ الحياة، فيُنظر إلى الأيديولوجية بوصفها ظاهرة عامة تفصل عالم الجماد عن عالم الأحياء؛ وذلك باعتبار أن العقل عاجز عن خلق أي قيمة إذا لم يرتبط بالحياة، فمن يعادي الحياة، يلجأ إلى قيم وهمية.

ويطول بنا الحديث عن إسهامات عبد الرحمن خليفة عن الايديولوجيات السياسية وفي نهاية هذا المقال نقول عنه بأنه يعد بحق نموذج نادر يصعب أن يتكرر، ولمثقف واسع الثقافة، وكذلك لمفكر حر نزيه لا يقيم وزناً ولا يحسب حساباً إلا للحقيقة العلمية وحدها.. رحم الله الدكتور عبد الرحمن خليفة، الذي صدق فيه قول الشاعر: رحلتَ بجسمِكَ لكنْ ستبقى.. شديدَ الحضورِ بكلِّ البهاءِ.. وتبقى ابتسامةَ وجهٍ صَبوحٍ.. وصوتًا لحُرٍّ عديمَ الفناءِ.. وتبقى حروفُكَ نورًا ونارًا.. بوهْجِ الشّموسِ بغيرِ انطفاءِ.. فنمْ يا صديقي قريرًا فخورًا .. بما قد لقيتَ مِنَ الاحتفاء.. وداعًا مفيدُ وليتً المنايا.. تخَطتْكَ حتى يُحَمَّ قضائي.. فلو مِتُّ قبلكَ كنتُ سأزهو.. لأنّ المفيدَ يقولُ رثائي.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم