صحيفة المثقف

كريم المظفر: "من حبك لاشاك"

كريم المظفر(من حبك لاشاك)، ولغير العارفين باللهجة العراقية، نوضح ما يعني هذا المثل، هو (من يحبك بيتحركش فيك، او يتحرش فيك)، ولا ندري لماذا نستذكر هذا المثل الشعبي العراقي المشهور، ونحن نراقب خطوات الرئيس الأمريكي جو بايدن، وعلاقته بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ونحن نستقرأ العلاقة بين الرئيسين، فكل واحد منهما يعرف الاخر، ويفهمون بعضهما البعض حتى بدون الكلام او بمجرد النظر في عيون بعضهما البعض .

واليوم نستذكر ما شهده العالم  الشهر الماضي من تصريحات "فظة" للرئيس الأمريكي، والتي وصف فيها نظيره الروسي (بالقاتل الذي سيدفع الثمن)، وان كان هذا القول وبحسب معظم المراقبين  لا يمت للحقيقة بصلة، وان عبارة (القاتل) لا تستند الى اية وقائع حقيقية، ما دفع  بالرئيس الروسي بمخاطبة نظيره الأمريكي (الله يشفيك)، ولم تمض على هذه الكلمات سويعات حتى سقط الرئيس بايدن من سلم طائرته ثلاث مرات، برر البيت الأبيض هذا السقوط بسبب الرياح القوية التي ضربت المنطقة التي تواجدت فيها طائرة الرئيس، وليس كما قصد به  الرئيس الروسي بدعوته !!.

مرة أخرى يطلب الرئيس الأمريكي الاتصال بنظيره الروسي ويكرر دعوته السابقة لحضور "القمة المناخية" عبر نظام الفيديو كونفيرينس يومي 22 و23 أبريل الجاري، حتى برزت أسئلة كثيرة منها، كيف يتصل بايدن ببوتين مرة أخرى بعد تصريحاته تلك؟، وهل لمثل هذه القمة تسمح بمشاركة (القتلة) وفق المنظور الأمريكي؟، لذلك أحدث الاتصال الثاني تحولا كبيرا في الاحداث بين موسكو وواشنطن، والخبر الرئيسي الذي أعقب المحادثة هو أن بايدن اقترح أن يجتمع مع بوتين في الأشهر المقبلة!! اعتبرها الكثيرون مفارقة كبيرة تحتاج الى تفسير من قبل الرئيس الأمريكي، الذي على ما يبدو يعاني من العلل الذي لا يعرفه سوى الرئيس بوتين، لذلك تمنى له (بان يشفيه الله) .

وعلى الرغم من ان الكرملين اعلن أنه سيدرس اقتراح عقد القمة، والإشارة إلى أنه من السابق لأوانه الحديث عن مكان انعقاد اللقاء أو أي تفاصيل أخرى، الا ان الرئيس الأمريكي  وفي أحدث تصريحاته مصرا على عقد القمة الثنائية مع نظيره الروسي، لوقف حدة التصعيد بينهما، جاء رد وزارة الخارجية الروسية (تعقيبا على العقوبات الجديدة التي اقرها الرئيس الأمريكي في 14 ابريل الجاري ضد روسيا)، ورغم زيادة طابور الدول الراغب في استضافة القمة المثيرة للجدل في ازدياد،  فبعد اعلان يان غاماتشيك، النائب الأول لرئيس الحكومة التشيكية ووزير الخارجية بالنيابة، سفيري التشيك لدى موسكو وواشنطن بعرض عاصمة بلاده مكانا لإجراء قمة بوتين - بايدن المحتملة، أكد مكتب الرئيس الفنلندي ساولي نينيستو، استعداد فنلندا لاستضافة لقاء محتمل بين الرئيسين الروسي والأمريكي، ودخول النمسا أيضا على قائمة هذه الدول، الا ان الخارجية الروسية أعلنت " ان موضوع القمة بات موضع شك " .

المراقبون يؤكدون ان في الاتصال الثاني للرئيس الأمريكي مع نظيره الروسي، وان اختلفت البيانات في البيت الأبيض والكرملين عن المضامين الرئيسية التي تناولها هذا الاتصال بين الرئيسين منذ تولي الرئيس الأمريكي منصبه في يناير من العام الحالي، الا ان السبب الحقيقي هو وقف " الانزلاق " الذي تحذر منه موسكو في تطورات الأوضاع في الجنوب الشرقي في أوكرانيا، والذي سيعتمد على سيناريوهين.

السيناريو الأول، هو ذلك القلق من قبل الولايات المتحدة بشأن الوضع حول أوكرانيا، وخشبته من بدأ حرب روسية أوكرانية، حقيقية، وليس "مزيفة"، وهو الأمر الذي كان المروجون الأوكرانيون يصرخون بشأنه منذ سبع سنوات، وقد يبدو أنه لمنع الحرب، تحتاج واشنطن فقط إلى إصدار أوامر إلى كييف بتهدئة جيشها على خط التماس، بحيث تتوقف المدفعية الأوكرانية عن إطلاق النار على البنى التحتية المدنية، ويتوقف القناصة الأوكرانيون عن مطاردة الناس، لكن ليس كل شيء بهذه البساطة.

وعندما تكون هناك حرب، من وجهة النظر الروسية من المستحيل السيطرة الكاملة على كل وحدة قتالية، ويمكن أن تؤدي طلقة واحدة إلى اندلاع معركة خطيرة، والتي بدورها ستترتب عليها عواقب غير متوقعة، خاصة في حالة تكون فيها أعصاب الجميع على جانبي خط المواجهة في أقصى حدودها، ووفقًا لوزير الدفاع سيرغي شويغو، فان روسيا نشرت جيشين وألوية محمولة جواً على الحدود الغربية، وفي مثل هذه الحالة، يمكن إشعال النار من شرارة صغيرة،  إذا شن الجيش الأوكراني هجومًا واسع النطاق أو قصف أراضي الجمهوريتين (دونباس و لوغانسك) الغير معترف بهما، ما سيسفر عن  مئات المدنيين في وقت قصير، فمن المحتمل أن تتدخل روسيا،  إذا قام الجيش الروسي بضرب القوات المسلحة الأوكرانية بكل قوته، فإن الجنود الأوكرانيين سوف يفرون.

وهنا سيبرز سؤال مهم هل سيكون لدى الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو خيار إرسال قواتهم لمساعدة أوكرانيا واتخاذ قرار بشأن الصدام المباشر مع روسيا ؟، أم حصر أنفسهم في الاحتجاجات وفرض عقوبات جديدة ؟،  وعلى الأرجح بالطبع، لن تجرؤ الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي على مواجهة روسيا وجهاً لوجه، فالغرب الرافض لإعطاء كييف حتى لقاحًا لمواجهة فايروس كورونا، فمن المشكوك فيه أن ترسل واشنطن وبروكسل جنودهما للموت من أجل أوكرانيا، وفي هذه الأثناء، وفي حالة حدوث هزيمة عسكرية كبيرة وإثبات أن الغرب قد تخلى عن  نازاليجنويا، فقد ينهار نظام الميدان في أوكرانيا، وهذا ليس في مصلحة واشنطن، فأوكرانيا هي منطقة جيوستراتيجية، تسمح سيطرة الولايات المتحدة عليها للبيت الأبيض بإبقاء روسيا في حالة ترقب.

وطالما أن أوكرانيا لديها أراضي زراعية وغابات، يمكن للشركات الغربية جني أموال جيدة هناك، والأهم من ذلك، إذا وقع نظام الميدان تحت ضربات الجيش الروسي، فسيكون ذلك دليلاً على أن الولايات المتحدة لا تستطيع حماية حلفائها وتوابعها، وهذا يعني أن ممثلي النخب في أوروبا وآسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، الذين يركزون على الولايات المتحدة، سوف يفكرون، خاصة إذا تمت محاكمة أحد منظمي انقلاب 2014 في أوكرانيا ومعاقبته، أو سيتم إعطاء الشروط الحقيقية لأولئك السياسيين والعسكريين في أوكرانيا الذين أصدروا أوامر بقتل الناس في دونباس.

كما أن مواقف المناهضين لأمريكا والمتشككين في الاتحاد الأوروبي سوف تتعزز في الاتحاد الأوروبي، وكذلك فان الولايات المتحدة قلقة أكثر من أن سقوط أوكرانيا سيكون إشارة للصين - فقد تشدد إجراءاتها في جنوب شرق آسيا، حيث هناك نقاط ألم،  وهي جزر بحر الصين الجنوبي، تايوان، حيث تعارض الولايات المتحدة جمهورية الصين الشعبية، وأمريكا تخشى أن تعتبرها بكين ضعيفة، وسيحدث هذا حتما إذا انهار مشروع "ميدان أوكرانيا"، وفي ضوء ذلك، يحتاج بايدن إلى الحفاظ على نظام كييف، لكن دون أن يدخل الجيش الأمريكي في مواجهة مفتوحة مع النظام الروسي، ولهذا السبب اتصل بايدن ببوتين.

وشيء آخر هو ما إذا كان الرؤساء سيكونون قادرين على الاتفاق على شيء على الجانب الأوكراني دونباس؟ ومثل هذا السؤال يصعب الإجابة عليه، حيث تعتقد روسيا أن واشنطن يجب أن تحترم المصالح الوطنية للقوى الأخرى، وان وروسيا بحاجة إلى أوكرانيا صديقة أو على الأقل محايدة من أجل أمنها القومي، ويعتقد البيت الأبيض أن الولايات المتحدة فقط هي التي لديها مصالح قومية، ويجب على جميع الدول الأخرى أن تأخذ هذا كأمر مسلم به، وهذا تناقض عميق، لذلك، فإن الحد الأقصى الذي يمكن الاعتماد عليه هو "تجميد" الصراع في دونباس.

ووفقًا للسيناريو الثاني، فان بايدن على ما يبدو يحاول ان يبدأ لعبة دبلوماسية لكسب الوقت، لأنه لا يحتاج إلى لقاء مع الرئيس الروسي، ناهيك عن تحقيق أي اتفاقيات،  وتكتب قنوات  تلغرام  مجهولة الهوية الأوكرانية منذ عدة أسابيع أن الولايات المتحدة ستنشئ ثلاث قواعد عسكرية في أوكرانيا في مناطق خاركوف و دنيبروبيتروفسك وأوديسا، ولهذا، لا تحتاج أوكرانيا إلى الانضمام إلى الناتو، لكن من الضروري تغيير دستور البلاد وتوقيع اتفاقية ثنائية مع الولايات المتحدة، مع الأخذ في الاعتبار العدمية القانونية المتأصلة في الحكومة الأوكرانية، من الناحية النظرية يمكنهم القيام بذلك بسرعة، في انتهاك للإجراءات الرسمية، خاصة إذا كانت الولايات المتحدة ستضغط على النخبة السياسية.

وعندما تظهر القواعد العسكرية لحلف شمال الأطلسي في أوكرانيا، لن تتمكن روسيا بعد الآن من تقديم المساعدة الكاملة إلى دونباس: إذا شنت القوات المسلحة الأوكرانية هجومًا، فسيكون خلفها الجيش الأمريكي، ولن يدخل الاتحاد الروسي بصدام مباشر مع الولايات المتحدة، وعلى العموم، ليس من المستغرب أن نتوقع "لعبة شريرة" من الولايات المتحدة بشكل خاص ومن الغرب بشكل عام، فسبق وان وعد السياسيون الغربيون الرئيس السابق لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية ميخائيل غورباتشوف بعدم توسيع الناتو بعد توحيد جمهورية ألمانيا الديمقراطية وحكومة جمهورية ألمانيا الاتحادية، وقال رئيس الوزراء الروسي الأسبق الراحل يفغيني بريماكوف إن الغرب خدع روسيا في القضية الليبية فيما يتعلق باستخدام قرار الأمم المتحدة للأجواء المغلقة، والذي سمح لفرنسا وإيطاليا، بدعم أمريكي، بالإطاحة بالرئيس معمر القذافي، وخدع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي الرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش في فبراير 2014 بعد توقيع اتفاقية مع المعارضة، حيث عمل الوزراء كضامن، وتمت الإطاحة يانوكوفيتش، وهناك أسطورة في دونباس أنه في سبتمبر 2014، عندما كانت ميليشيات جمهورية دونيتسك الشعبية الديمقراطية على وشك الاستيلاء على ماريوبول، جرت محادثة بين القادة الروس والأمريكيين، تعهد خلالها ممثلو واشنطن بأن أوكرانيا ستقدم تنازلات سياسية فيما يتعلق دونباس،  إذا ظلت ماريوبول تحت سيطرة كييف، ولم يتم الاستيلاء على المدينة، ولم تقدم أوكرانيا أي تنازلات.

من ناحية أخرى، هذه النظرية بها العديد من نقاط الضعف، فالتعديلات على دستور أوكرانيا، وتجهيز القواعد، ونقل القوات الأمريكية إلى إقليم نازاليجنوي  - كل هذا لا يمكن القيام به بشكل غير محسوس، لا سيما بالنظر إلى حدة الصراع السياسي داخل النخبة الأوكرانية نفسها،  بالإضافة إلى ذلك، فإن مثل هذه "اللعبة" من قبل البيت الأبيض قد تدفع روسيا إلى اتخاذ إجراءات أكثر حسماً فيما يتعلق بالاعتراف بجمهوريات دونباس، أو ربما فيما يتعلق بأوكرانيا، لأن ظهور قاعدة عسكرية أمريكية في منطقة خاركوف، بالقرب من حدود الاتحاد الروسي، يشكل تهديدًا مباشرًا لأمن البلاد، ومع ذلك، لا ينبغي استبعاد هذه النظرية، فلدى كل من الأمريكيين ونخبة الميدان الأوكرانية شعور بتفوقهم - فهم يعتبرون أنفسهم أذكى من الآخرين، لذلك لا يمكن استبعاد أن دعوة بايدن هي بداية خطوة متعددة، مهمتها خداع روسيا ومسح دونباس من على وجه الأرض.

لقد أصبحت المكالمة الهاتفية التي كانت بمبادرة من الولايات المتحدة، هي الحدث الذي استعرضت روسيا قبضتها  العسكرية الخطيرة لدرجة أنها جعلت بايدن يتصل بالكرملين، وواقعة أن هذا الاتصال يشير إلى أن موسكو نجحت في تحقيق أهدافها، فمن خلال نقل قواتها إلى الحدود الغربية، استعرضت روسيا قبضة عسكرية خطيرة لا يمكن تجاهلها، ولو جرى استخدامها، لكانت قد أدت إلى سحق القوات المسلحة الأوكرانية، ولما كان لدى أحد الوقت لمساعدتها، لذلك فان الرئيس الأمريكي  فضل (ملاشاة) نظيره الروسي، وهنا (الملاشاة او الحركشة) لا تدخل في اطار الحب او الود الذي يكنه بايدن لنظيره الروسي، بل انها  تدخل في مفهوم ان الرئيس بوتين يفهم أمريكا جيدا وانها لا تفهم بالتصريحات الدبلوماسية، وإنما باستعراض القوة .. أذن فواقعة الاتصالات الهاتفية هي محاولة لإزالة التوتر الرمزي المرتبط بتصريحات بايدن الفظة او بقراراته تجاه روسيا، ويمكن تأويل الاتصال كشكل من أشكال الاعتذار من الولايات المتحدة، ولكن من المستبعد أن يحلو لكييف الرسمية مثل هذا الاتصال، ومع ذلك، في لعبة العمالقة الجيوسياسيين، لا مكان للقيادة الأوكرانية في أي قرار.

 

بقلم: د. كريم المظفر

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم