صحيفة المثقف

خالد جودة أحمد: مقدمة في علم الصيدلة الرمضانية الإكلينيكية

خالد جودة احمدبحث الدواء الإيماني لداء "نحافة الروح"

في لقطات سينمائية كوميدية لطيفة للفنان/ أحمد حلمي صارت أيقونة لمحبي الطعام الشديد والشهر الفضيل، في فيلم (إكس لارج)، والصائم قد صلي الفجر ثم استشعر العطش فورًا، رغم أنه مضي يأكل سحورًا هائلاً.

والحقيقة أن مثل هذه الحالة تعد مؤشرًا لمرض (نحافة الروح)، لذلك يمكن أن نطلق سراح هذا التساؤل القلق: الضعف في الأرواح أم في الأجسام؟!، فكلنا يعلم كيف تبدل حال أغلب المسلمين في رمضان -إلا من رحم ربي- فتحول شهر الصيام إلي شهر الطعام، وتحول شهر التهجد والقيام إلي شهر سهرات التلفاز وفي خيام الشيشة، والتضحية بالأوقات الثمينة، وتحول شهر البر والإحسان والاقتصاد إلي شهر الإسراف الشديد، وهكذا. ولا أقصد التقريع، فكلنا ذلك الإنسان، وانا أول الناس، إنما هي تذكرة حتي يساعدنا رمضان “الطبيب” علي اجتياز هوة هذا الصراع بين عادات ومقتضيات نفس وسلوك معين وبين الجديد الإيماني الدوائي للروح الرمضاني، فتحدث مقاومة شديدة.

يقدم الباحث “علي الجندي” ملمحًا ذكيًا حول هذه المقاومة: (من العجيب أن الإنسان قد يخرج أحيانا صباحًا إلي عمله دون أن يذوق طعامًا ويظل طول النهار تقريبًا دون أن يذوق طعامًا وقد يكتفي ببعض أقداح القهوة والشاي، ولكن في رمضان يتناول وجبتين كاملتين أحدهما قرب انبلاج الصبح، ولا يكاد يأتي عليه الضحى حتى يحس بالجوع فإن حان وقت الإفطار انتظره علي أحر من الجمر ، فمعني ذلك أن ضعفنا في ضعف أرواح لا ضعف أجسام)، وقد وجدت هذا الأمر في أكثر من أثر، يتحدث كاتب صحافي معروف، قائلًا: (أنا –والعياذ بالله من كلمة أنا- أكون في حال يصعب علي الكافر وأنا صائم، حيث أفقد القدرة علي العمل والتفاعل (..) ربما لأنني من الذين لا يتحملون الجوع، وإن كنت لست أكولاً، وربما يرجع الأمر إلي فكرة المنع في حد ذاتها هي السبب، فقد جاء رمضان في عز الشتاء الزمهرير، ولم أكن أظمأ أو أجوع، ومع هذا كنت في نفس الحالة).

ويتحدث د. عبد المحسن صالح عن ظواهر نحافة الروح وداله الرئيس الشغف الهائل بالطعام في رمضان، رغم أن المقصود العكس، يقول بتصرف: (ما ُيصرف علي الطعام والشراب في شهر رمضان يفوق مثيله في أي شهر آخر .. ربما بضعفين أو ثلاثة .. والغريب أن هذا يحدث في شهر مبارك من سماته عدم الإسراف في مال وطعام وشراب، فنحن نأكل في شهر رمضان أكثر مما نأكل في أي شهر آخر، وهذه مفارقة تستحق وقفة تأمل وتدبر).

بالتالي هناك حالة مرضية تصيب الروح، وينجم عنها مضاعفات وآثار صعبة، من أهمها نحافة الروح، وإصابتها بمرض خطير قد يقضي عليها، فالروح مسجاة في سرير الدنيا تعاني من هزال قتال، تلتقط أنفاسها من ثقب أبرة لاهثة، يضج صدرها كالطبل الهائل بالألم، ومن عجب انه رغم هذا الشان المرضي الخطير، لا تجد الأرواح من يعني بتغذيها تغذية صحية، وإلتماس الدواء لها، من ذكر وأذكار، وآيات واعتبار، وتأمل ودعاء، وتدبر في صنع الله وتبتل، وصدقات وصلوات، وإيصال صلات أرحام ممزقة، وترك للحرص والخوف، إلي آخره من هذه العلاجات الشافية.

ومن هنا تنبع أهمية علم الصيدلة الرمضانية السريرية، والصيدلي السريري تطوير طبي مهم، وتأسيس علمي بصير، فهو خبير الأدوية وهو الأدري بالأمور الدقيقة الخاصة بها مثل: كيفية حساب الجرعات، تعديل الجرعات، تداخلات الأدوية مع بعضها، كيفية تحضير أدوية معينة، تولي الصيدلي هذه المهام يوفر علي الطبيب عمل كثير، ويجعله يتفرغ أكثر للأستماع إلي المرضي، والتركيز علي مهامه الأصليه فى تشخيص المرض. ووجود الصيدلي ضمن الفريق الطبي يتيح توفير معلومات عن الأدوية المختلفة وبدائلها، ويكون الصيدلي مصدر معلومات سهل الوصول إليه بالنسبة للمريض للإجابة علي استفساراته عن جرعة الدواء، وميعاد أخذه، وغيرها من تساؤلات المرضى، كما يحدث تعظيم الفائدة من استخدام الأدوية عن طريق إعطاء أنسب جرعة لكل مريض فى الوقت المناسب وبالطريقة المناسبة.

وشهر رمضان الكريم هكذا يؤسس صيدلة للروح المسجاة سريريًا ضعيفة أشد الضعف، يقدم لها أدوية ناجزة، في جرعات مكثفة تنقذها من التردي الصحي الخطير بعد أن أهملها صاحبها في العلاج حتي أفضي بها إلي هذا الضعف المترع، هذه الجرعات المكثفة من صيام وقيام وذكر وصدقات وتلاوة قرآن والتحفيز إليها بالنصوص الشريفة، والتآزر بينها، وتشكيل الصوبة الإيمانية ذات الأنفاس النقية، والتي تم تعقيمها من مردة الشياطين، وملوثات الأرواح، هذا جميعه يقدم طوق نجاة لأرواح نحيفة تكاد تقضي مرضًا وضعفًا.

والتشخيص للحالة والتي تؤسس سبل العلاج الرمضاني قدمه الزاهد “ابن مسروق الطوسي” عندما قال: (المؤمن يقوي بذكر الله .. والمنافق يقوي بالأكل)، وفي الرواية الشيقة لأحمد بهجت (مذكرات صائم) يصف كيف اجتاحت الكآبة الأرواح، يقول: (كيف يتسع قلب في حجم قبضة اليد لأحزان في رحابة الأفق)، وفي موضع آخر يقول: (الألم المادي في القلب يزيد، والكآبة لم ترحل وإنما تنتشر. فشل أطباء الجسد، ولم يبق غير أطباء الروح)، ونعود مرة أخر للعلامة الأديب د. عبد المحسن صالح، حيث يحدث عن قوائم الطعام في رمضان، معقبًا عن الحكمة العظيمة الكائنة في هذا الشهر الكريم، يقول بتصرف: (فهو شهر الانضباط الديني والنفسي والبدني، ليعمق في الإنسان جذور الإيمان، عن طريق كبح شهوات، يراقب الناس فيها ربهم، وفي الوقت ذاته يراقبون أجهزتهم الحية التي ظلت تشتغل بغير هوادة طوال عام كامل، وأين لها أن تأخذ “هدنة” تريحها من عناء متواصل)، فوصفة دوائية من لون: تلاوة القرآن الكريم وقراءة السنة المطهرة والسيرة الشريفة، ومدارسة هذه العلوم، وإقامة أمسيات رمضانية نبيلة، ... إلى آخره من صنوف الدواء الرمضاني تنقذ الروح المحتضرة من خطر الفناء.

يقول أيضا د. عبدالمحسن صالح عن الدواء الؤمضاني: (كل هذا غذاء للروح والعقل، وكلما ازددت من هذا الغذاء وجدت فيه نهمًا لا تشبع منه النفس أبدًا، ذلك أن عقولنا تسطيع أن “تهضم” أكداسًا من فوق أكداس من العلم النافع، وبه تتسع المدارك، وتسمو المعارف، وتتفتح العقول علي المزيد، دون أن تصيبها تخمة أو عسر أو ما شابه ذلك). وقرأت في كتاب طبي علمي معنون (الصيام … الغذاء الأمثل)، من تأليف د. آلان كوت الحائز علي درجة الدكتوراة في التغذية أن الصوم يجعلك أكفأ ذهنيًا وجسديًا، ويشحذ الحواس، ويقوي الإرادة، ويمنحك صفاء روحيًا.

نفعنا الله تعالي بمركبات الدواء الإيمانية، وأصلح شان أرواحنا في شهرنا المبارك الكريم، وكل عام وحضراتكم بصحة وعافية وخير.

 

خالد جودة أحمد

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم