صحيفة المثقف

مجدي إبراهيم: نقائض التصوف.. الإرث المسموم (3)

مجدي ابراهيمنتابع تخريجات صاحب كتاب (الفكر الأخلاقي عند ابن خلدون)؛ الذي سبق أن وصف التصوف بوصف نابي لا يمت إلى المنهج العلمي بصلة. ومن الغريب العجيب أنه استدعى المنهج العلمي؛ ليكون حاضراً في هجومه ولا أقول مناقشته ثم ليكون حكماً بينه وبين هذا الإرث المسموم كما وصف. وقد أثبتنا في المقال السالف المنشور في صحيفة المثقف بالعدد 5279 ؛ المصادف2021-02-17 م، فشل هذا الاستدعاء، إذْ لم يكن في محله، فضلاً عن خلطه الشنيع بين المناهج والتوجهات، فلم يكن يدرى مجرد التفرقة بين مناهج التيارات الفلسفية في الإسلام ماذا عساها تكون؟ ولم يكتف بذلك؛ بل راح يصف التصوف لا الصوفية، بالإرث المسموم! ولو كان وصف الصوفية بهذا اللفظ النابي لهان الخطب وخف البلاء لكنه بهذا الوصف أثبت ما يستقر في أذهان كل من يقرأ له كلماته البعيدة عن المنهج العلمي جملة فضلاً عن التفصيل.

فالتصوف كعلم وتوجه كالإسلام كعقيدة ومنهج لا يكون العيب فيه بمقدار ما يكون العيب فيما يتنسب إليه، فإذا وجدنا المسلمين اليوم ليسوا على قيم ومبادئ الإسلام فهل يمكنني أن أكيل العيب على الإسلام نفسه أم على المسلمين؟ وكذلك التصوف لا يمكن أن أعيب عليه بقدر ما يكون الغيب حاضراً فيمن يتنسبون إليه ممّن لم يسلكوا سلوك الأقطاب الكبار.

وقد توقفنا في اللقاء السابق عند تخريج فاسد الدلالة يقول فيه :"أدبنا اليوم في المشرق والمغرب يحاول أن يعالج هذا الإرث المسموم في عقول الشعب فلا يشق طريقه إلا بصعوبة", وقلنا إنه لن يشق طريقه أبداً لغياب الصلة الوثقى في الأذهان القاحلة بين الأدب باعتباره فناً والتصوف بوصفه فناً كذلك، ناهيك عن سقوط القيم. ويعز علىَّ أن أرى غيبة القيم من ثقافتنا العربية، فشعوب بلا قيم كإنسان بلا معنى وكحياة بلا غاية ولا هدف .. وهل يُقَوِّم الفرد في مجتمعاتنا العربية إلا بمقدار ما لديه من دراهم؟!

أنا شخصياً لست أدري أي إرث مسموم ولا أي شعب من شعوب العالم قاطبة؟! هذا الذي يقضي على الموقف وعلى المنهج سواء؛ ليس في الإسلام فحسب؛ بل في سائر شعوب العالم المتحضر, أي يقضي على الديني والفني والذوقي معاً، ثم يجرّد الإنسانيّة من الفاعليّة الحيويّة، فلا يبقى من بعدٌ إلا القشور الخاويّة الخاملة القاحلة، وإلا الأفكار الرجعية الكاسدة التي أورثتنا ميراث التخلف والإرهاب والعنف والتطرف وشوّهت الصورة السمحة للإسلام.

فإذا كنا أدركنا فيما يتصل بالمنهج أن اختلاف الناس في التقويم يوضح لنا طبيعة الاختلاف الذي يقع بين الناس في حالات كثيرة جداً، ويظنونه اختلافاً بين ما هو صواب عند أحدهما وخطأ عند الآخر، مع أنه في حقيقته اختلاف وخطأ عند الآخر بين حالات شعورية لا شأن لها بخطأ وصواب، وليست هى دائماً من نوع المثل الذي ضربنا من أن هذا يحب صوتاً غنائياً لا يحبه الآخر، بل قد يصل الأمر ليصبح اختلافاً في "العقائد الدينية" أو "في المعتقدات السياسية" أو في الآراء حول أوضاع اجتماعية ممّا قد تدعو خطورته إلى تفجير القتال أحياناً مع أن الأساس الأول الذي بني عليه الاختلاف هو ممّا يندرج في مجال الشعور قبولاً أو رفضاً فهو إذن مجال "خاص" بالأفراد؛ وليس "عاماً" موضوعياً يلتزم به الجميع.

وعليه؛ فالحالة الشعورية - والصوفيّة أرباب أحوال لا أصحاب أقوال - هى التي تفسر لنا الموقف الديني الحركي يتخذه الصوفي لنفسه، والذي هو كما تبيّن أقرب للموقف الفني فلا يٌقال في حق تلك الحالات إنها من الخطأ أو من الصواب لأنها حالات فردية خاصّة تفسر في إطار تجارب أصحابها القادرين عليها فضلاً عما يُكال عليها من أباطيل وتُرَّهات ليست منها في شيء.

وبما أن التصوف بوصفه منهجاً ذوقياً يقوم على اتساع بؤرة الشعور فلا مناص آخر الأمر من أن يكون للصوفي موقفه الخاص كونه إنساناً دينياً. إنّ الإنسان الديني هو الذي يُضفي على مجموع الحياة ومجموع الفرد معنى ودلالة عميقة، وينظر إلى الحياة وإلى الفرد في ضوء قيمة عليا هى الله تعالى. ولئن كانت نظرة الإنسان الديني إلى الحياة من خلال الله فهو يعمل ويعيش في الله ومن أجل الله, فليست له غاية في هذا الوجود سوى معرفة الله. الله مركز حياته. ليست سائر القيم الحياتية في نظره إلا وسائل بالنسبة إلى القيمة العليا التي هى القيمة الدينية.

رأيه في العلم أنه ليس في وسعه أن ينظر إلى الحياة والعالم نظرة تعادل في عمقها وسعتها نظرة الدين؛ فكل ما يستطيعه العلم هو أن يوضح بعض التفاصيل، وأنْ يشتغل على المحسوس المرئي بما يوفر الغاية التي خُلق من أجلها لا يتعداها. والاقتصاد عنده يحتل منزلة دنيا : أليس التغلب على شهوات الخيرات الاقتصاديّة من أولى الواجبات التي يفرضها الدين؟

وللفن عنده حدود يجب أن يستمدها من الدين. والحياة الاجتماعية يجب أن تستلهم من الدين. يعمل الإنسان الديني وهو متجه ببصره إلى "خلاص الرُّوح" وهو في كل ما يعزم عليه من أمر ينظر إلى الحياة الكلية والغاية الأخيرة.

الموقف الصوفي إذن كالموقف الفني، وما يتعرّض له الصوفي، مع اختلاف الغاية وجلال المبتغى، هو تقريباً نفس ما يتعرض له الفنان في طريق كليهما من ركوب المتاعب، مقاساة ومعاناة. بؤرة الشعور لدى الصوفي متسعة، وليست هى كذلك لدى الفنان بالضيقة.

الموقف الفني حيوي كلي غير محدود، وكذلك موقف الصوفي لا يتجزأ ولا تستغرقه التفاصيل، ولكنه ينشد غاية غير محدودة ويستبقي المحدود لكل ذي نظر محدود وفكر محدود وخُلق محدود؛ فمن يريد أن يتخلص اليوم ثم يوطن الجهود المضنية على الخلاص من أضرار التصوف مع الغفلة الواصبة عن منهجه الذوقي وموقفه الفني لا مندوحة له من التخلص أولاً من القيم الكبرى الباقية العاملة، أن يتخلص من الفن والدين والحياة.

***

كانت هذه المناقشة هى النقطة الأولى في الآراء الهدامة. أما النقطة الثانية؛ فمحاولة الباحث أن يستعيض الإرهاب بدلاً من التسامح، والسطحية بدلاً من العمق، والافتراء والكذب والادعاء بدلاً من الإنصاف والصدق والاعتدال؛ فعوضاً عن التصوف والحياة الروحية في الإسلام تتلخص جهوده في التخلص منه بالنزعات الإرهابية المتشددة المنحرفة عن نهج الاعتدال وفهم الدين فهماً راقياً، ممثلة في ابن تيمية وأضرابه؛ أكثر الذين كفروا أهل الملة وأعطوا أسوأ صورة عرفها العالم عن الإسلام لا يزال يعاني منها حتى يوم الناس هذا، ثم إنه ليوالي الحركة الوهابية في الحجاز؛ ليكون مجتمعه المثالي الذي ينشده مستضاءً بنور الفكر العلمي الحديث؛ فكر الوهابية وابن تيمية؛ ويا للعجب!

وثالثها؛ ينعت الباحث التصوف تارة بالفكر الخرافي، وتارة بالفكر الغيبي، وتارة ثالثة بالفكر الرجعي المتخلف الذي لم يلامس الإسلام أرواح رجاله بأشعته التحريرية، ولسنا ندري على الحقيقة ماذا عَسَاهُ يكون فكر ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب؟ هل هو فكر متقدِّم مبشر بالبحث عن كل مشترك حضاري بين الأديان والثقافات المتصارعة أم هو السبب الكارثي في شيوع الاستبداد بالدين ونبذ روح التفاهم والتعاون والمحبة وكشف العلاقات الإنسانية بين الشعوب والحضارات انطلاقاً من عنصر المحبة الصافية كما هو الحال في التصوف؟!

هل هذا الفكر المسموم هو فكر مستنير غاية في التقدم والاستنارة وقبول الآخر إلى الدرجة التي لامس فيها الإسلام أرواحهما وأرواح أتباعهما في العالم الإسلامي شرقه وغربه بأشعته التحريرية؟!

من الممكن حقاً لو أن هناك عدالة أو أنصاف أن ينقض الكاتب الصوفية ما شاء له النقض، وأن يطعن في "الرجال" كيفما اتفق، هذا حقه الذي لا يعارضه فيه أحد، لكن الذي ليس من حقه هو ألا يختار للمجتمعات الإسلامية - شعوباً وحكومات - فكراً يليق بها وبتقدَّمها مادام لم يرتضْ التصوف أن يكون ممثلاً لهذا الفكر.

وهل في وسع فقهاء الهدم أن يقدموا لمجتمعاتهم أرثاً غير مسموماً؟ هل كان في وسعهم أن يستخرجوا المشترك الحضاري للأمة الإسلامية فضلاً عن الأمم الأخرى التي يتعاملوا معها فلا يثيروا الخلاف بين أبناء الأمة الواحدة؟ وأن ابن خلدون نفسه كما سبقت الإشارة لم يكن من فقهاء الهدم.

لم يكن في مقدور "فقهاء الهدم" التخلي عن الهتك والتشنيع ولم ينهجوا منهاج الرفق واللين؛ والتبْصِرة بالعيوب وإبراز المزايا - إنْ وجدت ولابد لها أن توجد - فالنصيحة يجب أن تكون برفق ولين وهوادة؛ مع الحرص على التستر والتكتم لا التعرية والفضيحة؛ وكأن الصوفية ارتكبوا جرائم خلقية شنيعة تسلطت عليهم بمقتضاها سهام التشنيع؛ وهم من سنوا قواعد الآداب الخُلقية لتقول إذا كان الإنكار قد تمَّ وفق ذلك أعتبر نصيحة؛ أما إذا كان مرفوقاً بالتشنيع وهتك الأستار أعتبر فضيحة. فمن عرَّفك بك من حيث لا يشعر الغير فهو الناصح، من أعلمك بعيبك مع شهود الغير فهو الفاضح. والأساس الشرعي واضح قد صحَّ عنه من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة؛ ومن أقال مسلماً عثرته أقال الله عثرته يوم القيامة .. وليس لمسلم أن يفضح مسلماً إلا في موجب حكم بقدره من غير تتبع لما لا تعلق له بالحكم، ولا ذكر عيب أجنبي عنه، وإلا أنقلب الحكمُ عليه بقهر القدرة الإلهية حسب الحكمة الربانية والوعد الصادق الذي جاء في قوله؛ صلى الله عليه وسلم :" لا تُظهر الشماتة بأخيك، فيعافيه الله ويبتليك".

وهل ذهب زعماء الإصلاح في عالمنا العربي منذ رفاعة رافع الطهطاوي (1801- 1873) إلى الجحيم، فلم يعد يبق لنا لتقدُّم الشعوب العربية والإسلامية غير هذه السموم القاتلة التي تنشر الضلالة في كل واد باسم الدين، والدين منها براء!

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم