صحيفة المثقف

سامي عبد العال: في معنى الخَرَاب: هل يُلدغ المؤمن من ثقافةٍ مرتين؟!

سامي عبد العالتقديم: مع حروب الارهاب وتدخل الدول الكبرى في غير دولةٍ عربية ومع نشوء الصراعات بين المذاهب والطوائف، طفحت مجتمعاتنا العربية الراهنة بنيجاتف أسود لأكثر السيناريوهات قتامةً في تاريخ الثورات السياسية. أي ظهور معاني هذا الخراب الكامن في تدوير الأدمغة ثقافياً كتدوير النفايات waste recycling، رغم أنَّ أصحاب هذه الأدمغة كانوا يحملوا ألقاباً ثورية: هذا الناشط الثوري فلان، وذاك المُشارك السياسي فلان، وبخلافهما الخبير أو المحلل أو المجاهد عِلّان ... إلى أخر القائمة التي تجيئ وتذهب على شاشات التلفاز وعبر الوسائط الإلكترونية.

ولم يكن هذا الوضع على مستوى الأفراد فقط، بل طفحت الأحداث الارهابية بأسماء لافتة مثل: دولة الخلافة في العراق والشام  (داعش) واحياء الدواوين بمعطاها القديم زيادة إلى كم العنف المضاف إليها: "ديوان القضاء والمظالم، ديوان الدعوة والمساجد، ديوان الجند، ديوان بيت المال، ديوان التعليم، ديوان الزراعة، ديوان الفيء والغنائم، ديوان الحسبة، ديوان الزكاة، ديوان الأمن العام، ديوان الإعلام المركزي، ديوان الصحة، ديوان الركاز  (الأموال الدفينة من الذهب والفضة والجواهر في أرض الكفار)، ديوان الخدمات".

وتلك الأسماء هي تخريب استعاري مضمر على مساحة شاسعة من وعينا الحياتي، فلن يدرك المواطن العادي أبعادها مباشرة، لكنه ربما يعيش تحت دلالتها أثناء الممارسات السياسية بإعدام الواقع نفسه. وهذا ما رأيناه أثناء الاحداث الارهابية مع مواطني العراق وسوريا تحت حكم الولاة.  فرمزية الخراب التي اقتحمت العمران في دولة الخلافة الداعشية كانت بمثابة " شطب لاهوتي عنيف " لما تم التعارف عليه في حياة الناس، بحيث تسير هذه اللغة التي تدمر الأفكار وتهيل عليها التراب جنباً إلى جنب مع حُروب ناشبة على الأرض.

وفي هذا الإطار كنّا نرى خليطاً بشرياً مهوشاً من النشطاء والثوار والمتمردين ورجال الدين وفقهاء السياسة ومجاهدي الجماعات الاسلامية. حتى أضحت دول سوريا وليبيا واليمن والعراق قبائل متحاربة في صحراء ممتدةٍ، لا يحميها من نفسها إلاَّ موت الواقع عن بكرة أبيه. موت مدمر يحرق ما يقابله من أخضر ويابس. لا تعرف من الفاعل ولا من المتآمر ولا من الخفي ولا من الظاهر ولا من يحمى هؤلاء جميعاً، لكن باتت النتائج الحاصلة محتومة بغسقٍ لا فجر له (وبخاصة حالتي سوريا وليبيا). على طريقة القول في الأمثال الشعبية: "موت وخراب ديار". فرغم أنَّ الموت نهايةٌ عند نقطة معينةٍ سوى أنَّ المثل أورد الخراب باعتباره ظاهرة في مشاهِد الموت والدمار ومحو آثار الحضارة. أي الصور البشعة لما فعل إنسان الربيع العربي في مجتمعاته كضربٍ من المحاق المُظلم.

إنَّ الخرابُ ليس مُعطَّى مادياً وإلاَّ لتجنبا الاقترابَ منه، وبالمثل ليس فكرةً لأنَّه لا منطقَ محدد له. هو ظاهرةُ احتضارٍ خلال الغسق الثقافي للمجتمعات بفعل صراعُ لا يُبقي ولا يذر. إذ تسُود أنواعُ الفوضى وصولاً إلى ما تمَّ تسميته بالفوضى الخلاَّقة التي اطلقتها أمريكا بالمنطقة. والفكرة ذكرها ابن خلدون بصدد أن الخراب يقترن بالعرب مع سيادة أعمال الصراع والغلبة، حيث يقول صاحب المقدمة: "إذا تغلَّب العربُ على أوطان أسرَعَ إليه الخرابُ" ([1]). مما يدعونا للتساؤل:  لماذا ترجمَ ابن خلدون المعنى إلى ظاهرة الخراب بينما هناك كلمات أخرى للبيئة باديةً وحضراً؟! وبنقلة فلسفية معاصرة أخرى: هل يمكن اعتبار الخراب (طبقاً لإدموند هوسيرل) وجهاً فينومينولوجياًphenomenological لحياة الإنسان؟

مبدئياً علينا إدراك أنَّ جملة ابن خلدون السابقة في حدود " التاريخ الممكن". فهي ليست تخييلاً ولا مستحيلاً ثقافياً. من هنا لا يكتب المؤرخ إزاء الظواهر إلاَّ بإمكانيةٍ إنسانية تُجدِّدُ عودتَّها. ذلك الدهليز السري  secret vestibule الممتد في حواشي الثقافة  كما دلل كتاب "ديوان المبتدأ والخبر..". حيث أخذ يرسم الوقائعَ واضعاً الوعي بمساحةِ الفعل أمام نفسه. فالبصمة اللغوية للتاريخ هي أخذ العبرة والمثل مما قد حدث في عصر من العصور. وهذا يشي باحتمال تكرار ما نعتبر منه. فأيُّ عصرٍ له مبتدأه وخبره دونما نفي (دونما قطيعة) لسوابقه مقارنة بما يتتابع من أزمنة. وبذلك يتوحد بالصورةِ العامة للخيال ثقافةً ورؤيةً، لأن الزمن موصول الحلقات، وقد يحدث بصورة جادة أول مرة كما يقول هيجل ثم يكرر ثانية بصورة ساخرة وهزلية!!

على جانب آخر، يرى هوسيرل أنَّ الخيال phantasy  (imagination) يلعب دوراً رئيساً في معرفة الأبنية الماهوية للتجارب والخبرات. ففي الذاكرة والتوقع والإدراك نعِي الأحداث كما لو أنها توجد الآن أو موجودة في الماضي ثم توجد في المستقبل. من ثم يناقض هذا الفعل رؤية الأشياء كمعطى عيني أو فردي، إنَّه يعبر عن أشياء متخيلّة ([2]).

المهمة السابقة تُبرز الكتابةَ حول هذه الموضوعات باعتبارها تاريخاً داخل التاريخ، كأنها تاريخية التاريخ historicity of history. إنَّ توسطاً للوعي إزاء الخراب (اللاوعي) يتحين من القارئ ترقب الدلالة في الأحداث والظواهر. فالخرابُ ليس انحطاطاً مكانياً ولا غيره بالنسبة لفاعليه لأنهم يمارسونه بعناوين مقبولة لديهم. هو يحمل الأثر والاسم، الزمن والحركة معاً. إذن نحن نحتاج إلى اقتناص تأويلِّه عبر هذا التَّوسط الفلسفي.

إنَّ الخراب إذن هو ذلك الجانب الفينومينولوجي من الأحداث؛ أي تجسُد الظاهرة داخل وعيٍّ راصد لما يجري خلال تاريخ ما. ولسوف يجري الوعي بوصفه جمعاً لا فرداً هذه المرة بحكم المشاركة فيه تحت مظلة ايديولوجيات وأفكار. فلدينا أكثر من وعيٍّ داخل وجودنا الإنساني. وهذا يجري بطرائق الثقافة كفضاءٍ متراكمٍ للغة والخطابات المتداولة. الفكرة الطازجة رغم أصدائها القديمة: أنَّ الخراب كشكلٍّ للاوعي يمثل وعياً خلدونياً متواتراً ضمن زمن العرب الراهن.

تأويل الخراب

الخراب أثر زمانيٌّ ومكانيٌّ فاجعٌ نتيجة التدمير الحاصل، إنه عتمة لكارثة انسانية تحل كالقبح الظاهر، فلا ينفصل عن صورةٍ هو تاركها بشكل مزرٍ. لذلك فالأسئلة الحيوية فلسفياً إزاءه ليست: من أحدثَ هذا؟ إنما: ماذا حدث (ماهية الحدث نفسه)؟  كيف لعقل عمراني أنْ يتصوره؟ لماذا هذا الجنون المكاني؟ كيف نفسره على مستوى الثقافة؟ فالمكان ليس ثابتاً كمادة جذرية للوجود ولا هو كذلك كمتغير فيزيائي يستوعب الفعل وإحداثياته. المكانُ ذو بعد مصيري يرتبك برؤى الحياة والعالم بطبيعة الحال. إنَّه جزء من خيال على مرمى البصيرة مهما تنقلنا في جوانبه. فقد يكون المكان كراهية، وقد يعدُّ المكان حباً، المكان جنوناً، المكان لاهوتاً، المكان تحرراً، وأخيراً المكان جسداً وكائناً في شفرات الوجود باصطلاح كارل ياسبرز.

إذن المكان عميقٌ داخل الإنسان بكلِّ منظوراته. لا يقعُ بمنأى عنه وإلاَّ لما قطن الإنسان موضِّعاً دون غيره ولما أخذه الحنين إلى ترابٍ بخلاف الآخر. فالحياة هي المكان داخل النفس لذاتٍ تعي مصيرها. وصراعات المجتمعات المعاصرة ترجع إلى شكلٍّ جيو سياسي لهوية الأمكنة. إنَّها صراعٌ حول عمران وخرابٍ من نوعٍ ما.

ابن خلدون يُدرك حساسيةَ الثقافة العربية للمكان باعتباره جحيماً بلا أملٍّ. إذا تأملنا دول الاحداث السياسية الراهنة  (اليمن وسوريا وليبيا والصومال) لوجدنا الخرابَ قد تحولَ إلى فعلٍّ سياسيٍّ يوميٍّ. لكن ظلماً بيِّناً استئثار تلك الدول بظاهرة تاريخيةٍ كهذه بخلاف سواها من الدول. هناك أنظمة خرابية أكثر حداثة في دولٍ عربيةٍ أخرى. فلم يكُّن الخرابُ مرحلةً لينقطع ظهورُه، ولم يوجد جغرافياً كي يتحدد في بقعة دون غيرها.  الخراب كوعي يوجد بصيغ مختلفة ويتداعى بكم صغير أو كبير بحسب الشروط المتوافرة لوجوده.

الآن ظهر للخرابُ تداعٍ جمعيٍّ ([3]). فالمؤسسات حين تخادع المواطنين هي ألة خراب. الخطاب المزيِف للوعي أحد مظاهر الخراب. عبارات التكفير المنتشرة إيقاع للخراب. سياسات القهر والاستبداد هي برامج خراب. التعليم بلا ابداع تخريب لقدرات الإنسان. أما تجلي اللغة فأبلغ أثراً مثل: "الخرابة"، "التخريب"، "عمل تخريبي"، "الثورات كمعادل للخراب"، "هدم المنشآت"، "نهب المنازل والأحياء"، "اختلاس المال العام"،" تفجير السيارات"، "قتل الأطفال"، "صور الذبح الديني"، "الصراع الطائفي"، "تكفير الآخر"، "أسواق السبي"، "تجارة الرقيق باسم الدين"، "نكاح الجهاد"، "الاغتصاب الجماعي"، "الجماعات الإرهابية"، " اشغال الشعوب بالتوافه"، " تعطيل الديمقراطية وقيمها".

هذا ما يجعل الخرابَ أكثر من مقولةٍ مكانيةٍ في حياة الناس. إذن هو مقولة تُنطق على أنحاء شتى سياسياً وأخلاقياً ومعرفياً ودينياً واجتماعياً. هذا الانحراف جزء حيوي من التنبؤ الخُلدوني القديم وطبقة أساسية من انفلات الوعي تجاه تبعثُر المعاني كشفاً لتراث الثقافة العربية.

الخراب والروح

لا يخلّو الخرابُ من تدمير روحيٍّ يُحول أصالةَ الحياةِ إلى سرابٍ. هو إحساسٌ مميتٌ بإظهار الوجود في حالة عدم إن صح التعبير. فالخراب والعدم يتقاطعان لحظة الضياع الروحي لمعاني الإنسان. نوَّه هيدجر إلى كون القلق يترك انياب العدم تنهش جسد الحياة التي نحياها داخلنا، هذا الرعب من تلاشي الحقيقة. الخرابُ صنفٌ نادرٌ من القتل الغسقي لمضامين الوجود. ليس الخراب موتاً لكنه تجلي الموت. لهذا قد يحل بكل غثيانه عقب الموت بأنواعه. موتُ البشرِ، موتُ الشجرِ، موتُ الطبيعة، موتُ الزمان، موتُ الواقعِ. وحدُّه التاريخ يبقى حياً شاهداً على ما يحدث إذ يدوِّن (هذا الفعل العربي البارز) يشاهده البشر. في الثقافة العربية ما أكثر التدوين (كتب الحوليات والاخبار واليوميات والآثار والسير) لحروبٍ أبقت مجتمعاتنا خراباً فوق خرابٍ. لن نعي ذلك حتى ندرك كم كان الخرابُ قريناً لغرائز الصراع التي لا تغادر مكانّها.

ليس الخرابُ عكس العمران. فإنْ كان كذلك، لأنهى وجود وانتشار الأبنية الحداثية الشاهقة رجُوعه المتواتر ([4]). قال المسيح ماذا يُجدي لو كسبت العالم وخسرت نفسك؟! الخراب يسكُّن هذا الروح كطيفٍ شرير يتطاير هنا أو هناك. لعلَّه الخسران لأخص ما يملكه الإنسانُ؛ أي الطابع الروحي الثري الذي يجعله إنسانا بملء الكلمة. ولهذا يعتبر الخراب عملاً قصدياً. توقيع القرآن للمسألة واضح تمام الوضوح:" الذين يخْربون بيوتَّهم بأيدِيهم". فما لم تضع روحُ الشر حدّاً للحياة ما كان ليسمَّ خراباً بضربة دلالةٍ عميقة. والعبارة القرآنية تقرنُ التخريب بفعل انسانيٍّ قيد الأيدي وكأنَّه ضد الروح المُنتِج.

من زاويةٍ أخرى لا يتم الخرابُ بغير تدخل الجانب النفسي كهذا الوصف الذاتي لعمل اليد ضد الذات. والبيت والبيوت (والمدن) عمرانٌ من نوعٍ آخر رغم إبقاء القرآن عليه كمصطلحٍ. فالبيوت الخربة هي المسكونةُ بأرواحٍ وكائناتٍ شريرةٍ. من ثم احتفظت اللهجةُ الدارجةُ بألفاظ الخرابات وهي إطلال المدن. وقد استعملها الخيال الروائي لنجيب محفوظ كاشفاً بنية المجتمعات والعلاقات الإنسانية. فالخرابة تماثل اللاوعي الجمعي في رواياته التاريخية. منها تنطلق الأفكار الشاذة وتشرئب الرغبات بحثاً عن الإشباع ويجري خلالها السلطة مع أعدائها. كما لا يغادرها المتآمرون لتدبير المكائد وإحداث الفتن وهي مكان هامشيٌّ للمجون ومعاقرة الملذات. وبالتحول الاجتماعي تُتخَّذ الخرابات موضعِاً للشحاذين واللصوص والعاهرات.

أمام هذا يكشف الخرابُ معاني السكن، البيت، العلاقة بالمصير، الوعي الذاتي بالمكان. جميعُ ذلك ظلال روحية لما ينتجه الفعل الإنساني إجمالاً. وهي قضايا متعلقةٌ بالعمران بوصفه انطلاقاً للروح داخل وجودِّها الحميم. لكن كان الخراب احياناً بالطابع العربي  يمثل فوضى المكان، كان هديراً لرغبة افناء الآخرين. إنَّ الخراب أسلوب للإنسان الآتي على رأس الانحدار الثقافي نحو الهاوية. يصبح الخراب بالنسبة إليه موضوعاً لمقاتلة خصومه ومحاربة المجتمع وترك أفعاله وسط ذاكرة لا تُنسى.

في الثقافة العربيةِ كانت الذاكرةُ الشفاهية قدرةً للاحتفاظ بالأحداث والأخبار كعلامةٍ صارخة بقوتها. حتى أنَّ التأريخ  الماثل أمام الوعي كان يظهر المصيرَ حدثاً غرائبياً غير مسبوقٍ. لا يجب اغفال (على سبيل المثال) تعبير "عام الفيل"، التعبير الذي وثقَّه القرآنُ بسورة الفيل بادئاً بالانتباه إلى ما فعله الله في أصحاب الفيل حتى جعلهم كعصفٍ مأكولٍّ. وظلت التواريخ تذكر عاماً كهذا للتدليل على الميلاد والموت كحال التأريخ لمولد رسول الإسلام.

ومن قبل تحدث القرآنُ عن إرمَّ ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد، فصب الله عليهم سوطَ عذاب. وأورد أخبار الأمم السالفة التي أهلّكها بالريح كأعجاز نخلٍّ خاويةٍ.  وكم أخذت الذهنيةُ العربية السائدة بهذا الوضع التصويري الفاجع. فاليقين لا يجرى دون كونَّه نتاجاً قيامياً (نسبة إلى القيامة). ولهذا تحتل علامات الساعة مساحةً ليست بالقليلة في خطاب الاسلاميين لإتمام تصوير المشاهد إلى مداها البعيد.

الخرابُ انعكاس لهذه الحقيقة السيمائية في الذاكرة التي كونتها النصوص الدينية واكدتها بلاغياً وسردياً كتب الرحالة والمفسرين والفقهاء. فصور الخراب نقش عدمي تمثل ظاهرة للاوعي صراعيٍّ عميقٍ تجاه الأغيار. وهو نتيجة مراس من الحروب وأعمال العنف يشتَّد قوامُها كمعطى تاريخيٍّ في تطبيق الأفكار وتحول المجتمعات. كأنَّ الحرب، الغزو، لا تكون تأريخاً إلاَّ إذا دُمغت زمنياً بفضل مصيرها المحتوم. ونظراً لأنَّ الذاكرة الشفاهيةَ تشكلُّ عالماً وخيالاً يجب حفظهما، فكانت آثار الغزو والغلبة على ذات الصعيد.

توحُش الخراب

الحيوان دوماً لا يُخرِّب، لكنه يأكل فقط. حيوانية الحيوان فوق الشبهات المكانية الساخرة التي يتركها الإنسان. إنَّ سُكنى الحيوان لا تولِّد أفعالاً أبعد مما يشتهي ويترك من حياته. فالحيوان  بمثابة رابط طبيعي بين طاقة نامية كان يسميها اليونان الفيزيس (الطبيعة) physis وبين كائن يجسدَّها. بينما عند استغراق الإنسان في عملٍ تخريبيٍّ يأخذ الأخير صفاته الخيالية كرغبة تدمير ليس إلاَّ. الحيوان يُعدم ما يُجده لتحويله إلى هكذا طاقة حياة لكونه مأخوذا بالغرائز. في حين أن الإنسان يسعى لإعدام الحياة بجميع ممكناتها نكايةً وثأراً في الآخرين. فالجانب الافتراضي لديه قائم على جنوح الخيال وجنونه.

بالنتيجة فالإنسانُ أكثر توحشاً من الحيوان، الحيوان يتوحش بالطبيعة على ما طبع عليه. فالطبع يغلب التطبع إذا افترضنا ذلك. أما الإنسان فتوحشه يجري تكلفاً وإمعاناً في العدوانية. لذلك يتفنن بتقنيات ابداعية في القتل وإراقة الدماء كما رأينا لدى الدواعش. ومن ثم فالحروب بأشكالها الأيديولوجية ما هي إلَّا تقنية خراب خارج الزمن.

توثِّق قصيدة الخراب ت. س. إليوتEliot  هذا الطابع السديمي للعدم. إنَّها الأرض الخراب waste land the، جفاف الحياة حتى نضوب المعاني ([5]). فالمعنى وسط اللهاث البشري أشبه بظلال وسط الشمس، لا يوجد بدائرتها أدنى راحة من هجير الزمن. كان العبث حاضراً مع عصر راهن لا يقوى أُناسه على الصمود. فعقب الحرب العالمية الأولى وحده كان نعيق الخراب هو صوت الموت، صوت يعلن عن تقزز بملء الحياة. وتلك الحرب العالمية قزمت  فضاء الكون حتى حُشر في فوة بندقية. خرجت الأسلحة بين الدول الأوربية لتصم آذان العالم، لتصدم كل مبادئ التعايش والسلم والحرية التي روجتها الفلسفة الحديثة والمعاصرة. كانت قصيدة  إليوت الارض الخراب بمثابة رصاصة حداثية لمواجهة فوهات القتل العالمي التي لا تكف عن الدمار. لدرجة أن المدن الاوروبية بعبارة جيمس تومسون Thomson  كانت ذات ليل قاتل ومرعب deadful night ([6]).

لا شيء هنالك سوى المقابر، كومة التراب التي تحوي الإنسان وتمتص جسده مرة ثانية وتتكفل بإعادته إلى ذرات بالية. وهو ما رأيناه مؤخراً كشأن ربيعي عربي مع ثورات سياسية في تاريخ الشرق. فلئن كان ثمة ما يميز الحراك الثوري في تلك المساحة من العالم، فهم قوافل الموتى ومشيعوهم. هناك تطابق بين حروف التراب والخراب!!. ومازلنا نردّد" كل ما فوق التراب تراب"، فهل يعني مضاعفة الخراب؟ هل الخراب هو ارجاع المكان إلى حالة ترابيةٍ نتيجة الموت؟

من ثمَّ تمثل الصور السياسية للثورات لدى العرب المحدثين كفناً مزركشاً لجثث يومية. وهذا ما نراه بالأمس القريب والآن، عندما تحولت ثورات المجتمع العربي إلى ظاهرة الجثث. ليست حروباً بالمفهوم التقليدي. لكنها إطار لطقوس الموتى، كان أبرزها توديعهم تحت بروتوكول ديني سياسي. إنَّها سياسات الجثث المحمولة باسم المقدس أو باسم الدولة أو باسم القبيلة والعشيرة والطائفة والمذهب.  لقد غدا الوضع العربي "جنازة حارة" بينما الأكفان أُناسٌ عابرون على قارعة السياسة.

ولذلك ظهر لدى الاسلاميين تعبير "إدارة التوحش" ([7]). وهي إدارة الفوضى الطاحنة الناتجة عن غياب كل أشكال الإدارة إلاَّ القوي الارهابية الحركية. التَّوحش يُسقط مجتمعات ودولاً بينما يفترض إدارة أكثر قسوةً. وهنا الرابط بالخراب الذي سيكون مترقّباً عن كثب.  كيف يطلق البعض لفظ إدارة على قضية لا موضوع لها؟!

إنَّ إدارة التوحش كما يستعمله الارهابيون وغيرهم لونٌ من استراتيجية الخراب، إدارة الخراب في المجتمعات. فلا معطيات اجتماعية، ولا إمكانيات سياسية، ولا قوى تنموية، ولا انتاج بجميع أصنافه. ومع هذا يكِّد هؤلاء الارهابيون في ايجاد صيغة لإحلال الفوضى. والأغرب زعم (الاسلاميين) أنَّ التوحش خطوة لتحكيم شرع الله. لو كان ابن خلدون حياً لاعتبر ذلك تدميراً لمقاصد الشرع. فثمة انتهاك لأي معنى خاص بالدين، إلاَّ من قتلٍّ واستباحةٍ وتأسيسٍ لدين مغاير.

إذا كان التَّوحُش البدائي سلفاً تمَّ بانعدام التحضر وجريان الصراع الدموي، فإنَّ التوحش حالياً يجري باسم الخلافة. وبدلاً من "الفوضى الخَلاَّقة" يمكن اعتبارها "فوضى الخِلافة". فالاثنتان تؤديان الوظيفة نفسها حيث يتحلُّل الارتباط بالواقع كتحلل الجيف. لأنَّ تفكك المجتمعات لا يتم بتغيير الإدارة أو كما أُشيع "اسقاط النظام". لو كان الأمر هكذا لما قال ابن خلدون عبارته الثقافية السابقة. فكرة الخلافة تعمل على بنية المجتمعات وأنسجتها الحية. ليست الخلافة لافتة فوق جسد اجتماعي قديم، إنما يجب تغيير القوانين الثقافية والرمزية التي تحكم هذا الجسد.

المشكلة أن انفكاك الجسد الاجتماعي يجهز على قدرات الافراد والجماعات ولا يترك لها أية مساحة للتطور والنمو. لأنَّ انهاكاً لا حدود له يستغرق جميع ثروات المجتمع المعرفية والوجودية والثقافية. لدرجة أنه يُسقط كل رأسماله الرمزي في هوة لا خلاص منها. وفي ظني أن ابن خلدون يقصد بالخراب هذه الإبادة الإنسانية والحدية للمجتمع. وتلك المسألة يطرحها الاسلاميون بمنطق خلقي؛ أي يحاولون خلقَ المجتمع خلقاً مغايراً متناسين موروثاته وأساليب وجوده. وحين يفشلون يفجرون أفرادَّه في عمليات انتحارية ويدمرون المدن والقرى. والتعامل مع ذلك بالإبادة المادية معناه فقدان الوجود النوعي لثراء الإنسان.

الخراب والثقافة

الخراب – كما يرى ابن خلدون- ناتج عن حالة البداوة وهي جذر نبتت عنه ثقافتنا العربية ويحتاج إلى نقد متواصل. فالترحال لا يحتفظ بالعمران حياً، لكنه يمر مرور السحاب. وهو يستهلك الوجود استنفاداً لما يجود به المكان سواء أكان واحةً أم كلأً أم ظلالاً للإنسان.

الثقافة البدوية ثقافة عابرة للجغرافيا وللوعي معاً. تضاريس وجودها سطحية وقائمة على سفوح الحياة والمعاني. تتعامل مع الأشياء عبوراً إلى غيرها. لا تستقر في المكان ولا الزمان، بل قد يصبح المكان نهباً للمصادفة الأولى أو الثانية. ولأنَّ ذلك يُفقد فاعلي الثقافة قدرتهم على التكَّيف (بالتالي التطور)، فيغدو المكان لا قيمة له. إنَّه مجرد استراحة مؤقته لتناول ما يسد الجوع والرمق وبعدها يذهب الزائر إلى مكان مغاير.

كما أنَّها ثقافة تعتبر الاستقرار صنفاً من الجمود وداعياً إلى الملل الحياتي. هي بهذا تعلن عن أوليتها الوجودية. فالإنسان قد ينفك من الأنظمة الحياتية المركبة عائداً إلى حالته الطبيعة. هذا رغم أنَّ بها (أي الثقافة البدوية) أنظمة رمزية معقدة تملأ خيال أصحابها برؤى للكون والمجهول والحياة. إن حالة الطبيعة هي الدرجة الصفر للتعامل مع الأشياء. وابن خلدون يرجع بها إلى عدم إدراك ثقافي لمعنى التحضر. وكأن الحضارة التي يعيش في كنفها الإنسان ضروب من المعاني المتراكمة على جسد الطبيعة. حتى أن الخراب لا يأتي إلاَّ إذا كان هناك مَنْ لا يجد أية قيم في هذا التراكم. وبالتالي بآلية التفريغ الثقافي يُجهض هذا الوضع جميعَ الطباق الثقافية من مضمونها.

فالبدويُّ لا يزن عادة الأشياءَ بميزان التَّحضُر؛ أي القيمة  الثقافية والرمزية المضافة للأشياء وفاعلية التقنيات والأنظمة. لكنه يحاول تعريتها هيكلاً وبنيته. الخراب يُشابه هذا العُريَّ الثقافي للأشياء. عُري هو الجسد الخشن للتعامل مع الواقع حتى غدا آلية وسياقاً. وهذا لا يعني أنَّ عالمَ البدوي غير مسكون بالأخيلة. لكن تذهب الرموز وراء هذا اللا معنى في انتاج صور العالم. لأنَّ تلك التصورات البدوية تستغرق (تستنفد) نفسها في فوضى الأفعال.

هنا سوف يصمت الخرابُ كصمت المجهول. فالأماكن الخربّة مهجورةٌ، شبحيّةٌ، قادمةٌ من الماضي المخيف. أبرز معالم الخراب هذا المسخ المكاني الذي ينتج دلالات ثقافية أيضاً. ففي كل الأحوال ثمة تشوّه لا يكف عن الحضور. والمجتمع الذي لا يعي حقيقة التشوه سيقع في أحبولته آجلاً أم عاجلاً. لكونِّه ينعكس كنمطٍ للحياة البشرية القاسية. ورغم ذلك قد تكون مُريحةً لدى البعض بقدر ما  تسلِّبُ العقل وتميِّعُ المعايير!!

لهذا قد لا تشعر الثقافة البدوية بأهمية المعايير من الأساس. فالوعي لدى التصور البدوي مرايا مسطحة مثل الصحراء وسط غبار ثائر كالرمال المتطايرة. وإنْ استقرت مفاهيمٌ فلا تخلو من سراب الأبعاد الغائمة الدافعة للمزيد. والأفكار حول الأشياء مفتوحةٌ وغيرُ منضبطةٍ كمفردات البيئة الصحراوية. والبدوي لا يدرك قيمة الأشياء لأنَّها تترسخ  فقط مع ذهنية الترحال اليومي. لدرجة أنَّه يقف صلداً وقوياً تحت التقلبات المُناخيّة بينما يضجُ بالأنظمة المعمارية التي تقيه ذلك. ولذلك من سوء قدر الفكر الاسلامي التاريخي أنه اختلط بهذه التصورات في السياسة والعلاقات الاجتماعية.

بُومة الخراب

بومةُ الخرابِ تُشبه بومة منيرفا اليونانية. بومة منيرفا تنعق - كما يقول هيجل- محلقة وقت الغسق لاستنهاض الحكمة. "عندما تصور الفلسفة جوهرها ظلاماً في ظلام، تغدو الصورة الوحيدة للحياة باليةً، ولا يمكن تجديدها بواسطة العتمة، فقد تصبح موضوعاً للمعرفة بما هي كذلك. إنَّ بومة منيرفا Owl of Minerva تأخذ في التحليق حينما يخيم الظلام" ([8]).  في حين تنعق بومة الخراب نظراً لأفول الحضارة تحت جحافل التخلف.

وابن خلدون في سياقه الثقافي يترك هذا النعيق يرسم خريطةَ الوجود البشري وأحوال الناس تجاه خراب العمران. فليس الاثنانُ واقعين على طرفي نقيض، لأنَّه لا عمران في جوهره بلا خرابٍ. وهذا لا يتأتى إلاَّ بمنظورٍ أوسع للعالم وحركة الإنسان؛ أي الحكمة البعيدة وراء الأشياء. يتعرض هوسيرل إلى تلك القضية داخل رؤى العالم weltanschauung. وهي فلسفةٌ مشروطةٌ بقيمة الحكمة والكفاح من أجلِّها. حتى يمكن اعتبارها هدفاً في ذاته. وبالمعنى الواسع للحكمة تعدُّ عنصراً أساسياً في قدرتنا القابلة للإنجاز achievable المتعلقة بالجانب الشخصي من الحياة الإنسانية. وخلالها يستطيع المرء الكفاح لأجل شخصية ممكنة عالمياً بقدر انخراطه في توجهات أساسية للحياة تنسجم مع أنماط المواقف الممكنة ([9]).

يعتبر ابن خلدون العمران تحضُراً بينما الخراب حياة معكوسة ومقلوبة. ففي أعماقه يكتم  الخراب موتاً صريحاً عن التحدث بوضوح. لكن ماذا لو تحدث؟ هنا سيذكر ابن خلدون علَّة الخراب أنَّ العرب " أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم فصار لهم  خلقاً وجبلة" ([10]). ذلك أنَّهم –  كما يقصد ابن خلدون- تركوا الطبيعة المتوحشة تتمكن منهم فأصبحت عادةً وفعلاً. والعادةُ تهيمن وتغدو بديلاً للواقع، فيكون لها عوائد؛ أي تمثل قيمةً طاغية بأسباب الحياة. هذا يعني ذلك التحول الذي لم ينصرف تحضراً وتطوراً، بل تراكماً أصلياً. تراكم قشري يُخفي رؤى للعالم والإنسان من جنس أصولها الثقافية.

وحين يكون التوحشُ عادةً (أي ثقافة) يعتبره صاحب المقدمة شيئاً ملذوذاً لدي  أصحابه. ذلك أنَّه يجرى على نحو تلقائي مثل الغرائز والشهوات من حياتهم. فالمعروف عادة أنَّ الثقافة نظامٌ يكتبسه الإنسان اجتماعياً. لكن حين تتيح العادات والتقاليد رجوعاً إلى جذورها، فإنها تستحضر نفس الآثار التي تسببها. فهي مصدر اللذة والمتعة للفاعلين رغم أنَّها في ظروفٍ دون ظروفها وشروطٍ غير شروطها.

اللذة وراء التوحش والعادة تؤسسان لتفلت العرب من" ربقة الحكم وعدم الانقياد للسياسة. وهذه الطبيعة منافية للعمران" ([11]). هذا يفسر معنى الثورة في تاريخ العرب الحديث اتساقاً مع الماضي. لم تكن غاية الحراك الربيعي، التمرد، الثورة إلاَّ تملْمُلاً من الحكم لا لأهداف إنسانيةٍ كُبرى، إنما لأجل الترحال والتغلب (اخذ السلطة). فمازالت  جذور العصبيةُ تهيمن على ذهنية الجموع. فأقرب كتلة يكمن فيها هذا العماء تجاه الآخرين هي الجموع السياسية. وتمثل مسارتها رغبات كانت مشتهاة ومازالت لتنتهي بنهب وتدمير مؤسسات المجتمع وامواله.

ولهذه اللذة تجليات ثقافية تنعق بها بومةُ الخرابِ:

أولاً: شهوات البطن أولَّى من  قدرات البناء. يضرب المؤرخ ابن خلدون مثلاً أنَّ الحجر- بحاجة العرب إليه- لنصبه أثافي القِدْر ينقلونَّه من المباني ويخربونها عليه ويعدونه لذلك. نفس الأمر حيال الخشب إنما كانت حاجاتهم إليه ليعمدوا به خيامهم ويتخذوا الأوتاد منه لبيتهم فيخربون السقف عليه ([12]). أي أن العربي ينزع مظاهر الحضارة ليشيد بها راحلته أو ليصنع بها طعامه المؤقت. وفي هذا لا يقف الخرابُ حيادياً، إنَّه النقض الحي لبنية العمران، وحلوله ليس غير حركة مضادةٍ لتطور الحياة.

ثانياً: تفشي أعمال السرقة والنهب. يؤكد ابن خلدون على طبيعة انتهاب العرب ما في أيدي الناس. وأنَّ رزقهم الحلال كما يظنون في ظلال الرماح. وليس عندهم في أموال الناس حدٌّ ينتهون إليه، وكلما امتدت أعينهم إلى مالٍ أو متاع أو ماعون انتهبوه. هذا يعني ترصد  فكرة الخراب للمجال العام. فإذا كان الجانب الاقتصادي ليس مصُوناً، فلن يكون ثمة استقرار أو تطور. فتراكم الرأسمال العام أمر مهم ناتج عن وجود مساحةٍ واسعة للعمل والفعل. وحينما يتعرض لفساد سيكون هو المشهد الأخير لسرقة الممتلكات العامة. وبعض الثورات العربية الربيعية كانت مراناً على تلك الأصول التاريخية للنهب (كما نهبت مؤسسات الدولة في تونس ومصر والعراق).

ثالثاً: ضياع أهمية الأعمال والأشياء. ولأنَّهم (العرب) يكلفون على أهل الصنائع والحرف أعمالهم لا يرون لها قيمةً ولا قسطاً من الأجر والثمن. ومتى فسدت الأعمال وصارت مجاناً ضعُفت الآمالُ في المكاسب. وهذا يفسر راهنا غياب ثقافة العمل لدى مجتمعات عربية كثيرة. وحتى الدول التي تشهد ثراءً فاحشاً نتيجة النفط اعتبرها المواطنون بقرةً حلُّوباً بلا جهدٍ. وتفشت البطالة مدفوعة الأجر سلفاً. متناسين أنَّ العمل ليس اقتصاداً فحسب لكنه تطوير للذهنيات وتأكيد  من المجتمع لوجوده حضارياً.

رابعاً: انعدام العناية بالأحكام وزجر الناس. هناك فقط إغارةٌ وغلبةٌ لكن لا توجد قوانين عامة تحكم الجميع. وهذه هي المفارقة: إزاء الواقع العربي لم تتألف القوة الاجتماعية في قوة سياسية فاعلة، ولم تتبلور مؤسسياً على نطاق رحب. إنَّها الإعاقة التاريخية التي تعطل عمل المؤسسات بدرجات متفاوتة. ويرى ابن خلدون أنَّ العرب إذا فرضوا عقاباً فسيتعلق بجمع الأموال فقط وهذا محمول لتحصيل الفوائد والجباية والاستكثار منها. وذلك ليس ناجعاً في زجر المعترضين ودفع المفاسد. فتحدث الفوضى دون حكمٍ. والفوضى مهلكةٌ للبشر ومفسدةٌ للعمران ([13]).

خامساً: التنافس على الرئاسة واحتكار السلطة.  فالعرب قَلَّ أن يُسلِّم أحد منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته إلاَّ في الأقل وعلى كره من أجل الحياء، فيتعدد الحكام منهم والأمراء وتختلفُ الأيدي على الرعيةِ في الجباية والأحكام" ([14]). هذا التفسير الخلدوني لا يعلّل فقط، إنما يوضح كثرةّ الانقلابات في عصور السياسة المختلفة. وشيوع الديكتاتورية في تاريخ العرب الراهن فهي مبطنة بالاستئثار بالحكم. فلا تداول للسلطة إنما التغير يحمله ملك الموت مع وفاةِ  أصحاب الفخامة والسمو: الرؤساء والملوك والأمراء والسلاطين.

سامي عبد العال

......................

[1]- ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، الجزء الأول، تدقيق وتحقيق خليل شحاته، مراجعة سهيل ذكار، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت لبنان، 2001. ص187.

[2]- Edmund Husserl, Phantasy, Image Consciousness, and Memory (1898- 1925) in: Collected Works (editor: Rudolf Berent, Volume XI) Translated by John B. Brough, Springer, 2005. P 4.

[3]- الخراب يُسمى كذلك نظراً لكونه جمعياً. إنَّه يأخذ في الاتساع مثيراً أزمة لوجود الإنسان. وربما هو من تلك الجهة أكثر دلالة على حدوث خلل بنائي للمجتمعات. فالحادثة الفردية لا تؤثر إلاَّ بالنسبة لمستواها. وإذا كانت الحداثة تترك بصماتها على العمران، المؤسسات ومظاهر البناء فلأن الخراب جزء من التهديد الذي يترصدها. وكانت الحروب المتتالية (العالمية الأولى والثانية) إفرازاً لكمون الخراب في معابد العقل والحرية والمعرفة. من هنا كانت مؤسسات الحداثة (الدولة – القانون- العدالة- السلطة) كانت حذرة أيُما حذر تجاه الخراب. ربما وضعت ضوابط (كوابح) لحركتها خوفاً من الانحدار في هوته. والخراب بهذا المعنى ليس موضوعاً لأنه الحد الأقصى للحذر. لكنه مسألة أخلاقية تأخذ وضعاً أنطولوجياً. ويصعب معرفته دونما تعرية الجذور الثقافية والمعرفية التي يؤسس عليها كما يفعل ابن خلدون وكما أظهره اشبنجلر في كتابه انحطاط الغرب. فالانحطاط، الاضمحلال نوع من الخراب الآتي بقسوة الحضارة.

[4]- الخراب ليس طرفاً لثنائية عصية على التجاوز. لأنه تحول لشيء اسمه العمران يوصف داخله لا خارجه. أي لا يأتي الخارب عارياً من أي وصف سابق. إنَّه قيد الوصف الدائم كشيء مغاير للعمران وهذا يلقي على كاهله الدلالي بعداً تحويلياً. وهذه قدرته كمقولة على كشف حقائق المجتمع.

[5]- نص قصيدة " الأرض الخراب" مع بعض التعليقات والهوامش المهمة.

T.S. Eliot, Collected Poems (1909- 1969), Harcourt, Brace, World, Inc., New York, 1954. PP 51- 70.

[6]-  Lawrence Rainey (editor), The Annotated Waste Land with Eliot ,s Contemporary Prose,  (second Edition) Yale University Press, New Haven & London, 2006. P. 71.

[7]- أبو بكر ناجي، إدارة التوحش، أخطر مرحلة ستمر بها الأمة، مركز الدراسات والبحوث الإسلامية، بلا مكان نشر ولا تاريخ. ص ص11- 14.

[8]-  G. W. F. Hegel, Philosophy of Right, Translated by S.W. Dyde, Batoche Books (Kitchener) 2001. P 20.

[9]- Edmund Husserl, Phenomenology and Crisis of Philosophy, Translated with notes and an introduction by Quentin Lauer, Harper Torch Books, Harper & Row, Publishers, New York, 1965. P 133.

[10]- ابن خلدون المقدمة، ص 187.

[11]- المرجع السابق، ص187.

[12]- ابن خلدون، المقدمة، ص 187.

[13]- المرجع السابق، ص188.

[14]- المرجع السابق، ص188.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم