صحيفة المثقف

بولص آدم: عجائب وغرائب الدكتور أبو لؤي

بولص ادملم اهتم لجرح ما عندما كنت طفلا، بقدرما كان الذهاب الى مستوصف سكك حديد الموصل كابوساً! أعود الى بيتنا باكياً من شدة الألم، مُصاباً أُغادر الشارع الملعب المحاذي للخط المتري للقطار، يفصلنا عنه سياج قضبان خضر متراصة جنباً الى جنب طوال الخط.. سترسلني امي الى الدكتور، أمشي والخوف كظلي يرافقني، اقطع الدربونة الطويلة المحصورة بين جداري دفلى عاليين وزهوره الوردية سجادتان جميلتنا معبأتان بالبعوض الشرس الذي سيبدأ عند المساء غزواته الكبيرة، لكن أم الدخان، كفيلة بالفتك به وياويلنا في ليلة تحت خراطيم البعوض اللآسع لو لم تحضر سيارة تحمل ماكينة ضخ الدخان الثلجي الذي كنا نسبح فيه راكضين خلفه ونعود وزيت النفط يسيح علينا من الرأس وحتى القدم.. وعندما سقط عادل على وجهه حملناه نحن الأربعة كل منا ممسكاً بطرف من أطرافه، توجهنا لاهثين نحو المستوصف، لم يكن المضمد في مكانه، هممنا بلا وجل دافعين باب الدكتور، نهض من مكانه متفاجئا وتقدم نحو عادل الممدد على الأرض مغطى وجهه بدمه النازف من أنفه وجبينه، تكتف وتنفس بعمق ثم نظر الينا وقال:

- المفروض يا مقصوفين العمر، ان تأخذوه الى المحروسة أمه اولا، لتغسله بالماء والصابون، بياع النفط هذا!

يتوسط المستوصف حديقة جميلة، يسيجها الآس وتظلل مبناه المرفرف أعلاه علم، اشجار سرو وصنوبر عاليات..

يستقبلنا مضمد يسجل الاسم ويعطينا بطاقة صغيرة مشيراً الى غرفة الطبيب وكان وجه المضمد مرسوماً عليه كل مرة عبارة: انت ثانية؟!

أما الدكتور أبو لؤي، فكان على كرسيه الدوار جالساً دوماَ، ظهره نحو الباب ووجه نحو الحائط حيث اللوحة التي ينتصب فيها الهيكل العظمي للأنسان، وخيط الدخان يتصاعد من سيكارة على منفضة فوق المنضدة، يستدير نحوي وكأنني ارتكبت جٌرمَ قطع افكاره ويسألني نفس السؤال الذي فيه توبيخ، بأننا نركض كالعميان ونصدم بعضنا البعض اثناء الجري خلف الكرة قبل ان يعدل كرشه الشبيه بالبالكونة ويسعل مرتين وهو يكتب المرهم اللازم لتضميد الجرح على الركبة او الذراع او القدم، هو نفس المرهم القرمزي..

نلعب الكرة على الاسفلت الصلب ساعات طوال وتنتهي المباراة بجرحى دوماً. ذات مرة كنا ثلاثة معاً، اتخذنا طريقنا نحو مستوصف السكك، وكان علينا المرور من امام مركز الشرطة الذي تدل عليه كابينة خضراء، جالساَ ينام فيها شرطي من شرطة السكك الكسالى الذين يسكرون في الليل ووجوههم في النهار يعلوها التثاؤب، والبيريات على رؤوسهم بشكل سفائني، منزلقة اما على الجانب او متدلية الى خلف بين الأذنين، سمعنا صوت صافرته، أمرنا بقف، أشار الي وقال:

- أيقظتني من نومي أمس، ماراً بنا بغنائك بصوت عالٍ، ماهذه الأغنية الغريبة؟

- آتيوت غازلا بي طورا وبريا (انت غزالة الجبل والبرية..).

- امشي وَلّي مع جماعتك المُكَسَّرين. الغناء ممنوع حوالي مركز الشرطة!

ضحكنا رغم آلامنا المبرحة وكالعادة سنصل غرفة الدكتور وسنتلقى على يد المضمد الطيب لطخة مرهم من علبة كبيرة يمسح بها جروحنا بسكين مفلطحة تشبه مالج البناء، ونحصل على مخروط ورقي ابيض يحوي اقراصاً بيضاء وهي نفسها كانت تُسلم للجميع، أنفلونزا او معدة أو الآم اخرى، هي هي نفس الحبوب وحبة واحدة ثلاث مرات في اليوم..

رغم أن والدي كان يصف كل إنسان بالطيب بالفطرة وخاصة الكبار الذين كان يردد دوماً بأننا يجب ان لا نلتفت الى شئ سئ فيهم بقدر التعلم منهم. إلا ان الكيل قد طفح عندي وقصصت عليه حكايات ووقائع استقبالنا المتجهم من قبل الدكتور وبتنا نخاف الذهاب الى المستوصف..

- عيني عليكم، هل شتمكم أو ضربكم؟

- يا أبي، لم يضربنا أو يشتمنا، لكن...

- لكن ماذا؟ هو يعرف شغله، ثم انه درس الطب في لندن..

ولندن هذه لم تكن تسقط من فم لؤي ابن الدكتور الذي يلعب معنا، يتحدث عن والده في استراحات بين سويعات اللعب الضاري، جالسين تحت فيء شجرة التوت:

- والدي أعظم طبيب في العراق والرئيس طلبه كطبيب خاص فرفض وفضل مستوصف السكك، فلماذا لا تشكرونه بدل ان تتشكون من معاملته لكم.

- هل صحيح ان الرئيس ....

- حقكم، أنتم كالعادة لا تعرفون اي شيء عن اي شئ!

يكبرنا لؤي بسنوات وكان شئ طبيعي ان يلعب معنا من هو أكبر منا، فابن الفورمان صباح، طالب متوسطة يلعب معنا الدعابل

- انا لؤي.. تعرفون بأنني لا أكذب، أبي ليس بحاجة لفحص المريض فبمجرد النظر الى عينيه، ينطبع اسم الدواء في دماغه

- قبل ان تأتوا الى هنا، اين كان والدك يعمل؟

- أوووووه، الم أقل انكم لا تعرفون.. والدي فعل المعجزات لجرحى الحروب، اعاد اذرعاً مقطوعة الى مكانها، وأحشاء مندلقة الى مكانها وأخاط بطونهم، وليكن في معلومكم، لو لم نكن في سرسنك، عندما فصل السلك الكهربائي المتقاطع عمودياً مع السكة، رأس الجندي عن جسده المنتصب على دبابة، تحملها عربة يسحبها القطار الآتي من بغداد متوجها الى سوريا في حرب تشرين، حتما كان ابي سيجد حلًا!

كنا نسمع هذه المدائح والعجائب فاغري الأفواه، الا أن عبير، سأله:

- يعني، هل والدكم، مَسيح؟!

- أوووووه انظروا ياعالم واسمعوه.. اقول لك ان أبي اعاد يداً مقطوعة لعامل بناء روماني...!

بطريقة أو أخرى أثر فينا كلامه رغم الشك الذي حل في مخيلاتنا الطرية حول عجائب الدكتور ابو لؤي.. وكانت ايام تلقيه رسائل في مظاريف ملصقة من شباب المحلة بعضها موجهة الى والده يسترجونه رحمة الاستقبال مثلي، واخرى علمنا لاحقاً عندما كبرنا بأنها جنجلوتيات رومانسية موجهة الى شقيقاته الثلاث الجميلات المهذبات اللواتي يمشين على مهل الى المدرسة، لاينظرن يمين أو يسار ويلحقهن من بعيد هائم يبلع ريقه دون ان يتجرأ الأقتراب مِنهُن!

وكانت الرسائل السرية تختلط مع بعضها البعض، فرسالة الهيام تصل يد الدكتور ورسالة الشاكين من غرائب الدكتور تصل بناته وهكذا. اما رسالتي اليه:(ارجوك عمو، لا تصرخ بوجهي) التي حملها لؤي مع رسائل الآخرين، تسببت في ان اتوقف نهائياً عن الذهاب عند الحاجة الى المستوصف اياه وتحولنا الى مستوصف باب الجديد.. فبعد ان هدني التعب إثر اللعب اتكأت على السياج الأخضر وفكرت ان أوسع الفتحة بين قضيبين حديديين وأمر من خلالهما لوضع قطعة نقدية على السكة فتمر عجلات القطار عليها لتفلطحها وتحولها الى رقاقة كبيرة، ما أن حشرت رأسي في الفتحة، فالورطة كانت أكبر من توقعاتي، لم أستطع بعدها النفاذ الى امام ولاسحب رأسي والتخلص من هذه الكماشة الحديدية.. سحب رأسي الأصدقاء الى خلف، وخرجت بآذان مخدوشة...

ذهبت هذه المرة واثقاَ من ان الدكتور الخارق سيرأف بحالي، فقد أكد لؤي بأن رسائلنا تُقرأ وتلقى من جناب أبيه كل الرعاية والحنان، حتى أنه يسأله عن سر القلوب المرسومة في الرسائل؟  فكان لؤي يُخبره بأنها محبتهم الكبيرة لكم أبي الطبيب الشهير، فيعاود ابو لؤي يسأله: ولماذا يكتبون أسماء خواتك فيها، فيجيبه لؤي: يا أبتاه إنه الارتباك فقط فهم تحت رهبتك يرتبكون ويهذون ويكتبون لمياء بدل أبو لؤي.

ما أن وقفت امام الدكتور:

- عُد الى أُمك كما أتيت، والله يا زمن، إبنٌ التاسعة يَطلُب يد لُمياء!

***

بولص آدم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم