صحيفة المثقف

عبد السلام فاروق: السد الإثيوبي وضغوط الشوط الأخير

عبد السلام فاروقالأزمة اليوم باتت تتقلب على صفيح ملتهب..

واللعبة الآن كالتالى: إثيوبيا فى جانبها المتعالى تصم آذانها عن أى اتفاق سلمي وترى فى مصر والسودان خصوماً تنظر لهما بعنجهية العدو وصلفه. وعلى الجانب الآخر تقف مصر ومعها يقف العرب والعالَم مدافعين عن حقها الأزلى فى سر وجودها وشريان حياتها ومجراها النحيل عبر صحرائها الشاسعة يكاد يستصرخ الناس والمنطق والعدل والزمن كى لا يستيقظ العالَم يوماً على مشهد نهر النيل يذوى والأنفاس الخضراء على ضفتيه تختنق ويأكلها التصحر ويهلكها الجفاف!

إثيوبيا تهدد..

بالأمس القريب خرجت علينا الخارجية الإثيوبية ببيان يكاد يكون إعلاناً سافراً للعداء والحرب؛ حيث قالت: (إن العالم الآن يرى قيادة مصر والسودان في وضع الترويج للحرب وتهديد إثيوبيا بأن جميع خياراتهما مطروحة على الطاولة، لكن هناك مقولة عربية تقول الهنجمة نصف القتال "مَثل يراد به أن تتحدث عن نفسك وعن قوتك كثيرا قبل الدخول في معركة" لكن في إثيوبيا لدينا مقولة مختلفة مفادها أنك لا تموت من الخوف بل تموت أثناء القتال، لذا فإن إثيوبيا لديها أيضا جميع خياراتها على الطاولة)!!

إنه تهديد سافر ملئ بالترهات والادعاءات الكاذبة، إذ يستمر البيان فى لهجته البغيضة قائلاً: (أن إثيوبيا تتفاوض مع طرف واحد هو مصر والسودان مجتمعان، لافتة إلى أنه لا فرق بين البلدين في تسييس وإضفاء الطابع الأمني على قضية سد النهضة، وكلاهما عازم على إنكار الحقوق السيادية للإثيوبيين اليوم، وليس هذا فحسب بل وأيضا للجيل القادم، بحيث يتعين على إثيوبيا انتظار إحسان مصر والسودان لتنمية مواردها المائية..وذكرت أنه رغم كل المرونة التي أظهرتها إثيوبيا، لم يكن هناك أي مرونة من مصر والسودان، والواقع أن البلدين أعلنا فشل جولة الرابع من أبريل الجاري بينما كان من المقرر أن تنتهي في اليوم التالي، لأنهما حضرا إلى كينشاسا بقرار مسبق بإجهاض هذه الجولة قبل أن تنتهي.. وتابعت: (لا تزال إثيوبيا تأمل وستظل تأمل في المفاوضات التي يقودها الاتحاد الإفريقي من أجل حل النزاع على سد النهضة فقط على أساس الاستخدام العادل ورفض أي مطالبة بحقوق تاريخية لمصر والسودان)!

إن أقل ما يوصف به مثل هذا البيان أنه تهديد وتضليل وقلب للحقائق ورغبة حقودة لنزع حقوق مصر التاريخية منها عنوة، وهو استفزاز واستعداء واضح لمصر والمصريين.

الخطر يتهدد الجميع..

 الغريب فى الأمر أن إثيوبيا تتصرف كما لو كانت بمنأى عن أى مخاطر من مثل هذا التعنت والإصرار على نسف المسار الدبلوماسي، بينما هى أول المتضررين قبل مصر والسودان؛ واسألوا إن شئتم أهالى إثيوبيا المجاورين للمشروع والذين سيتم إعادة توطينهم وعددهم يربو على 20 ألف شخص، ناهيك عن آلاف المزارعين والصيادين الإثيوبيين الذين يرون فى السد المهول خطراً وتهديداً مباشراً لأرزاقهم التى ضيَّقها السد؛ بسبب التغيير الكبير فى البيئة والمصايد وانحسار الفيضان. هذا بخلاف انتشار الملاريا وترسب الطمى بكميات هائلة.

بل ثمة أخطار أخرى أكبر: لعل من أهمها كما تقول دراسة أجراها خبراء من معهد ماساتشوستس الدولى للتكنولوجيا: "وجود فائض غير منطقي من الكهرباء، حيث توجد حاجة ضرورية لإدارة الطاقة الكهرومائية المولدة من السد والتى تتجاوز الطاقة المولدة من سوق إثيوبيا المحلي الحالي للطاقة، وبالتالي ستحتاج إلى بيعها خارج إثيوبيا. وهناك حاجة إلى خطة لمثل هذه المبيعات، ولإنشاء خطوط نقل إلى الأسواق الإقليمية..والحق أن إثيوبيا لا تحتاج من الـ 6 آلاف ميجاوات من الكهرباء التى تأمل أن ينتجها سد النهضة سوى 2000 ميجاوات فحسب! وبالتالى فهى تعوّل كثيراً على تصدير الكمية الباقية، وهو ما يتطلب نفقات هائلة لإقامة شبكات نقل كهرباء بمسافات طويلة تصل إلى 900 كيلو متر لتغذية جيبوتى المتاخمة لحدودها على سبيل المثال، أما تصدير الكهرباء لأوروبا فالأفضل هنا أن يمر عبر مصر وهو ما لن يحدث فى ظل السلوك الإثيوبى العدائى.. بالطبع كان أفضل لإثيوبيا بكثير أن تصدر الكهرباء إلى مصر والسودان بما قيمته 6 مليارات دولار سنويا، وهو ما كانت إثيوبيا تفكر فيه خلال السنوات الأولى لبناء السد حينما كانت مصر آنذاك تعانى نقصا شديدًا فى الكهرباء، لكن مصر اليوم تحوّلت إلى دولة اكتفاء ذاتى وتصدير.

والسؤال الملح الآن: لماذا تصر إثيوبيا على تأزيم الأمور وليس فى صفها أحد؟ لماذا تستعدى الجميع؟ أليس الأَولى لها أن تتحسب لمستقبلها الاقتصادى الذى سيتضرر كثيراً جراء المسار العدائى بينما لن يتحقق له الربح سوى بالمسار الدبلوماسي؟!

روسيا والعرب والعالَم فى صف مصر

بالأمس القريب زار وزير الخارجية الروسي سيرجى لافروف مصر، وقد صرح وزير الخارجية المصري سامح شكرى قبلها: "أن القاهرة تتوقع أن تلعب روسيا دورا إيجابيا في تسوية أزمة سد النهضة مع إثيوبيا".مؤكذاً أنه سيبحث مع لافروف موضوع سد النهضة والدور الذي يمكن لموسكو أن تلعبه من خلال عضويتها في مجلس الأمن الدولي وفي إطار الجهود الدولية المبذولة لحل الأزمة والتوصل إلى اتفاق ملزم بشأن ملء وتشغيل السد. هذا وقد وجَّه الرئيس السيسي رسالة لإثيوبيا فى حضور لافروف، فى إشارة لوقوف روسيا فى صف مصر إزاء الأزمة الحالية للسد الإثيوبي..وخلال زيارة الرئيس التونسي قيس سعيد لمصر أبدى دعمه الكامل لمصر فى الدفاع عن أمنها المائى وحقها التاريخى فى مياه النيل، وهو موقف كافة الدول العربية، بل والمجتمع الدولى الذى يعرف لمصر هذا الحق الذى تحاول إثيوبيا سلبه منها بمجرد بيان رخيص لا يساوى ثمن الحبر الذى كتب به!

اسألوا صاحب نوبل..

منذ يوليو 2020 والتصريحات الإثيوبية المستفزة تنهال على الرؤوس كأنها حجارة تتعمد كسر حالة السلم واستفزاز المنطقة لعداوات وحروب هى فى غنى عنها. ولعل أهمها تصريح وزير الخارجية الإثيوبي على إثر الملء الأول للسد بأن النيل صار بحيرة إثيوبية لا نهراً مشتركاً !

والسؤال الذى ينبغى للعالَم أن يسأله لصاحب جائزة نوبل آبى أحمد رئيس الوزراء الإثيوبى هو: كيف لإثيوبيا التى تتغنى دوماً بما أسمته "سياسة تصفير المشكلات" مع دول الجوار أن تهدد بالحرب وتدعو لها؟ بل وكيف لها أن تنتظر رخاءً اقتصادياً بالدعوة لحرب ستأكل الأخضر واليابس لا فى إثيوبيا وحدها بل وفى سائر المنطقة؟

أخطأ من أعطى الداعين للحرب جائزةً للسلام، ولابد للعالَم أجمع أن يصحح هذا الخطأ بأن يخلع عنهم سرابيل السلام الزائف التى يرتدونها زوراً وبهتاناً.

ماذا لو ..؟

شهور قلائل تفصلنا عن الموعد المعلن للملء الثانى للسد، وكلا الجانبين يمارسان سياسة النفس الطويل فى الاستمساك بالرأى وممارسة الضغوط على الجانب الآخَر. وبينما تتشبث مصر بكلمة الحق وبالدعوة للدبلوماسية والمرونة، فإن إثيوبيا تستمسك بالأوهام والأضاليل وبالدعوة للعداء وتأجيج الأمور وتأزيم القضية!

ودعونا نتساءل عدة تساؤلات جوهرية تشغل الجميع:

ماذا لو أن المجتمع الدولى انبري بجدية وصرامة لا للذود عن مصر فى قضية سد النهضة وإنما لتجنيب المنطقة كلها كوارث محدقة سواءً باستمرار إثيوبيا فى تعنتها أو بدعوتها السافرة للحرب؟ ألن يكون هذا أفضل من ترك الحبل على الغارب لإثيوبيا تفعل الأفاعيل بالمنطقة دون أن يحاسبها المجتمع الدولى أو يردعها؟

ماذا لو تدخلت أمريكا لإجبار إثيوبيا على الرضوخ لدعوة مصر والعالَم لاتفاق يضمن حقوق مصر فى مياهها؟ ألن يجنب هذا المنطقة حرباً لا ضرورة لها؟

والسؤال الأخطر والذى لا يريد أحد أن يسأله: ماذا لو قامت بالفعل حرب المياه بين الدول الثلاث ، فهل سيستفيد أحد من مثل هذا المسار المهلك؟

إنها تساؤلات للعقلاء فى إثيوبيا وإفريقيا والعالَم. ولابد من إجابات تشفى الصدور.

 

عبد السلام فاروق

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم