صحيفة المثقف

صلاح حزام: القوائم الشخصية للمفاهيم والتعاريف

صلاح حزاملا يوجد ماهو أخطر على المجتمع من تفكك وتدمير منظومة القيم السائدة والمحُتَرَمة في ذلك المجتمع..

بدون منظومة قيم موحدة يحترمها ويخضع لها الجميع، يتحول المجتمع الى "تجمّع بشري"، لاتربطه رابطة ويشبه تجمّع واحتشاد الناس في قاعات الترانزيت في المطارات !!

صحيح انهم يجتمعون في نفس المكان، ويستخدمون نفس التسهيلات الموجودة ( facilities)، لكنهم ليسوا موحَّدين فيما يتعلق باهدافهم النهائية ولاتوجد بينهم روابط ثقافية ولايهتم أحدهم بأمر الآخر. كلٌّ ينتظر رحلته لكي يغادر هذا المكان .

بهذا المعنى، فأن الثقافة العامة السائدة وما تركز عليه من قيم عامّة مشتركة، تلعب دوراً اساسيا في ترسيخ وحدة المجتمع وتكامله مع بعضه ..

فاذا قيل هذا الشيء او الفعل حرام، اصبح معروفاً لدى الجميع انه حرام . واذا قيل عن فعل معين عَيب، أصبح عيباً متفقاً عليه .

في فترات من تاريخ العراق كانت الرشوة عاراً وسرقة المال العام عملاً مخزياً ولايجلب الاحترام لصاحبه..

ولم يكن أحد يستطيع الاعتراض او التشكيك في هذه المفاهيم ودلالاتها.

الآن يلاحَظ أن لكلِّ شخصٍ او جماعة معينة (جماعة حزبية او عرقية او دينية او مناطقية) قاموسه الخاص الذي يوفّر تعاريف خاصة للافعال والاشياء بما يتوافق مع مزاج او رغبات واهداف ذلك الفرد او تلك الجماعة.

- فالقتل جريمة، لكنها ليست كذلك لدى جميع تلك القواميس. قد يُبرر بانه جهاد او عقوبة رادعة مستحَقّة للحفاض على نقاء المجتمع !!

- الرشوة حرام وعيب وتتعارض مع شرائع الله، لكنها ليست كذلك بالنسبة للجميع لانها قد تكون حلالاً اذا ذهبت لغرض نبيل كما يعتقد البعض. ثم انها قد تُبرر باعتبارها هدية لقاء تسهيل أمور العِباد والسعي وبذل الجهود لتبسيط الإجراءات (قالها لي أحدهم عندما ذهبت الى بغداد قبل اربعة أشهر، لانجاز بعض المعاملات في دوائر التسجيل العقاري المُرعبة).

- سرقة المال العام جريمة كبرى لانها سرقة من كل المجتمع الذي هو المالك الحقيقي للمال العام وليست الحكومة . الحكومة وظيفتها ادارة المال العام بحكمة ونزاهة وكفاءة.

لكن تلك الجريمة بالنسبة للبعض ليست جريمة أصلاً لانها ليست سرقة من أحد معين، مع انها اكثر فداحة من الناحية الأخلاقية.

- الكذب، سلوك معيب ولا أخلاقي بكل المقاييس، ولكنه يمكن ان يُبرَر بكونه اسلوباً للتهدئة ونزع فتيل ازمات محتملة !!

- تفسير الاحكام الدينية فيما يخص الممنوع والمسموح اصبح عملية لامركزية بل وقد تصبح شخصية احياناً .. كلٌّ يفسر حسب مايشاء وبما يخدم مصالحه الشخصية او الفئوية.

لازلت اتذكر في التسعينيات واثناء فترة فرض الحصار على العراق، ان احدى الجهات الامريكية (لا اتذكر ان كانت صحيفة او مركزا علمياً)، طالبت الحكومة الامريكية بالعمل على رفع الحصار عن العراق لانه لم يعد له ضرورة .. والسبب هو ان الحصار أدى ماهو مطلوب منه في تدمير منظومة القيم في العراق .. بسبب الحصار ومانجم عنه من نتائج سيئة كالرشوة والسرقة والاختلاس وسرقة المال العام (هذه الامور كانت السلطات في وقتها تتكتم عليها وترفض الاعتراف بها لاسيما في سنوات الحصار الأخيرة).

تدمير منظومة القيم أخطر مايمكن ان تتعرض له المجتمعات لانها سوف لن تصبح مجتمعات بعد ذلك ابداً.

لن يحترم أحد القوانين العامة ولا الدستور ولا الضوابط ولا التعليمات، لن يحترم أحد رجال الأمن ولا الموظفين العموميين، هؤلاء جميعاً جزء من منظومة وكيان اسمه وطن ومجتمع، والناس عندما تنعدم لديهم القيم المشتركة يبدأون بالشعور بأنهم لاينتمون لهذا الكيان العام الذي اسمه وطن ومجتمع.

انهم يشعرون بانتمائهم لكيانات صغيرة كالقبيلة والحزب والطائفة والمنطقة الخ ...هذه الكيانات توفر لاتباعها الحماية والمكانة والمزايا والوظائف الخ .. في حين ان الكيان الاكبر الذي هو الوطن يعجز عن ذلك.

 

د. صلاح حزام

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم