صحيفة المثقف

سيرينا لوليس: الأخ

2384 serinaترجمة: صالح الرزوق

أجد أن أمسيات تشرين الثاني غير مناسبة  لتسلق الأشجار. بتعبير أوضح أوشكت الحفلة أن تنتهي وتوجب علي أن أغادر. ولم يكن أمامي فرصة للمغادرة، فهربت. صعدت على السلالم، وتسللت من نافذة الحمام، وأصبحت فوق سطح الملحق، ثم انزلقت على حواف جدار يحيط بالمنزل، وبارتفاع ثمانية أقدام، وحاذرت أن لا أعلق باللبلاب الذي يغطيه، وهكذا بلغت الشجرة. وهناك بدأت بالتسلق. لم أشعر بالبرد. لم أكن أشعر بأي شيء، وأنا أتابع طريقي. كنت أود أن أكون معك بقدر ما يمكنني. انتظرت حتى أرسلت الوالدة صديقا ليعيدني للبيت. لم تكن الشجرة مرتفعة جدا. بل هي أعلى من الجدار بحوالي عدة أقدام. وعارية من الأوراق، باستثناء عدد محدود تدلى من الأغصان الجافة. غير أن غصنا متينا يصلح ليكون مقعدا طبيعيا، وهناك يمكن أن تجدني كلما دعت الضرورة للتفكير، أو سمحت لي الحالة النفسية.

من هنا، بمقدوري أن أستمع لجوقة العائلة والأصدقاء معا، كانت أصواتهم تدمدم بوقت واحد حتى أنني لم أفهم كلمة واحدة، كنت أستمع للنغمات، فقط الألتو والسوبرانو في غنائهم الحزين والخاص. وتلك هي الكلمة التي اعتادت الوالدة أن تصفك بها. حالته خاصة. ولا تقول إنه معوق. أو “عاجز فيزيائيا وعقليا”. لم يخبرنا أحد باسم حالتك، ولذلك كنت بالنسبة لنا وببساطة شيئا خاصا. ولكن أتذكر أول مرة أدركت فيها أن “الحالة الخاصة” ليست شيئا جيدا. كنت بكرسيك المتحرك، وتوقفت الوالدة لتتبادل الكلام مع الجيران. فاستلمت أنا القيادة. وكنت بعمر ست أو سبع سنوات وبصعوبة يمكنني أن أشاهد ما وراء كرسيك. لم يكن هناك من يحب الطرق الوعرة مثلك تماما. بدأت أعدو، وأنا أدفعك أمامي، نحو أسفل السفح، وانطلقت ضحكتك بصوت مرتفع ومرح مثل الموسيقا بينما كرسيك يهتز ويرتجف فوق حفر وفراغات الطريق.  كنت لا تزال تضحك. وأنا كذلك. وحينها رأيت الأولاد الآخرين. توقفوا عن اللعب. وقفزت الكرة دون أن يلاحظها أحد وهم يحملقون. فهم لم يشاهدوا مثلك من قبل. وأخطأت بفهم فضولهم معتقدة أنه الرعب. لأول مرة بحياتي القصيرة، شعرت بالرعب الحقيقي. ليس رعب الصغار، ولكن الشعور بالعار والضرر. واتقد الغضب بأوجاع قلبي. وارتعشت منه. ومر كالسهم في جسمي اليافع مع كل دقة قلب. وكان حارا وعميقا مثل الدم الذي يجري في عروقي. وبدأت أصيح:"علام تحملقون؟”. وتابعوا التحديق، حتى حضرت أمنا ورافقتنا للبيت.

الكلام عنه

لم أكن أرغب بالكلام عن الموضوع، وتلك هي المشكلة.

الشخص الوحيد الذي كنت مهتمة بالتكلم معه كان ابن عمي الأصغر، ربما لأنه لا يثرثر. كنا في السابق وفي أيام المراهقة نشترك بحب التمرد، كنا نحبو إلى المطبخ لنسرق علب المشروبات ثم نشربها على السطح معا. ولم أجد في ذلك شيئا غير طبيعي حتى استاء هو. وسألني هل أنا مرتاحة. لم أكن كذلك. والآن يعلو صوته فوق نبرته المعتادة من الأسفل. كان ثملا، وربما سيلومونني على ذلك. ولكنها ليست غلطتي. ليس تماما. مع ذلك ربما سيتهمونني بالإهمال. كنت أجمع أجزاء من الخشب المتساقط من الشجرة، وأقشر منه الطبقة الواقية، حتى يظهر الجلد اليافع تحتها. كان اللحاء يخلف الغبار على أصابعي، وخطوطا سوداء تحت أظافري. ويتسلل بين الأخاديد الرفيعة في أطراف الأصابع. كنت أحرم الشجرة من إمكانياتها. فهي لم تكن جاهزة للذبول. ولكن كانت أظافري متحمسة للحفر بشيء ما وإلا اخترقت راحة يدي. علام يحدق هؤلاء الأولاد؟ ماذا بمقدورهم أن يشاهدوا؟.

الطريقة التي تفرك بها أصابعك معا؟. تحتفظ باليدين متباعدتين وتلمس أطراف الأصابع فقط؟. أم هو فمك العريض، وطريقتك بالابتسام؟. فالزوايا تبدو كأنها تريد أن تبقي الفم مغلقا. هذا غير مناسب. لن تظهر بمظهرك العادي. أنوار الشارع تسرق النجوم. والسماء صلبة، مثل مخمل أسود، ولكن بمقدوري رؤية تلك النجوم المسروقة وهي موزعة مثل بريق مهدور في أرجاء المدينة، وتزحف وراء بيتي. كنت معتادة على رؤيتها. حينها ينتفخ قلبي من هذه الشموس المقيدة بالأرض، هذه الخرافات التي صنعها البشر لتمييز السماء عن الأرض. كما أخبرتكم لا يمكنني أن أشعر بأي شيء، ليس الآن. 

موجود لتستمر

قبل وفاتك لم أكن أعلم أنك لست مخلوقا لا يفنى. من سيعتني بك بعد وفاة والدينا، أتساءل. هل أنا سأفعل ذلك؟. أم أحد أشقائنا، سيحملك، ويطعمك دون الخوف من أن تختنق وهو الشعور الذي يلازمني. هم دائما يتصرفون بطريقة أفضل، ولا يبدو أن الخوف من ضعفك ورقتك يغلب عليهم. وأنت لا تعرف ذلك. ولكن قبل أن يغادر أخوتنا إلى أستراليا، أوقفوني جانبا وأخبروني أنه يجب أن أزيد من اهتمامي بك. والعار لا يزال يلازمني. لم أكن أقصد أن أتعامل معك كشيء مسلم به. كنت أعتقد أنك هنا لتبقى. سألني بالهاتف كيف وافتك منيتك، قلت له كنت أقبض على يدك، وشعرت بك وأنت تنزلق وتضيع مني. فلزم الصمت ولم يجد كلاما ينطق به بعد ذلك. انتظرت بقدر مستطاعي، ولفترة طويلة للغاية. لكن تمنيت لو أنني لم أكن موجودا عندما جرى ما جرى. كان الأجدى أن تتواجد أمي عوضا عني. فأنت ستبذل قصارى جهدك في هذه الحالة من أجلها. وأعلم أن هذا غير عادل، ولكن ما جرى لم يكن منه مهرب. غير أنه ملموس وحقيقي. وشعرت أن الحقيقة دفنت بين أضلاعي حيث يوجد القلب بالعادة.

أغنيات مؤلمة

كانوا ينشدون، المشاركون بالمهرجان، والمعزون، وعائلتي. لم أكن أعرف الأغنية، لكن تخللت نغمتها البطيئة وإيقاعها الرتيب، التنهدات. كانوا يغنون ليتأكدوا من مشاعرهم، ليضيئوها، ليركزوا على شيء مؤلم ومحزن. كنت أفضل الهدوء. لم أسمع أبانا يبكي قبل هذه الليلة. حتى لو كنت بالخارج، ويجب أن أشم الدخان البعيد الذي يهب من نار مواقد الشتاء، ورائحة الجليد النظيف الرقيق، كنت لا أنتبه إلا لعبير البخور. فهو مزدحم في رئتي. وأشم أيضا التوابل والمواد الحافظة. وهذا لا يشبه رائحتك التي تفوح منها المواد المطرية السائلة اللطيفة والنفاذة أيضا. كل ليلة، كان الوالد يرفعك فوق السرير بذراعه القوية، وتدهنك الوالدة بالمراهم بمحبة شديدة حتى تغطي بها كل بشرتك بطبقة سميكة. ما هو المرهم الآخر، المرهم الشبيه بالجلاتين؟. مراهم وسوائل لبشرتك الحساسة. كنت مستلقيا على سريرك لأنه ما من أحد يرغب أن يراك في التابوت.  كانت الغرفة صغيرة ومحصنة، بعيدة عن الضجيج وسكان الوسط، ولكن أمكن للشمس أن تخترقها بطريقة ما، حتى في شهر تشرين الثاني. ونور الشتاء الهزيل كان مخنوقا بالغبار الذي يدور حولك في الفضاء. وهناك ركعت قربك من الصباح للمساء. انتظرت معك، أملا بنتيجة إيجابية، ولم أكن مستعدة لأصدق أن هذا صحيح. وحدقت بصدرك ورغبت لو يتحرك. وأقسم أنه تحرك مرة أو اثنتين. ولكن بقيت يداك باردتين وشعرت بشيء خاطئ.

عناق الصباح

تذكر. ذلك الصباح الباكر حينما كنت أول من استيقظ، وأتيت لأطمئن عليك؟. تدفق نور الشمس وغمر غرفتك. ورفعت وجهك نحوه، وابتسمت بنعومة. ثم نظرت لي، وأعتقد أنك توقعت أنني الوالدة. فقد فتحت ذراعيك بانتظار أن أعانقك. واقتربت من تلك الشرنقة الطرية المشمسة وتلقيت عناقك. كان ذراعاك النحيلان أقوى مما اعتقدت. وعانقتني بقوة، أقوى من عناق أي إنسان عادي. كانت لدينا تحفظات دائمة، نخاف من الحب الحقيقي، ولا نفقد وعينا بالشخص الآخر. لكن ليس أنت. كان عناقك بلا كوابح. ولمست يدك وجهي وضغطته على وجهك، ثم ضحكت ضحكة قصيرة ودافئة. ولم أهتم .أنك تعتقد أنني شخص آخر. فعناقك كان جائزة نادرة بالنسبة لي. وكنت أعلم أن هذا ليس تصرفا شخصيا. لم تكن تحب سقوط شعري على جسمك. لقد سرقت تلك الضمة، وكم أتمنى لو سرقت المزيد. في النهاية أظن أنك لم تمانع أن الزائرة هي أنا. ومن مجلسي، كان البيت يبدو كما هو، ولكن كيف حصل ذلك؟. ماذا سيكون مصير غرفتك؟. وهل سنحتفظ بسرير المستشفيات؟. وهل سنفتح الستائر لننظر من المطبخ  إلى أرجاء غرفتك، المسرح اليومي لصراع الحياة والموت والذي نحتاج لمن يذكرنا به؟. ضغطت قبضتي على صدري ورغبت أن يتابع قلبي المفطور بالحزن عمله. زاد جليد الليل، وغطت البقع ذراعي المكشوفين، ولكن لم يواتني الشعور بالبرد. كل ما انتابني هو الألم. وتوقفت لقمة صلبة في حلقي. بلعت شيئا ضارا كأنه حجرة ولكنه استقر في تجويف رقبتي. وتفرقت دمدمة الأصوات وسمعت كلمة واحدة ملحنة تردد اسمي. سؤال، أين أنت، ماذا تفعلين، تعالي هنا. ولم أفكر بالعودة.

لم أود أن أحتفل، أو أن أعزي، أو أن أبتسم ابتسامات باردة وبسيطة. أردت أن أجلس هنا وأفكر بلحن ضحكتك. كنت مرعوبة من النسيان. وفي نهاية المطاف سأهبط من مقعدي. وسأقترب بحذر من اللبلاب، وأتسلق إلى حافة البيت، وأتسلل من نافذة الحمام. وسأتلقى عناقا قويا ومكبوتا، لكنه ليس مثلك. فالأطباء لم يخبرونا باسم حالتك. أنت وحدك من تعاني من هذه الأعراض بالإضافة إلى طفل آخر في جنوب إفريقيا. أنتما نادران جدا. ولا زلت أفضل أن أفكر بك على أنك “حالة خاصة”.

***

...........................

سيرينا لوليس Serena Lawless كاتبة إيرلندية. متخصصة بالكتابة الإبداعية. حازت على منحة من مجلس بلدية غالواي للفنون. تعمل حاليا على روايتها الأولى لليافعين.  والقصة منشورة في آيريش تايمز. عدد 28 نيسان 2018.

ت: صالح الرزوق

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم