صحيفة المثقف

ميثم الجنابي: دانيليفسكي وقضية العقيدة الثقافية السياسية للفكرة الروسية (12)

ميثم الجنابيانطلق دانيليفسكي من فكرة تقول، بأنَّ روسيا والعالم السلافي ككل قد ساروا طريق آخر لا يشبه في شيئ مسار التجربة الأوربية ومن ثم نمطها الثقافي. لقد كان المسار التاريخي للدولة الروسية معقدا وخاصا. وتحولت الدولة إلى قوة من طراز خاص جعل من النفسية الروسية تقبل بكل ما من شأنه مركزة الدولة وقوتها. ومن ثم بلور نمط خاص من التربية أو التهذيب الذاتي في ما يتعلق بموقف الشعب من الدولة والنظام السياسي والمصالح والقيم. واستفاض دانيليفسكي في استعراض وتحليل هذا الخاصية والمسار العام للتاريخ الروسي المتعلق بنشوء وتطور الدولة وانعطافاتها، والدين الارثوذوكسي ومشكلة الأرض (القنانة والمشاعية الفلاحية)، ومن ثم كيفية إرساء أسس وقيم النمط الثقافي السلافي الروسي. واختصر كل هذا المسار المعقد في صيغة شكلية دقيقة تستجيب لموقفه العام والخاص بهذا الصدد، قائلا، بأنَّ القنانة هي أيضًا الشكل الروسي من الإقطاعية، كما كانت مهمة الفارياغ هي الشكل الروسي للاحتلال1، وحكم التتر هو الشكل الروسي للجزية. وقد استخدمها ملوك موسكو من أجل المركزية السياسية في روسيا. الأمر الذي جعلها نظاما هينا نسبيا. لقد اراد دانيليفسكي القول، بأن الشعب الروسي قد مر بأشكال مختلفة من الخضوع، التي لعبت أدوارها وأدت إلى تجمّعه في جسد واحد ومن ثم تذليل الأنانية الضيقة. وبالتالي عوّدته على إخضاع إرادته للأهداف المشتركة. وتحققت هذه الأهداف في بناء الدولة المستندة على أساس وطني راسخ. وفي مجرى تاريخها الألفي (ألف عام) لم يجر استبدال الأنانية الفئوية بالطبقية الاجتماعية. ولم يفقد الشعب الروسي فضائله الأخلاقية، كما انه لم يخسر الأساس المادي لمواصلة تطوره، وذلك لأنه ظل يحتفظ بملكية الأرض بدرجة لا يمكن مقارنتها بأي شعب آخر من الشعوب الأوربية. وبالتالي، فهو قادر على تحمل جرعة كبيرة من الحرية أكثر مما في أية دولة أخرى، وذلك لأنه كان يملك الأرض، على عكس ما تروج له الفئات المتأثرة بالغرب الأوربي وأوربا نفسها. وقد حدد ذلك، كما يقول دانيليفسكي، تشبث الروس بغريزة محافظة لا تحب التغيير العنيف. من هنا كانت مطالبه السياسية وآماله تتسم بالاعتدال. والسبب يقوم في أن تاريخ الشعب الروسي لم يعرف الصراعات الداخلية البينية بين فئاته وطبقاته الاجتماعية. من هنا فهو لا يرى في السلطة عدوا، بل على العكس من ذلك انه يثق بها ثقة تامة.

وحدد ذلك ما اسميته بنقل التبشيرية الدينية الكاثوليكية البيزنطية وشعارها "موسكو روما الثالثة" إلى تبشيرية سياسية إثنية ثقافية تسعى لجعل موسكو "مركز الاتحاد السلافي وليس العالمي". وتناول هذه المهمة من خلال تحليله للإشكاليات المتعلقة بطبيعة ونوعية الصراع التاريخي بين روسيا وأوربا، ومن ثم خصوصية هذا الصراع، أو ما اطلق عليه دانيليفسكي اسم المعركة التاريخية الكبرى بين روسيا وأوربا، بوصفها صراعا بين نمطين ثقافيين مختلفين تماما. ووجد في نهاية المطاف في "الاتحاد السلافي" الحل النهائي لهذا النزاع الكبير والمتعدد الأوجه والمستويات.

انطلق دانيليفسكي هنا من ظاهره هذا الخلاف والاختلاف بين روسيا وأوربا، ومن ثم الإجابة على السؤال المتعلق بالسبب أو الأسباب القائمة وراء العداء الأوربي لروسيا. بعبارة اخرى، ان مقدمة هذا الصراع بالنسبة له تكمن في العداء الأوربي تجاه روسيا وليس بالعكس. وهي ظاهرة فعلية وليست مفتعلة. وكما كانت في الماضي نراها اليوم أيضا. من هنا اهتمامه بإشكاليات العداء التاريخي المتأصل تجاه روسيا من جانب القارة الأوربية، بمعنى لماذا تظهر هذه القضية، وما هي خصوصية ظاهرة العداء التاريخي بين الأمم، وعما إذا كان لها بعدا ثقافيا أيضا.

فقد كانت فكرته وما توصل إليه في تحليله لمفهوم النمط التاريخي الثقافي أو الحضارة إلى أن لكل أنواع وأصناف العداء جذورها في الواقع والثقافة. ففي المجال الواقعي عادة ما يرتبط الصراع بالأرض والثروة. وهي حالة واضحة في طبيعة الصراع الروسي الأوربي. غير انه له بعدا جوهريا أعمق يقوم في طبيعة الثقافة وكيفية فعلها عندهما. وهذا بدوره وثيق الارتباط بالتاريخ السياسي. فالسياسة، كما يقول دانيليفسكي، هي صانعة الحكمة ومعارضتها. وفيها من خلالها تظهر كل الإمكانات المتناقضة في الوجود التاريخي للأمم. وقد اورد في تقديمه لطبيعة الصراع والعداء بين روسيا وأوربا العبارة التالية: قال لي أحد الأجانب:"انظر إلى الخارطة! هل يمكننا يا ترى أن نشعر بالأمان والاطمئنان مما تشكله روسيا من قوة ضاغطة علينا بحجمها كما لو أنها سحابة فوق رؤوسنا أو كابوس رهيب يجثم علينا؟". ومع ان دانيليفسكي لم ينكر ما للأرض وحجمها من قوة ضغط فعلية، لكن الشيء الجوهري هنا هو أين وماذا ومتى وكيف يجري التعبير عنه؟ فقد واجهت أوربا وهددتها كل من فرنسا تحت حكم لويس الرابع عشر ونابليون، وإسبانيا في عهد تشارلز الخامس وفيليب الثاني، والنمسا في عهد فرديناند الثاني. بمعنى هدد كل منهم بتدمير التنمية الحرة المستقلة لقومياتها المختلفة. وبالمقابل سعى كل منهم من اجل تحرير النفس. وهنا يبرز السؤال التالي: هل قامت روسيا بشيء ما يشبه ما قامت به الدول الأوربية الكبرى في مسارها التاريخي؟ وللإجابة عليه انطلق من التاريخ الفعلي لروسيا نفسها. وكتب بهذا الصدد يقول، بأننا حالما ننظر إلى التاريخ الروسي ضمن سياق هذه الإشكالية، فإننا نلاحظ وجود وحالة التدخل الروسي مراراً وتكراراً في مصير أوروبا. لكن السؤال الأعمق هنا يقوم بماهية الأسباب القائمة وراء هذا التدخل. إذ تدخلت روسيا عام 1799 وعام 1805 وعام 1807. حيث خاض الجيش الروسي حروبا نجح في أغلبها. غير أن نجاحه كان من حيث الواقع لصالح الدول الأوربية أكثر مما هو لمصالح روسيا نفسها. بمعنى انه تدخل من اجل مصالح غريبة بالنسبة لروسيا ولا مصلحة لها فيها. وبالتالي، فإن التدخل الروسي كان على الدوام من اجل الحرية الأوربية والعدالة وليس بالعكس، كما هو الحال في تدخل الدول الأوربية في حياة الآخرين.

فقد حاربت روسيا عام 1813 من أجل ألمانيا وأوربا لمدة عامين. وبعد أن أنتهى الصراع بإطاحة نابليون، فإنها أنقذت فرنسا من الانتقام الأوربي بنفس الطريقة التي أنقذت فيها أوروبا من الاضطهاد الفرنسي. وبعد خمس وثلاثين سنة نجحت روسيا مرة أخرى ولكن أيضا خلافاً لمصالحها، في إنقاذ النمسا من التفكك النهائي. والسؤال الذي يبرز هنا هو ما الذي حصلت عليه روسيا واستفادت مما قامت به من جانب الشعوب الأوربية؟

ان النتيجة واضحة وجلية، ألا وهي بقاء نفس المواقف السيئة تجاه الروس والدولة الروسية. كل ذلك يكشف عن أن دروس التاريخ هذه لا تعلمّ أحدا، وإنها لم تتحول إلى عبرة يمكن الاستفادة منها. فالأوربيون يعتبرون روسيا دولة غازية وتوسعية. وبالتالي فهي تهدد سلامة واستقلال أوروبا2. هذا هو الاتهام الأول. أما الاتهام الثاني فيقوم في أن روسيا عتمة سوداء وقوة مناهضة للحرية والتقدم.

وقد اجاب دانيليفسكي على ذلك قائلا، بأن روسيا بالفعل ليست صغيرة. غير أن كل ما يملكه الروس من الأراضي لم يجر عبر الغزو والاحتلال، بل عن طريق التوطين الحر. وقد كان هذا هو تطورها وتوسعها الطبيعي على مدار قرون. فكل المناطق التي جرى توطين الروس فيها لم تكن تحتوي على "هيئات سياسية" أي دول. وما قبل صيرورة واستتباب الدولة الروسية كانت كل المناطق الكبيرة لروسيا وشعوبها في حالة بدائية. كما أن روسيا لم تنتهك حرمة دولة ما أو تهدمها. فقد عاني الروس أنفسهم وقدموا تضحيات هائلة في مجرى تاريخهم في مواجهة الدول والقوى الغازية من تتر وبولنديين وسويديين وغيرهم. بينما لم يقمع الروس أي كيان كان. باختصار، إن بناء الدولة الروسية لم يجر تشييده على عظام الشعوب. على العكس. لقد توسعت الدولة الروسية أما في أراض بور أو جرى توحيد الأقوام في صيرورتها التاريخية والدولتية. غير انه لم يجر على الاطلاق ولا في أية مرحلة من مراحل تطورها تذويب الاقوام أو قهر الشعوب على القبول بالروسية بالقوة والعنف.

وهو استنتاج له، على الأقل، منطقه ومضمونه الخاص عند دانيليفسكي المؤيد للفكرة القائلة، بأن لكل دولة الحق في الوجود المستقل إلى المدى الذي تكون فيه هي نفسها واعية ومطالبة بها. لاسيما وإنها ذات قيمة ومعنى وجدوى. وكل ما يقف بالضد منها أو ينتهكها فإن نتيجة أفعاله تبقى في نهاية المطاف بلا قيمة وأثر. فلو احتلت بروسيا على سبيل المثال، الدنمارك أو احتلت فرنسا هولندا، فإن كل منهما سيسبب معاناة حقيقية للدانمارك وهولندا. وذلك لأنه يؤدي إلى انتهاك حقوقهم، والذي لا يمكن مكافئته بأية حقوق أو امتيازات مدنية أو سياسية أخرى. وذلك لأن الشعوب التي تعيش ضمن دولها الخاصة وحياتها السياسية، بحاجة إلى أن تكون جميع نتائج أنشطتها الصناعية والعقلية والاجتماعية من ممتلكاتها الخاصة. ومن ثم لا ترغب بأن تكون قربانا لأية قوة سياسية غريبة. إذ لكل قومية تاريخية مهمات خاصة بها. كما أن لها فكرتها الخاصة. وكل ذلك يجعلها متميزة عن الآخرين بالمعنى الإثني والاجتماعي والديني والتاريخي. وبما أن الشرط الضروري لتحقيق كل ذلك هو  شكل الاستقلال السياسي الوطني، من هنا، فإن تدمير استقلال هذه القومية يعادل معنى القتل الوطني. مع ما يترتب عليه من استثارة ردود الفعل ضد مرتكب الجريمة (الغازي أو المعتدي). وصوّر دانيليفسكي هذه الحالة على مثال من جرى قطع يده أو رجله. فقطع اليد أو الساق لا يوقف حياة الفرد لكنه يحرمها من الامتلاء وتعدد مظاهره الممكنة مقارنة بحال خلوه من الإصابة. وبالتالي، فإن الشعب أو القومية التي لا تجمع كل أجزائها وأعضائها بهيئة واحدة تبقى مجرد شبح سياسي.

ووضع هذه المقدمة في اساس تفسيره لما اسماه بمصدر الخلاف بين روسيا وأوربا. ووجد هذا المصدر في عدم اعتراف أوروبا بالروس كشخصية خاصة ومستقلة. إنها ترى في روسيا والسلاف شيئا غريبا عنها. فقد كان الغرب بشكل عام والألمان بشكل خاص يعتقدون ويأملون، بأنه لا ينقذ العالم سوى الحضارة الألمانية. لذلك ترى أوروبا في روسيا والسلافية ليس فقط شيئا غريبا ولكن أيضا مبدأ عدائيا.

ووجد دانيليفسكي في الموقف الأوربي من روسيا سلوكا يتميز بالازدواجية. وهو امر جلى حالما يجري النظر إلى ما اسماه بالمقاييس والأوزان التي تقيس بها أوروبا وتزن حالما يتعلق الأمر بروسيا والسلاف بشكل عام. كل ذلك أوصله الى استنتاج يقول، بأن الألمان والسلاف في صراع تاريخي، لأن كل منهما لا يحب الآخر. إذ يختزن الألمان شعورا عدائيا في اللاوعي تجاه الروس والسلاف. وهي غريزة تاريخية تجعل أوروبا لا تحب روسيا. من هنا مواقفهم من ن كل ما هو روسي وسلافي متميز وخاص يستحق الاحتقار. ومن ثم يصبح القضاء عليه واجبًا مقدسًا ومهمة حقيقية للحضارة. بل إننا نرى تعاطفا وتقديرا لمختلف الشعوب داخل روسيا باستثناء الروس. وهناك العشرات من الأمثلة الحية والواقعية التي تكشف عن طبيعة ونوعية هذه العلاقة على مستوى المواقف الفردية والاجتماعية والحكومية. كما نعثر عليها في ما يكتبونه عن الروس في الصحف والمجلات وما شابه ذلك، أي كل ما يعّبر عن آراء ومشاعر الجزء المستنير من الجمهور. والشيئ نفسه يمكن قوله عن مواقف الدول، إذ نرى في جميع المجالات تسود نفس روح العداء والشك والشماتة والكراهية والازدراء. وهذه المواقف تتعلق بكافة مجالات الحياة من العلاقات السياسية إلى العلاقات اليومية العادية وتجاه جميع طبقات المجتمع. وقد جعل ذلك دانيليفسكي يتوصل في نهاية المطاف إلى القول، بأن الروسي الوحيد الذي يستحق احترامهم وتكريمهم هو الذي يفقد هويته الوطنية. تماما كما كان يقول الأمريكيون، بأن الهندي (الأحمر) الجيد هو الهندي الميت!

وبأثر ذلك توصل إلى استنتاج عام يقول، بأنه لا يمكن العثور على تفسير مقنع لكل هذا التعسف السياسي وهذا العداء الاجتماعي إلا في حقيقة أن أوروبا تعترف بروسيا والسلاف كشيء غريب عليهم ومعاديا لهم. وهي حالة يصعب نفيها بالنسبة لكل مراقب محايد. لكن السؤال المهم هنا يتعلق في ما إذا كان هذا العداء جزء من رؤية واعية لنفسها أو انه جزئي أو عابر أو مؤقت أو نتاج سوء فهم؟ أما الاجابة على هذا السؤال فتكمن في الاجابة على ما إذا كانت روسيا أوربية أم لا. وهي الإجابة التي قدمها دانيليفسكي في الفصل الذي يحمل نفس العنوان (هل أن روسيا أوربية أم لا؟). وأجاب عليه بالنفي القاطع، مستندا بذلك الى فلسفته عن "النمط التاريخي الثقافي". بمعنى إن النمط الأوربي لا علاقة له بالنمط الروسي (السلافي). وهما مختلفان في كل المكونات الجوهرية للنمط التاريخي الثقافي، أي للثقافة والحضارة.

 

ا. د. ميثم الجنابي

.........................

1- الفارياغ هي تسمية عامة عن القبائل الإسكندنافية، التي تقول بعض مصادر التاريخ المتعلقة بروسيا، بأنهم أول من ساهم في ارساء أسس الدولة وقيادتها، بعد أن تحولوا إلى روس أو اندمجوا فيهم اندماجا كليا، ومن ثم ذابوا في بوتقة السلافية الروسية.

2- إننا نقف هنا أيضا أمام مفارقة غريبة تنتظم فيها السفاهة والرذيلة بقدر واحد. فقد كانت أوربا في تلك المرحلة هي القوة الغازية والمحتلة الكبرى على النطاق العالمي. إنها مرحلة الصعود "الاستعماري" أو بصورة أدق التخريبي والتدميري لمختلف شعوب القارات. وبالتالي، فإن تخوفها من "الغزو" الروسي يعادل معنى تخوفها من سقوط قوتها الكولونيالية آنذاك.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم