صحيفة المثقف

حيدر عبد الرضا: قراءة في رواية (الجبان) للروائي ياسين شامل

حيدر عبدالرضاالمؤلف البديل بين فواصل الذروة ومفترض بدائل الاستبدال

توطئة: تسجل دلالات الواقعة الإبدالية والاستبدالية في وظائف ومحاور رواية (الجبان) للروائي والقاص الصديق ياسين شامل، ذلك المجرى الملح في دائرة إمكانية الأسباب والعوامل السببية في تنصيصات الإدماج والاندماج التداخلي الموظف ما بين أطراف محاور (السارد المشارك ـ المؤلف الضمني ـ المؤلف البديل ارتباطا إجرائيا مغموسا بمؤثرات دائرة تحقيق العلامة الشخوصية في طيات محامل وظائفها ومواقفها الزمنية والمكانية والظرفية المكتظة بصوت ومحورية أصداء السيرذاتية المستوعبة في مجال حساسيتها البؤروية المشغولة بنقل محكيات الذات المعزولة والمغمورة عبر وسائط رواية المؤلف الحقيقي . من الممكن لنا القول عن تجربة رواية (الجبان) للصديق ياسين شامل، إنها جملة علاقات نفسانية وعاطفية وموقفية مستلهمة بوظيفة ملازمة حيثيات مفردات الواقع البديل تخيلا عن المشخص من سيرة حياة المؤلف، ولكنها من جهة ما تستشف وتجترح لإحداثها ومسار أفعالها (منطق الاستبدال = الإبدال) بمعنى ما إنها توظف سلوكيات الواقع المشخص في مجرى واقعية إستبدالية محسوسة، ولكنها في ذات الوقت لا يمكننا التعرف عليها في حدود من استقامة الشواهد الأحوالية والتمفصلية من دليل الواقع المغاير .و على هذا الأساس سوف نتعامل مع أجواء دلالات الرواية، بما يتاح لنا من خطية شواهدها النصية الاعتبارية، مأخوذين بذلك باعتبار أن الراوية في ثوبها اللبوس غير خاضعة لحقائق المعنى، بل أنها خاضعة إلى مجال من تأويلات الناقد والقارىء فحسب . الرواية كانت تؤشر لأهم موضوعة تتعلق بحوادث الثورة الشبابية في البلاد، وانطلاقها في شوارع وتقاطعات المدن المخطوفة، وهذا الأمر ما جعل من مدلول الرواية بمثابة قيمة مشرئبة في التحول الجاذب نحو الاستجابة الآنوية من النص ـ اكتمالا ـ مع الأنا الجمعية في الوعي المرسوم لها في أحداث التوصيف الروائي .

ـ الفضاء الشخوصي وتمفصلات موضوعة الدال الانهزامي .

بدا لنا الواقع الشخوصي في محاور رواية (الجبان) مجالا وإلهاما نحو التفكر بماهية الأسباب القصوى التي جعلت من الروائي نفسه، أن يشرع في زرع ورسم المنزع الإنهزامي في نوازع شخصيته منصور، فيما راح في الوقت نفسه يشيع أكمل المظاهر التكاملية في نرجسية ووثوقية الشخصية المرمز إليها بـ (ك) والحال ما راح ينطبق عليه دون باقي شخوص الرواية حالا وموقفا ونعتا بشقيقة المسمى (ك) التي يرمز إليها أيضا بـ (ن) وتلوح لنا علاقات وأحوال الواقع الروائي، عن مشخصات حكاية غريبة، تتعلق بالسارد المشارك ـ منصورـ وكيفية خطواته في النص بحثا عن دلائل واستدلالات وصوله إلى من كان سببا في مقتل الشخصية سمر في الرواية: (عندما عدت من بغداد شعرت بارتياح، وجدت جنات في بيتنا، التي عملت في عدد من دول الخليج، واكتسبت صفاء لغتها، وقد أختار لها ـ ك ـ غرفة في الطبقة الأولى كي تكون قريبة من غرفة أمي، وترك الطبقة الثانية، ثم نصب منظومة كاميرات مراقبة، بأمر من ـ ك ـ وحين سألته أجاب: بأنه يريد لي السلامة في هذا الوضع المربك، فالاحتياط واجب بعد حادثة مقتل سمر . / ص7 الرواية) تتداعى في السياق النصي، حركة استباقية من شأنها استعادة وتأشير مرحلة زمنية متقدمة في السرد، اقترانا لها باستعادة الأحداث بصورة أولية نواتية في بداية النص، ولأنها هي المحور الأهم في بؤرة النص، بقيت مظاهر السرد في النص عارضة لأحداث تجرى من خلال مسرودية ضمير منصور كساردا مشاركا . وما يدفع هذه الشخصية الانهزامية تحديدا نحو إلتباسية عاطفتها الكليلة، أي في ذلك الشعور المتوفر لديها بالخجل والقلق الاكتئابي من مواقف أحاسيسها بالأشياء من حولها، كحال مواجهة المواقف والأشخاص من قبل ذات واهنة تخشى الخروج من وهن حجبها، إذا تطلب أمرها مقابلة أو مصارحة في حالة من مشاعر الحب إلى فتاة معينة، وهذا الأمر ما صدفنا في موقف الشخصية منصور من سفانة وسمر: (كلما نظرت إليها وهي جالسة، أجدها مختلفة عن الآخرين، كانت لملابسها لمسة فتاة / على الرغم مما كان لسمر من الجمال بما يكفي لجذب الشباب، فهي تصغرني بعشر سنين ..شعرت بأنها غريبة في تصرفاتها .. ولا تطلب من أحد أن يفهمها / لعل كل ما أراه في تصرفاتها ينطوي على سر عميق .. لا تريد البوح به لأحد .. أنا أعذرها .. فأنا أيضا لي أسراري . / ص23 الرواية) قد تكون أوجه التقارب والمغايرة ما بين (منصور = سمر)علاقة مجبولة على التلاقي في صفات حاضرة وغائبة معا، ومن أجل أن لا نفهم بأن الشخصية سمر كانت واقعة في عشق منصور يوما، علينا فقط أن نفهم بأن الشخصية منصور يشكل في سلوكه العاطفي الواهم، مجالا هشا في كل عشق لفتاة يلاحظها في مسار ما وقع عليه بصره، وهذا دليلا على أنه رجلا مهزوزا تداعب وتحرك حتى طنين الذبابة العابرة مشاعره العاطفية بجمرة ملامسة قلبه بواصلة حسية قد تكون مقصودة أو غير مقصودة من الفتاة التي يقابلها في حياته، هذا الأمر ما كان ينسحب بدوره على سفانة زميلته في أيام الدراسة الجامعية، فهذه الفتاة اللعوب بدورها وغوايتها القاهرة، ما كان يجعل منصورا أسيرا لها في وهب كل مصروفه الجامعي لها، المستوى الذي وصل إلى حدود انتشال علبة سكائره التي كان يمنحها إياها بسخاء المهزوم المستضعف . في الحقيقة هناك في الرواية مواقف مفتعلة إلى حد ما، فمثلا ما قيمة استعراض (ياسين شامل) لأسماء أصدقاءه في الواقع لتكون لها دورا في أحداث النص ؟هل هذه الأسماء الواردة لها علاقة عضوية وبنائية ودلالية جادة في ضرورة الخطاب الروائي مثلا ؟ فما الجدوى من ذكر أسماء المطاعم وأصحابها الأصل في مجرى الحبكة الروائية؟ ألا يعتقد الصديق الروائي بأنها محض نكتة مثلا أو مهزلة إعلانية في الإشهار بأسماء أهل الأوساط الأدبية في مدينة البصرة وباعة الصحف داخل أحداث روايته بشكلها المباشر ؟ كنت أتمنى من الروائي أن يكون موظفا لإحداثه الروائية بما فيها من ضرورة مؤشرات الأحوال البنائية والحبكوية الجادة في انتقاء شخوص الواقع الأصل دون حاجة ذكر مسمياتهم البديهية، ربما بهذا الحال أصبحت الممارسة الروائية لديه أسمى وأجدى مما دبجه في أحدى فصول روايته من إعلانيات لا ضرورة لها إطلاقا داخل حيز سياق السرد وحكاية الرواية ؟ صحيح أن هناك روايات وقصص تستثمر عناصر شخوصها من حيز واقع الكاتب، كالأسماء والمدن، ولكنها أسمى من أن توظف مثل هذه المقتطفات وبهذه الصورة من الأخوانيات الإعلانية المباشرة: أقول لو كان يرغب الصديق ياسين شامل في هذا المجال من ذكر الأسماء المباشرة وعلاقتها المباشرة به، فلربما كان ممكنا له أن يكتب مذكراته ويومياته قريبا من أصدقاءه في المحافل الأدبية وبعيدا عن مشاغل وهموم كتابة موضوعة الرواية وتوظيفاتها الضمنية والمضمرة غالبا في أفق من التلميح المرمز لا التصريح بعبارات واسعة من يومياته، أعود إلى نقل شاهدا من هذه المقتطفات من رواية الصديق: (تركت مكتبة الصحراء لصاحبها حمزة العبدلله / فدخلت مطعم أبي ستار / توقفت قرب كشك أبا علي بائع الصحف / ذهب الشاعر والناقد إلى مكتبة القبة لملاقات صاحبها كاظم اللايذ الشاعر الخلوق / تحولات الواقعية الشيئية للناقد خالد خضير / وكان صاحب المكتبة صفاء ذياب الذي كعادته لا يعجبه العجب . / ص36 . ص37 . ص38 . ص40 . ص41  الرواية) وغيرها من فقرات سردية مذكراتية هي من الإشهارية حصرا والإعلانية اللامبررة ضربا، إذ لا علاقة لها هذه الفقرات والوحدات في بناء الدلالة الروائية في سياق من نمو الأحداث والتبئير، كان بإمكان الروائي أن يوظف هذه الشخوص ضمن علامات واقعية متخيلة تستنشق أريجها الطلق عبر خلفيات ومحاور أشد إتماما في معادلة السرد الروائي، دون إفساد الرواية بكشف علاقات يومية تقريرية خاصة بذاكرة الكاتب بهذه الأسماء من الأدباء الأصدقاء له ولنا ولكن خارج الرواية.

ـ المؤلف البديل وأسرار مدونة الفصل الأخير

أكيد أن محاولات الشخصية الانهزامية الفاقدة إلى أبسط روح المواجهة والإرادة الكاملة، صعبا عليها تقديم روايتها وذاتها إلى مجتمع القارىء الجريء والمشاكس والرقيب، لذا وجدناه أي الشخصية الروائية في الرواية فارا من كتابة الفصل الأخير من روايته: (هكذا أنقضت رواية منصور ولأنني لم أعرف طريقا له،ولم أجده في أي مكان يلتقي فيه الأدباء والمثقفون / شعرت في أثناء الكتابة بأنه يرافقني ويبدي موافقته، لذلك قررت توزيعها لما فيها من جرأة . / ص168 الرواية) في الحقيقة أن أجمل ما في رواية (ياسين شامل) والتي لا أحبذ عنوانها أبدا من جهتي الخاصة، هو إمكانية العلاقة المغيبة للشخصية منصور صاحب الرواية (الجبان) ما راح ياسين شامل يحقق علاقة تكنيكية هي ليست بالجديدة في الأسلوب الروائي، ما بين حيز المؤلف المفترض ـ المؤلف البديل، اقترانا بإمكانية التوحد والتماهي في خطاب المؤلف الحقيقي، وهذا الأمر ما جعلنا ننبهر بالضربة المضمونية في نهاية الرواية، بعد اكتمال كتابة الفصل الأخير من قبل المؤلف البديل ـ المؤلف الضمني احتمالا: (في الحال تم اقتياد منصور إلى جهة مجهولة ـ في الساعة التاسعة في نشرة الأخبار من الفضائية الرسمية كانت المذيعة التي بالغت بوضع مكياجها تذيع الخبر: بعون الله وبهمة الأبطال تم إلقاء القبض على أحد أفراد الطرف الثالث، بحوزته سلاح الجريمة في قتل المتظاهرة الشهيدة سمر . / ص174 الفصل الأخير: الرواية) .

ـ تعليق القراءة:

نكتشف من خلال فصول الرواية ما قبل الأخيرة، بأن الشخصية سمر كانت ناشطة في التظاهرات الشعبية وقد تم تهديدها من قبل الطرف الثالث المتمثل بـ (ك) والطرف (ن) بعد أن جرى خطفها ثم مقتلها على أيدي مجهولة الهوية والعلاقة . ولكن من سوء حظ المسكين منصور أنه تسلم مسدسا من قبل الشخصية (ك) بعد أن أقنعه هذا الأخير بضرورة حمله تفاديا لحدوث أي مكروه له، وعلى هذا النحو فإن نهاية الرواية جاءتنا كرواية داخل رواية واصلة بفواصل من المحبوك الاستبدالي ما بين المؤلف الشخصية في الرواية وبين المؤلف البديل عن هذه الشخصية لإكمال روايتها . أقول مجددا أن رواية (الجبان) تجربة فاعلة من خلال وسائل حبكها الذروية جماليا، فيما تحتل وظائف شخوصها الداخلية والخارجية حيوات متحولة ومبررة في مسار العلاقة المحبوكة من الشد الموضوعي الموزع ما بين إجرائية الدال المنفذ والدليل الروائي المسجل لأهم تطورات الرواية .أما من ناحية فكرة الرواية، فهي صورة سير ذاتية للمؤلف الذي راح يقدم لذاته الكاتبة في زوايا وجهة نظر مختلفة، قد تفصح عنها مساحة بنية المدلول معادلا أحواليا محتملا في ضوء تجليات أكثر عمقا وتأشيرا في الخطاب الروائي المبثوث في فضاءات من نزيف استقصاءات الوحدة المضمونية المفترضة من جهات البدائل الدلالية، إي إننا في نهاية مداليل الرواية، لعلنا أمام عدة خيارات وبدائل مضمونية، أولا أن الخاتمة منقسمة إلى أكثر من حالة دلالية وموضوعية، ثانيا أن علاقة الخاتمة بالعنونة الروائية، قد لا تعكس سوى رؤية مرتبطة وحيثيات فكرة دال (الجبان)، لأن ما مر به الشخصية منصور ما هي إلا حالة انهزامية نفسية تحكمها دوافع ظرفية وموضوعية خاصة، وليس كما هو ظاهرا من وراء صفة الجبن عبر شرائطه المختلفة . ببساطة أن خصائص موضوعة الرواية فيها من الإسراف والمبالغة في تحجيم موقع الشخصية في ما ليس ممكنا أبدا في طبيعة التوظيف الشخوصي، كما أن عملية ابتداع هروب المؤلف للرواية، بالإضافة إلى مفارقة إتمام فصلها الأخير من قبل صاحب دار الطباعة، قد يبدو عمل غير مقبول فنيا، بل أنه يحمل أوجه كبيرة من المفارقة في مستوى الإقناع الموضوعي للرواية وسردها . لعل الصديق الروائي كان يطمح من وراء هذا المعنى إنتاج آليات تقنية حاذقة أو لعبة فنية خاصة في خصوصية مواقع المؤلف البديل في المسار الروائي . لاشك أيضا أن العتبة العنوانية في مدار متن النص، لا تعبر عن صياغة إيحائية دقيقة، بل أنها جاءت معبرة عن وحدة الانطباع للمؤلف في ملفوظ التسمية والتوظيف . حاولت في هذا المقال توضيح قراءتي في تعليق سياق القراءة عن رؤيتي للرواية تقويما لها وليس هدما إطلاقا، فهناك مستويات جيدة في الرواية بل هي أفضل من روايات سابقة للروائي ذاته، ولكننا ارتأينا معاينة بعض الملاحظات والاشارات حول المناطق الضعيفة في بناء الرواية بدءا من العنونة وانتهاء بالخاتمة التي تذكرنا بنهايات فن الأقصوصة حيث الضربة المفارقة المختزلة والزهد في لملمة أطروحة الختام . وعلى هذا الأساس أقول موضحا للصديق الروائي: أن معيارية النصوص الجيدة هي الأكثر قبولا للمعاينة والتفكيك النقدي ثم تأويلها وصولا بها إلى حصيلة استقرائية مميزة في التصور والرؤية النقدية التي لا تعد شرطا في إقرار مقرر المعنى المنصوص في النص الروائي، بقدر ما تقدم القراءة النقدية علاقة مؤولة في المعنى الآخر من الرؤية للناقد والنقد .

 

حيدر عبد الرضا

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم