صحيفة المثقف

محمد العباسي: هموم الصغار المستقبلية

محمد العباسيهل تصدقون أن الأطفال الصغار لا تشغلهم هموم المستقبل ولا تشغلهم هموم الحياة من مأكل ومشرب وتكاليف مادية ومتطلبات واحتياجات، رغم يقيننا أن كل تلك الهموم آتية لا محالة؟ بل يبدو من حيث المنطق والواقع أنهم يعيشون فترة أمان واستقرار نفسي ولا يشعرون بالحاجة للمنافسة ولا الغيرة من أقرانهم من الصغار، فهم جميعهم يعيشون في عالم الطفولة والبراءة والسكينة والرضى.. بل لا يعرف الطفل الفقير شيئاً عن الطفل الغني حتى يزوره في داره.. وقد يكتشف أن المنزل أكبر من داره وأكثر نظافة.. ويرى أن طفل العائلة المقتدرة يمتلك ألعاباً وحديقة وربما بركة سباحة.. ويرى زميله الصغير الأكثر حظاً لديه غرفة خاصة به وحده، وسرير وثير ودولاب ملابس يحوي الكثير من الخيارات.. ويسمع لأول مرة في حياته عن أنواع الطعام والأكلات السريعة التي قد يطلبها عبر اتصال هاتفي وكم المبالغ التي قد يصرفها هذا الزميل في عالم لم يكن ليحلم به الطفل الفقير في منزله.. وهنا فقط تحصل معجزة التحول من الرضى إلى نبذ الواقع.. ويتحول كل ما كان هذا الصغير الأقل حظاً يتمتع به من قبول وتقبل إلى عدم رضى وتذمر، بل وربما إلى كراهية أهله لعدم تمكنهم من توفير ما يحظى به الآخرين من متع الدنيا !

فالطفل الذي كان يستمتع بتغميس قطعة من الخبز في كأس من الشاي مع الحليب عند الإفطار أو للعشاء بات يعلم أن هنالك خيارات أخرى عديدة كانت خافية عنه.. والطفل الذي كان يأوي إلى فراش واحد مع بعض إخوته في غرفة مشتركة مع آخرين من أفراد أسرته بات يعلم بأن هنالك أطفال يمتلكون غرفهم الخاصة بهم.. والطالب الصغير الذي يضطر للسير إلى مدرسته البعيدة في الصيف والشتاء حاملاً حقيبته المدرسية الثقيلة قد اكتشف أن معه في المدرسة زملاء يتم توصيلهم إلى باب المدرسة بسيارات فارهة.. والمقارنات كثيرة ومتفرقة، وقليلون هم من تثير عندهم مثل هذه الفروق نزعات إيجابية نحو الجد والاجتهاد والتفكير في مستقبل منير للتعويض لاحقاً عما ينقصهم في الحياة.. لكن في الغالب قد تغلب أكثرهم مشاعر الدونية والغيرة والحسد وتدفع بهم نحو أمور سلبية تكبر معهم وتتحكم في مصائرهم وتقودهم إلى زوايا داكنة ومسالك نفسية غير سوية.

وقد نشرت هنا فيما سبق مقالاً بعنوان "المجرم الصغير" حول موضوع تأثير الفقر وسوء التربية والإهمال على التكوين النفسي للأطفال وتحولهم في سنوات المراهقة وما يليها إلى ممارسة سلوكيات سلبية تقودهم إلى العوالم السفلية من الانحراف واللصوصية والإجرام.. ولست هنا بصدد تكرار ذات القضية، بل أود أن أثير جوانب أخرى أكثر عملية لعلها تعزز بعض الإيجابية في النظرة المستقبلية للحياة لدى الصغار.

تقول الأستاذة "يسرى فيصل" في موقع (سيدتي) أن التفكير السلبي يعد من أهم عوامل الفشل الرئيسة عند الطفل كونه يتسبب في خفض التقدير الذاتي لديه، رغم أن كثير من الأمهات والآباء يكافحون من أجل تطبيق قواعد تربوية "سليمة" ليجعلوا من أبنائهم أطفالاً مثاليين يعتمدون على أنفسهم ويحسنون التصرف.. ولكن أحياناً يصبح نقص المعرفة أو ضغوط الحياة سبباً يخلق لنا شخصية سلبية لا تعرف التعامل مع المواقف.. فالنظرة الإيجابية تساعد الأطفال في التغلب على أي مشكلة تواجههم خاصة وأن النكسات الصغيرة قد تؤثر عليهم بشكل سلبي، ولكن يجب أن يفهموا أنها ليست نهاية كل شيء، فإذا كان الطفل منذ الصغر يفكر بإيجابية سيكون قادراً على حل المشكلات بسرعة ويتعلم أن ينظر إلى الجوانب المختلفة للحياة بإيجابية وانفتاح ووعي، فالإيجابية تعلم الأطفال المرونة والقدرة على التأقلم.

تبين الكثير من الدراسات أن من أهم الأسباب المؤثرة على اكتساب الصغار نظراتهم السلبية أو الإيجابية نحو الحياة هي في الأساس نابعة من الجو العائلي، ممن حولهم، من الآباء والأمهات، قبل انخراطهم في أجواء اللعب مع أقرانهم والتواجد في المدارس أو الحواري.. أي أن التربية تبدأ في البيت وتمتد لاحقاً في البيئة المحيطة.. فاللبنات الأولى يتم بنائها في حضن الأم وكنف الأب سواء كان بسبب الافراط في الدلال أو بسبب التعنيف والقسوة النابعة من الجهل في أساسيات التربية السليمة والناجعة.. وكثيرون هم ممن يتصورون بأن تربية الأطفال والأبناء يجب أن تكون بنفس الطريقة التي اتبعها معهم آباؤهم، أو في بعض الأحيان "بطريقة معاكسة" تماماً.. فإذا كانوا يكرهون الأسلوب الذي تربوا به، ألا ينبغي علينا جميعاً أن نكتشف بالضبط ما تقوله الدراسات والأبحاث ومن ثم نشرع في تربية أبنائنا بناءً عليها؟   كثيرة هي الأبحاث التي أُجريت على مدار الأعوام الخمسين الماضية التي تركز على مفهوم أن بعض طرق تربية الأطفال تأتي بنتائج أفضل من غيرها، من حيث إنها تؤدي إلى نمو علاقات أفضل بين الآباء والأبناء، وتُخرّج لنا أطفالًا سعداء وأصحاء وأكثر فاعلية.

ربما يعتقد البعض بأن الحب والعاطفة يؤديان بالضرورة إلى سعادة الأطفال والرضى الدائم رغماً عن نواقص الحياة أو جودتها المرجوة.. ويرى آخرون بأن التركيز على الجانب العاطفي قد يؤدي إلى الدلال المفرط والاعتماد التام على دور أولياء الأمور في حل المشاكل وتوفير أسباب الحماية مما قد يساهم في عدم اكتسابهم جل مفاهيم ومهارات التصرف السليم عند مواجهة التحديات.. ويذهب البعض إلى أن العلاقة الأسرية السليمة تشمل علاقة الأب مع الأم قبل علاقتهما بالأبناء.. فالعلاقة الإيجابية بين الآباء أنفسهم تنعكس على نظرة الأبناء للحياة، وتتكون لديهم مفاهيم الحياة الاجتماعية السليمة والمتكاملة بغض النظر عن وجود بعض المنغصات الأخرى.

كيف لنا في آخر الأمر من توفير البيئة الصحية والسوية أو المناسبة للصغار؟ ربما يكون الجانب المشرق في المسألة أن الآباء يمكن تدريبهم.. إذ تؤكد الدراسات الاجتماعية والنفسية بأن الآباء الذين حصلوا على دروس في التربية عادة يحرزون نتائج أفضل مع أبنائهم من الآباء الذين افتقروا لمثل هذا التدريب.. فيبدو أن المزيد من التدريب يؤدي إلى نتائج أفضل حيث يمكن لبرامج التدريب (مثل برنامج التربية الرشيدة المبنية على الأدلة، الذي قام بتطويره "دونالد أ. جوردون" من جامعة "أوهايو" الأمريكية) تحسين ممارسات التربية بالفعل.

وتقول الأستاذة "سماء عبيدات" في موقع (حياتك) أنه من الطبيعي أن الأطفال يتأثرون بسلوك آبائهم وأمهاتهم كثيراً، ويكتسبون العديد من المهارات والتصرفات منهم.. ومن خلال العديد من الأبحاث يفترض الباحثون أنه توجد روابط بين سلوك الآباء والأمهات وآثار هذه السلوكيات على الأطفال، وأنها تنتقل إلى سلوك البالغين، ولكن يمكن لبعض الأطفال الذين تربوا في بيئات مختلفة أن تتطور شخصياتهم لاحقاً لتصبح مشابهة لشخصيات آبائهم بشكل ملحوظ، وعلى العكس من ذلك أيضاً، فإن الأطفال الذين يشتركون في منزل واحد وتربوا في نفس البيئة، يمكن أن يكبروا ليكونوا شخصيات مختلفة للغاية كنتيجة حتمية طبيعية لروح المنافسة والفروق الفردية.

تبقى العائلة هي أول عالم اجتماعي يواجهه الطفل، والأسرة لها دور كبير في التنشئة الاجتماعية، ولكنها ليست الوحيدة في أداء هذا الدور.. فهنالك تأتي لاحقاً الحضانة والمدرسة ووسائل الإعلام والمؤسسات المختلفة التي تأخذ هذه الوظيفة من الأسرة؛ لذلك تعددت العوامل التي قد يكون لها دور كبير في التنشئة الاجتماعية سواء كانت عوامل داخلية أم خارجية.. هنالك عوامل اجتماعية أخرى كالثروة والحالة المادية وحتى مستوى التعليم مما تملك أقوى تأثير على أساليب تربية الأطفال وتستخدم من قبل والديهم حيث يكون الوعي أكثر نضوجاً نحو دورهم في التربية وكيف أنها من أهم المهام المنوطة بالوالدين وأخطرها.. مع كل ما فيها من صعوبات وتعقيدات ومشاكل وظروف متفاوتة.. إن مجموع العوامل الخارجية التي تحيط بالإنسان، والتي تؤثِر بشكل مباشر أو غير مباشر في تربية الصغار، تُسمى "المحيط".

وأهمّ هذه العوامل المحيطة التي تؤثر في الناشئة وكل من لهم التأثير على نمو المفاهيم لدى الصغار قد تشمل الدين ودور العبادة والأسرة والعلاقة الأسرية بين كافة الأفراد بشكل جماعي أو فردي، والمستوى الثقافي أو التعليمي ونوعية الصحبة من رفاق وأقران، والجو المدرسي بشكل عام، بل وحتى وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي والوضع السياسي والاقتصادي والثقافي للمجتمع المحيط بالأطفال !

ولا شك أن هنالك عوامل أخرى قد تلعب دوراً في ترسيخ مفاهيم سلبية لدى الصغار بسبب إصرار بعض الآباء على ممارسة أساليب تربوية غير مناسبة.. إما بسبب ما تربوا هم عليها ويظنونها هي الأنسب أو لأنهم يعتقدون أنها لم تكن مناسبة ويحاولون القيام بعكسها تماماً.. فالحماية الزائدة والتدليل وتوفير كل متطلبات الحياة والحرية التامة قد تأتي بنتائج عكسية على المدى البعيد.. وكذلك بعض أساليب المعاقبة والحرمان والتسلط والتناقض في الأقوال والأفعال والتذبذب في المعاملة، فكلها تؤدي إلى نمو مشاعر غير واضحة المعالم وبالتالي تؤدي إلى تفاوت وتناقض ردود الأفعال.

ربما يكمن ملخص القول هنا أن كل طفل منذ نعومة أظفاره يكون معرضاً لشتى أشكال المؤثرات المحيطة به وكلها تترك عليه بصمات.. ومن البديهي أيضاً أن العملية ليست بهذه السهولة والوضوح لنضع أصابعنا بكل يقين على مواطن الخلل.. ويبقى الطفل بيننا يتحمل كل ما ندلقه نحوه من أفعال ومحاولات وأساليب تربوية كل حسب قدراته وعلمه وثقافته.

كيف لنا إذن أن نلعب دوراً فاعلاً في توفير البيئة السليمة لنمو أطفالنا وحمايتهم من منغصات الحياة التي ستواجههم بلا محالة في مستقبلهم القريب والبعيد؟  كم من الوقت والجهد يمكن استثماره في هذا المجال وكلنا نعلم مدى صعوبة توافر ذات البيئة والقدرات لدى الجميع وبنفس النتائج؟  فكم هي نسبة العائلات التي قد تعيش ظروفاً صعبة في الأساس وتفتقر للقدرات المادية والمعنوية للولوج في خضم توفير أساسيات التربية السليمة؟  كيف يمكن للمجتمعات والهيئات والجمعيات المعنية بالأسرة والطفولة، وحتى وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، أن تلعب دوراً مسانداً للآباء والأمهات في حماية وتربية وتنشئة الأجيال القادمة قبل انفراط العقد وتبعثر الأحلام؟

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم