صحيفة المثقف

رشيد بناني: (رائية العرب) صرخة ألم ممزقة على شفاه أزيد من مئة شاعر

كثيرا ما يفاجئني الصديق الصحفي وصاحب (دار الوطن للصحافة والطباعة والنشر) عبد النبي الشراط بدعمه لتوجهات غير منتظرة، وإطلاقه لبرامج ومشاريع أصيلة مخالفة للمألوف أو تسير بخلاف الاتجاه السائد؛ وقد يظن المرء أول وهلة أن عمله ذاك يخالف منطق الأشياء وصيرورتها، ولكنه يكتشف سريعا حس الرجل الصادق وقدرته على إمالة كفة غير المألوف، أو غير المتوقع، في اتجاه ما هو عين الصواب. فلربما اكتنف غيرَ السائد لحظة غبار النسيان أو التناسي أو ربما التعتيم تحت ضغوط التعود، أو ضغوط آليات التحكم في توجهات الرأي العام عن طريق المفروض أو الممنوع، غير أنه سيظهر حتما حينما يجد من ينتبه إليه. وقد فاجأني هذه المرة حين أهداني مجموعة من الكتب التي تطوع بطباعة بعضها ونشرها على نفقة (دار الوطن) التي يملكها ويديرها؛ وتدور ثلاثة من هذه الكتب حول القصيد العربي العمودي التقليدي مع العناية بقصيدة عروبية مطولة عنوانها (رائية العرب) موضوعها التأسي لآلام العراق الشقيق. ولكن هذه الكتب الثلاثة وإن كانت توحي بالدوران في فلك الشعر العتيق في زمننا الذي يبتعد تدريجيا عن الشعر، أو تدور في فلك المطولات الشعرية (371 بيتا) في زمن السرعة وشعر الهايكو، فإنها في الحقيقة لا تكتفي بذلك؛ فرغم دوران هذه الكتب الثلاثة في فلك هذا العالم التراثي العربي الكلاسيكي فإنها ليست بعيدة عن العالم المفضل لدى هذا الصحفي المثقف والناشر، أي عن الواقع الدولي الراهن وعن عالم السياسة الطافح بالتدافع والنزاعات والآلام.

2389 رائية العرب

إن عنوان (رائية العرب)، وعنوانها الثاني (قصيدة وطن)، تستمد جزءا من تسميتها من قاموس تراثي عربي يحيلنا على قصائد كان لها وقع وتاريخ وقيمة، وإلى شعراء كبار قدماء مثل (لامية العرب) للشنفرى الجاهلي، و(لامية العجم) للطغرائي و(لامية الحِكَم) لابن الوردي و(لامية القضاء والأحكام الشرعية) للزقاق و(لامية الأفعال) لابن مالك... بالإضافة إلى رائية عمر ابن أبي ربيعة وميمية البوصيري ودالية أبي العلاء المعري واللائحة الشعرية التراثية طويلة بأسماء هذه الروائع المشهورة التي شغلت الأجيال واكتُفيَ أحيانا للدلالة عليها بذكر حرف رويها. إن نسبة كل واحدة من هذه القصائد إلى حرف رويها هي بمثابة تعريف ما لا يحتاج إلى تعريف، أو فقط بمثابة إشارة إلى علامة بارزة في الشعر المنظوم على ذلك الروي في مختلف العصور... ولا بأس أن تنظم الأجيال الحاضرة علامة من العلامات الجديدة التي تضاف إلى ذاكرة ديوان العرب.

ولا تقتصر الأواصر بين (رائية العرب) وهذه القصائد على الجوانب الشكلية المشار أليها وحدها، ولكن في الإمكان تلمس علاقات أخرى نجمع بينها، لاسيما مع (لامية العرب) للشنفرى التي يمكن اعتبارها بطريقة ما قصيدة سياسية لاحتوائها على احتجاج شديد على نظام القبيلة الجاهلية وتمركزه في بعض الأيدي وقسوته على الآخرين، مما أسفر عن ظاهرة الخروج على القبيلة، وأدى إلى ظهور طائفة الصعاليك الرافضين لظلم بني أمّهم :

أَقِيمُـوا بَنِـي أُمِّـي صُـدُورَ مَطِيِّـكُمْ               فَإنِّـي إلى قَـوْمٍ سِـوَاكُمْ لَأَمْيَـلُ

فَقَدْ حُمَّتِ الحَاجَاتُ وَاللَّيْـلُ مُقْمِـرٌ                وَشُـدَّتْ لِطِيّـاتٍ مَطَايَـا وَأرْحُلُ

وفي الأَرْضِ مَنْـأَى لِلْكَرِيـمِ عَنِ الأَذَى                   وَفِيهَا لِمَنْ خَافَ القِلَـى مُتَعَـزَّلُ

لَعَمْـرُكَ مَا بِالأَرْضِ ضِيـقٌ على امْرِىءٍ                سَرَى رَاغِبَـاً أَوْ رَاهِبَـاً وَهْوَ يَعْقِـلُ

وَلِي دُونَكُمْ أَهْلُـون: سِيـدٌ عَمَلَّـسٌ                وَأَرْقَطُ زُهْلُـولٌ وَعَرْفَـاءُ جَيْـأَلُ

هُـمُ الأَهْلُ لا مُسْتَودَعُ السِّـرِّ ذَائِـعٌ               لَدَيْهِمْ وَلاَ الجَانِي بِمَا جَرَّ يُخْـذَلُ

ولكن موضوع (رائية العرب) ليس الاحتجاج على القبيلة ولا هروبا منها أو دعوة إلى الاستئناس بوحوش الفلاة والطمأنينة إليها، ولكنها صرخة موضوعها حب الوطن وإعلان التشبث الشديد به، وهي أيضا صرخة ألم ممزقة على شفاه مائة شاعر وتسعة وثلاثين شاعرا (139) ينتمون إلى كل أقطار الوطن العربي من الماء إلى الماء، وبعضهم ينتمون إلى نفس الوطن، ولكن ظروف الشتات دفعت بهم إلى خارج المائين وبقيت قلوبهم أسيرة بلادهم. إن القصيدة بمعنى آخر صرخة من داخل القبيلة، على شفاه شعرائها الذين لا يُحصَون عددا، ناضحة بالألم على ما أصابها من شر، سواء من أبنائها العاقين أو من الغزاة الخارجيين الحاقدين. إنها مبادرة من شاعر مقيم في العراق (الدكتور صالح الطائي)، ودعوة وجهها إلى شعراء بلاده وإلى شعراء العالم العربي للمشاركة بأبيات من نظمهم في قصيدة واحدة فاستجابوا، وبادر لتلقي المشاركات وتنسيقها وتوحيد الرؤية فيها شاعر مهندس عراقي آخر مقيم في نيوزيلاندا (ضياء تريكو صكر)، ثم تلقفتها منهم (دار الوطن للصحافة والطباعة والنشر) في المغرب وتكفلت بطباعتها وتوزيعها.

حين يتمعن القارئ الحصيف في كلمات (رائية العرب) يجد صدى ألفاظ كل واحد من الشعراء المشاركين ومعانيه منطلقة من أفواه كل الآخرين، وكأن قائلها شاعر واحد؛ كيف لا وكلهم متألم نفذ بين ضلوعه خنجر الغدر حتى بلغ شغاف القلب، كيف لا وكلهم متألم لما أصاب بلاد الرافدين من التقتيل والتدمير وبث الفتنة والتفرقة والتفقير والنهب... ولكنهم كلهم مفصح عن الأمل في ثورة الشعب المظلوم واكتساحه لمساحات القهر لإعادة التوازن إلى البلاد التي اختل فيها التوازن... وهي كلها مصائب تهدد كافة أقطار هذا الوطن الكبير المثخن من الماء إلى الماء. ألم يعبر أمير الشعراء أحمد شوقي، حين ضربت دمشق بقنابل الاستعمار الفرنسي (سنة 1926م)، عن نفس معنى وحدة هذا الوطن، ووحدة المآسي والألم فيه حين قال:

فُـتوق الـمُلك تَحدُث ثم تمضي     ...     ولا يـمـضـي لـمُـخـتلفين فَـتـقُ

نـصحت ونـحن مـختلفون دارا     ...     ولــكـن كـلـنا فــي الـهـم شــرق

إن موضوع (قصيدة وطن) هو بدون شك التعبير عن آلام يعانيها العراق عقب غزو التحالف الأمريكي وما خلفه من ويلات وإعاقات، ولكنها تترجم أيضا آلاما عانت وتعاني منها الأجيال المتعاقبة، كما عانى ويعاني منها المواطن في كل البلاد العربية... مما يمنحها عن حق صفة قصيدة العرب أو (رائية العرب) أجمعين مصداقا لعنوانها. إنها قصيدة احتجاج في وجه الظلم و جأر بآلام تنعش في الذاكرة آلام أجيال متلاحقة من هذا الشعب الطيب عبر عن مثيل لها شعراء عراقيون كبار سابقون، مثل محمد مهدي الجواهري الذي يقول في رائعة سياسية من روائعه يبث فيها همومه لنهر دجلة :

يا دجلةَ الخيرِ يا أطيـــافَ ساحرةٍ     يا خمرَ خابيةٍ في ظلِّ عُــــــرْجون

يا سكتةَ الموتِ يا إعصــارَ زوبعةٍ     يا خنجرَ الغدرِ، يا أغصان زيتون

أدري على ايِّ قيثارٍ قد انفـــجرت     اتغامُكِ السُمرُ عن أنَّـــــات محزون

تهزين من خصْبِ جنَّات مــنشَّرةٍ     على الضفاف ومن بؤس المـــــلايين

لعلَّ يوما عصوفا جارفـــا عرِما         آتٍ فتُرضيك عقبـــــــاه وترضيني

يغلب على قصيدة (رائية العرب)، منذ مطلعها الذي نظمه الشاعر (الدكتور صالح الطائي) صاحب مشروع القصيدة، شعور الغضب والرفض والنذير، ثم الأمل في الثورة المطهرة التي تعيد الأمل للبلاد كما تعيد البسمة لوجوه الناس:

حذار من الهدوء إذا تفشى      فعند الفجر قارعة تثور

وألف حذار من صبر التلظّي      هو البركان تحضنه الصخور

ففي النسمات إشعال اللّواظي     وإن الأمر يا هذا خطير

فبعد الليل تنتفض الحكايا      ويكشف وجه ملحمة سُـفور

وتورق كلّ أحلام الضحايا     ويبزغ رغم عمق الجرح نور

وهو معنى يتكرر في كل مفاصل النص من أوله إلى الآخر، أو يتكرر صداه بمائة لون عند الشعراء المائة والنيّف الذين شاركوا في إنتاج لحمة القصيدة وسداها :

نعم يا شعب إن الصبح آت    وليل الظلم مرتعه خطير

غدا نأتي بجيل بعد جيل    يفك القيد كي يحيا الأسير

غدا نبني عراقا يعرُبيّا     فقل يا ظالمي أين المصير ؟

ومع ذلك نجد في القصيدة أبياتا رقيقة مفعمة بحب هذا الوطن الجميل والتغني بخيراته وناسِه وتاريخه الحافل وأمجاده عبر العصور، لكن معظم هذه الأبيات المتغنية بالمحبة لا يخلو، هو بدوره، من التنديد بالظلم والحرمان الذي تعانيه الفئات البسيطة من الشعب الكادح :

ولدتَ مع الزمان فكنت ندا     له بملاحم أنت الجدير

رويت برافديك تراب أرض    فلانت من حضارتك الدهور

قضيت العمر أبحث عن ملاذ   عراق الخير في دمّي يمور

فأرضك جنة والنار فيها    ودجلة كوثر والنخل حور

وخيرك يغمر الآفاق منها     وشعبك جائع  فيها فقير

أيا وطنا بك التاريخ غنى     وصلّت بين نهريك الدهور

ويمكنك القول إجمالا إن قصيدة (رائية العرب) أنشودة رقيقة وحزينة ذات معان متكررة عبر عدد من الأجيال، يرن في أعماقها نفس إحساس الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب وهو يتغزل بجمال بلاده وتناقضاتها من وراء مياه الخليج، عندما يقول :

عيناك غابتا نخيل ساعة السحر

أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر...

أو وعلى الخصوص حينما يقول مستشرفا غضبة الشعب ومندرا بها :

أَكَادُ أَسْمَعُ العِرَاقَ يذْخرُ الرعودْ

ويخزن البروق في السهولِ والجبالْ ،

حتى إذا ما فَضَّ عنها ختمَها الرِّجالْ

لم تترك الرياحُ من ثمودْ

في الوادِ من أثرْ .

ونعتقد في الختام أن القصيدة كانت موفقة تصورا وإنجازا، ولكننا نعتقد أن اشتراط ثلاثة أبيات لا غير على كل شاعر مشارك فيها، تفتح الباب بدون شك أمام أكبر عدد ممكن من الشعراء للمشاركة في هذا المشروع الأدبي والوطني المؤثر، ولكنه شرط كان يعوق الشعراء عن نظم المعاني المركبة التي تحتاج إلى الاستقصاء والتفصيل أو التحليل؛ لذلك تطغى على أبيات النص المعاني القصيرة والشعارات أحيانا، كما تطبعه بعض المعاني العمومية التي تتكرر باستمرار؛ وحبذا لو أتيح للشعراء المساهمة بأكثر من ثلاثة أبيات، إذن لطالت القصيدة أكثر على شاكلة عديد من المطولات والملاحم، ولتعددت وطالت وتكثفت فيها المعاني، ولتمكن الشعراء من الغوص في أحاسيسهم ومعانيهم بالتفصيل والوصف والحجاج.

 

الدكتور: رشيد بناني

باحث في الأدب والتراث، من المغرب فاس ـ المغرب

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم