صحيفة المثقف

صلاح حزام: هل ينجح الريف في ادارة المدينة؟

صلاح حزامالريف تاريخياً وفي كل العالم يسبق وجوده وجود المدينة، والمدينة كيان تقدمي جاء لاحقاً ليتجاوز شروط الريف. ظهرت القوانين العابرة للعشيرة والطائفة وظهرت اشكال الحكم العابرة لحكم زعيم القبيلة وظهر الاقتصاد الحديث والمؤسسات المختلفة في المدينة كالجامعات وغيرها.

من مؤشرات تقدم الدول تنموياً ازدياد اعداد السكان الذين يسكنون في المدن وتقلص سكان الريف ..

وتُصنّف اماكن سكن الناس على اعتبارها ريفاً ام حضر، على اساس توفر مجموعة من الخصائص العمرانية التي تتغيّر بموجبها صفة المكان من ريف الى حضر (مدينة).

وفي الدول المتقدمة يتقلص عدد سكان الريف باستمرار طبقاً للتقدم في عملية التنمية، حتى ان نسبة سكان الريف قد تصل الى ٢٪؜ من اجمالي السكان.

سكان الريف يعملون في الانتاج الزراعي، وبما ان استخدام التكنولوجيا الحديثة في الزراعة يتوسع باضطراد، فأن الحاجة للعمال الزراعيين تنخفض بشدّة مما يخلق فائضاً في الايدي العاملة التي تتجه الى المدن المزدهرة لكي تعمل في القطاعات المزدهرة كالصناعة والخدمات بعد تأهيلها وتدريبها.

سكان الريف والعاملين في الزراعية لهم بيئة ثقافية ومهنية واجتماعية مختلفة عن تلك السائدة في المدينة لاسيما في دول العالم الثالث كالعراق مثلاً.

فالعلاقات العشائرية والقيم الاجتماعية والولاءات تختلف عن تلك الموجودة في المدينة.

ابن خلدون عندما تناول هذا الموضوع، تحدث عن هذه الفروقات .

سكان الريف يلتفّون حول زعامات محلية تكون قبلية في الغالب ولهم اسلوبهم في العيش الذي يختلف عن ذلك الذي في المدن ..

ولكي لايذهب البعض الى مقارنة بغداد،على سبيل المثال، بالارياف التي تقع خارجها ليقول مُستنتجاً :ان بغدا اصبحت قرية كبيرة وليست مدينة عصرية.

دعونا نأخذ مدينة أخرى كبيروت او القاهرة ونقارن مالديها من مسارح وسينمات ومكتبات وجامعات ومعاهد ومؤسسات سياسية واجتماعية ونشاط اقتصادي وبنوك وشركات تأمين وشبكات مواصلات واتصالات الخ .. يعمل فيها مئات الآلاف من البشر،نقارن ذلك كله بما هو موجود في القرى والارياف !!

هذه الكيانات والنشاطات تنعكس حتماً على طبيعة تفكير الانسان وتصوراته عن الحياة وعن المستقبل . الانسان فيها يتعامل ويحتك مع الملايين من الناس من أهل البلد ومن الاجانب ويتعلم الدروس وينفتح ذهنه.

في الريف، الوضع مختلف وهنالك سيادة للنمطية في سياقات الحياة .

لذلك كله، لايجوز ان يحكم الريف المدينة لانه سوف يحكمها بعقلية الريف ولن يسمح لها بالتطور . ليس ذلك عملاً متعمداً، لكنها عقلية الريف المحافظة التي لاترى التطور ولاتعرف كيف تشجع عليه.

وحتى ان امتلكت الرغبة فانها غير قادرة، لان قيم الريف ونظرته للتراتبية والسيادة وصلاحية صنع القرار، مختلفة عن مثيلتها في المدينة تماماً.

نظرتهم الى الديانة المختلفة والقومية المختلفة والعِرق المختلف واللون المختلف والجنس المختلف (الانثى)، تجعلهم يتحسسون من ذلك الاختلاف !!

الولاء والقربى لديهم اهم من الكفاءة والمهنية !!

بعض الارياف فيها عنصرية وازدراء لبعض الجماعات ولاتستطيع العيش تحت إمرتها وسيادتها اطلاقاً حتى لو كلّف ذلك مستقبل التنمية !!

بل ان نظرتهم للتنمية قد تكون مختلفة نتيجة نمط العيش البسيط والزاهد والصوفي احياناً الذي يَعتبر المطالبة بالنماء نوع من الطمع والبذخ غير الضروري، خاصة عندما يدعمون ذلك بتفسير خاطيء او مُغرِض للنصوص الدينية.

وكان العراق تحت حكم الريف والقرية منذ الستينيات عندما وصل العسكريون للسلطة وأخذوا يجمعون الموالين من الاقارب وابناء القبيلة حولهم لضمان الولاء وخوفاً من الانقلابات، بعد ان اختفت مؤسسات التداول السلمي والديمقراطي للسلطة.

اذا لم يكن هنالك مؤسسات ديمقراطية، فالبديل هو الشخصانية والمزاج والتقدير الشخصي للمواهب والولاءات.

وهنا تكون الموهبة والمهنية اول الضحايا لذلك النهج .. وتتعثر مسيرة التنمية وتكثر الاخطاء ..

جاء الناس الى المدينة في العراق على شكل موجات نازحة واستوطنت هوامش المدن بحثاً عن فرصة افضل للعيش وهرباً من ظروف الريف البائسة التي اهملتها التنمية. لم يأتِ الناس الى المدينة بالتدريج كما حصل في اوربا عندما انخفضت الحاجة للعمل في الريف في مقابل ازدهار الحياة الاقتصادية في المدينة واشتداد الحاجة للأيدي العاملة .

لدينا جاؤوا الى حواشي المدن وهم يحملون قيمهم القديمة التي طغت على بدايات القيم المدنية المبكرة في المدينة وأزاحوها.. وازداد الأمر سوءاً عندما استولى ابناء الريف على السلطة.. وهنا اصبحت الأمور كما يعرف الجميع.. عند الازمات تستدعي سلطة ابناء الريف، كل قيم ومشاعر العصبية الريفية وتحيط نفسها بابناء القبيلة والمنطقة مفرطةً بكل الكفاءات المدنية .. بذلك ضاع حلم التنمية..

من يحتج بان ابناء الريف قاموا ببناء طريق او مصنع فاشل (بغض النظر عن الدعاية الحكومية، فأن الاغلبية الساحقة من مصانعها خاسرة وغير مجدية وتعمل بالدعم الحكومي او احتكار السوق من خلال منع استيراد المنتجات المشابهة) او بناية، اقول لهم هذه ليست التنمية الشاملة والمستدامة التي هدفها ووسيلتها الانسان .

في المقالة السابقة التي تتحدث عن اسباب عدم امتلاكنا حياة سعيدة، اشرت الى عدد من الممارسات التي افسدت حياتنا والتي هي امتداد لحياة وقيم وممارسات الريف.

 

د. صلاح حزام

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم