صحيفة المثقف

ظريف حسين: لماذا نؤمن؟!

ظريف حسينالإيمان الديني لا علاقة له بالمنطق العلمي فيما يتعلق بإمكانية وجود كائنات عالية،  بعكس كل إيمان وضعي آخر.

و من المفارقات التي يقع فيها العقل الملحد هو أنه لم يرَ هو نفسه كيف جاء إلي الوجود، ولا كيف كان ميلاده إلا ما حكاه له أهلوه ومعاصروه، ومع ذلك يجادل في وجود أصل غير طبيعي لوجود الأشياء جميعا دفعة واحدة وهو منهم.

و أعتقد أن أكبر حماقات العقل الملحد هو هوسه بالإيمان العلمي القائم علي الملاحظة والتجربة أو الرياضيات التي لا تضيف شيئا جديدا للوجود. فالعقائد العلمية موثوقة لأنها تري فعلا ما تقرره، وتتأكد منه باستمرار وبلا أدني شك. وبذلك لا يمكن قياس الحقائق الدينية علي الحقائق العلمية: فالحقائق الدينية مِلك معتنقيها فقط، ولا يمكنهم نقلها إلي غيرهم إلا إذا تعاطف معهم فيها هؤلاء.

لكن الأهم هنا هو المبدأ الأساس لكل الأديان وهو عدم كفاية التفسير الطبيعي لنشأة العقل والنظام الكوني الدقيق؛ فليس من الممكن- ولم نر حتي الآن- تفسير كيف نشأت الخلية الحية من مكونات غير عضوية، ثم مبدأ تطور الكائنات الحية باتجاه العقلانية ورُقِي الشعور، والوعي الذاتي.

ولخلفيتي العلمية فإنني لم أقتنع يوما بأي حجة من حجج الذين يروجون للإلحاد استنادا إلي الحجة الطبيعية، ومعناها أن "كل شيء جاء من الطبيعة ويظل فيها ولا يمكنه أن يتجاوزها"، أي أنه ببساطة يعتقد بأن "الطبيعة هي كل شيء"، وبذلك فلا حاجة بنا لإله عاقل مُريد قادر، ثم إنهم ينسبون كل صفات الله المعروفة في الأديان للطبيعة ويُسمُّون الله الطبيعة.

فأما غايتهم فعملية وهي التخلص من مثالب الأديان كما أفرزتها أفهام المتدينين عبر التاريخ فيما يتعلق باستغلال العقائد في صياغة قوانين ونظم اجتماعية تفرق بين الناس علي أساس طبقي يضع في الاعتبار القرب من الله والبعد عنه. وكانت هذه الاعتبارات وما زالت هي النقاط الأضعف في قلب الأديان، وقد جرت عادة النقاد أن يتلقفوا المتدينين بأطنان من السخرية من النتائج العملية للتدين، فقد قام المستغِلون سواء بحسن نية أم بغير ذلك بعمل كل شيء لتشويه الأديان، فضلا عن التفاسير التاريخية والاجتماعية والنفسية... للأديان بما يعيدها مرة أخري إلي حظيرة الطبيعة!

" فالله هو الطبيعة وبناء عليه فكل تفاسير نشأة الدين طبيعية أيضا، وبالضرورة". وهذه هي خلاصة نقد الأديان التي ينتجها ويعيد استهلاكها في كل لحظة العقل الملحد.

ولو عدنا إلي المعيار الوحيد للإيمان الديني فإننا نجده "الاعتقاد بإمكانية وجود أصل غير طبيعي لوجودنا". وهذا الاعتقاد ليس ضد العقل كما يزعم الملحدون إلا إذا اعتقدنا معهم بأن "العقل هو كل شيء تماما كالطبيعة".

ولكن سير الحياة يُثبت عجز العقل عن معرفة كيف نشأت العقلانية نفسها، ولماذا وُضع المخ في هذه العلبة المصفحة التي تسمي بالجمجمة، ولماذا أحيطت الرئتان بدلا من ذلك بشبكة من الضلوع المرنة، وقل مثل ذلك علي تأهيل كل شيء لأداء وظيفته طبقا لتكوينه، فمهما اصطنع الملحدون من حجج تستند إلي منطق داخلي في الطبيعة يجعلها حكيمة موجهة للكائنات بهدف الاستغناءعن فكرة الله، فإنهم لن يفعلوا إلا نقل الفعل من الله إلي الطبيعة، وكفي.

ولكن هذا الإيمان بعدم قدرة العقل عل الإحاطة بكل شيء لا يعني تسريب كل ما لا يُعقل، من خلال ثقوب هذا العقل الواسعة، كالموضوعات العامة للخرافات والحكايات والأساطير مهما كانت أشكالها والإدعاءات التي يروجها بعض المتدينين لاستغلال حاجات الناس للعزاء الكامل والدعم النفسي وحل المشكلات الشخصية والاجتماعية...فلم يترك المدَّعون فرصة لاستغلال غيرهم إلا اغتنموها، ولم يتركوا ثغرة إلا دخلوا منها، وكانت هذه وما زالت أخطر نقاط ضعف الدين بصفة عامة، كما أسلفت.

وتبقي الغاية من الإيمان وهي الشعور بالتوافق النفسي والاجتماعي والسعادة وتلقي العزاء من الله، والشعور بالأنس ضد وحشة هذا الوجود، فضلا عن إشباع فضول الإنسان لمعرفة كيف جييء به إلي هنا، ولماذا الآن!

 

د. ظريف حسين

أستاذ و رئيس قسم الفلسفة بجامعة الزقازيق،مصر

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم