صحيفة المثقف

احمد حسب الله الحاج: العلمانية أفيون الشعوب ونهاية التاريخ في السودان

الصراع بين الدولة الدينية كغول مقدس والدولة المدنية كتلفيق فكري والعلمانية

في 1927 كتب ويليام آدامز في مقدمة كتابه "النوبة  الرواق إلى إفريقيا"Nubia Corridor to Africa "ذهبت إلى النوبة لرؤية الإنسان البدائي فوجدت مهد الحضارة.

"”I went to Nubia to see the primitive man and I found the cradle of civilization.”

إذن عندما نكون في كوش، أو في مروي، أو في نبتة أو في أي مكان بالسودان نكون عندها في مهد الحضارة حيث تعلمت البشرية كيف تغفو وكيف تصحو وكيف تحلم مفتوحة العينين. وحيث تعلم الإنسان كيف يكون. حيث تعلم كيف يحبو، وكيف يخطو، ثم يتعثر ويكبو ويسقط وينهض ليتقدم في درب الحضارة خطوة بعد أخرى. وعندما نكون هنا، وعندما نكون هناك، وعندما نكون في أي مكان في السودان، نكون حيث ابتدأ التاريخ. كما أننا نشهد الآن، هنا وهناك، نهاية لبعض التاريخ: نهاية تاريخ ظاهرة بدأت تدخل مرحلة الطي.

ولتأسيس حجتي عن نهاية التاريخ لا بد لي من العودة إلى واحدٍ من أهم الكتب التي ظهرت في نهايات القرن العشرين. والكتاب الذي أعني هو كتاب فرانسيس فوكوياما "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"The End of History and the Last Man . وأبدأ بالقول إن فوكوياما أعاد مصطلح "نهاية التاريخ" إلى الواجهة بمقاله "نهاية التاريخ" الذي نشره قبل أشهر من سقوط جدار برلين في 1989. وأقول أعاد لأن المصطلح ليس له أصلاً، وإنما هو ملكية مشتركة لهيغل وماركس. وقد توسع ذلك المقال ليكون "نهاية التاريخ الإنسان الأخير" الذي صدر في 1992. ويبني فوكوياما حجته بنهاية التاريخ على معرفة وثيقة بالعملاقين هيغل وماركس، ولكنه يتوخى في كتابه تمييزا أكبر بين العالم المادي وعالم الأفكار أو الوعي. ويتمحور الكتاب حول فكرة أنه بعد هزيمة أهم منافسين للديمقرطية الليبرالية، وهما الشيوعية والفاشية، لم يعد هنالك منافس أيديلوجي لها. ويجدر بالذكر أن فوكوياما تعرض للإسلام المتطرف في "نهاية التاريخ" قائلاً إن الإسلام ليس قوة إمبريالية مثل الستالينية والفاشية، وإنما هو قوة قومية لا تتمتع بجاذبية فكرية أو عاطفية مؤثرة خارج "قلب الإسلام". وهذا يعني أنه على الرغم من أن الديمقراطية الليبرالية التي تمضي قدماً بقدم مع اقتصاد السوق لم تكمل سيادتها بعد على العالم، فإنه لم يعد هناك أي منافس حقيقي لها. وهذا يعني أيضاً أنه من الممكن حسم أي تناقض أساسي في حياة الإنسان في سياق الديمقراطية الليبرالية. كما يعتقد فوكوياما أنه بعد الوصول إلى "نهاية التاريخ" فإن العلاقات الدولية سوف تهتم في المقام الأول بالمسائل الاقتصادية ولن تعود معنية بالسياسات أو الاستراتيجية، وسيقلل ذلك بالتالي من احتمالات نشوب صراع عنيف دولي واسع النطاق. و"نهاية التاريخ" على هذا النحو تعني الوصول إلى نقطة النهاية للتطور الأيديولوجي للبشرية وسيادة الديمقراطية الليبرالية باعتبارها الشكل النهائي للحكومات البشرية.

وفي السنة التالية لظهور "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" نشر صمويل هنتنغتون مقالاً بعنوان "صراع الحضارات" يعتبر بمثابة رد على فرضية  نهاية التاريخ. ولكن الرد المباشر والنقد الحاد لما طرحه فوكوياما جاء به جاك دريدا في "خيالات ماركس: حالة الديَن، وعملية الحِداد والدولي الجديد Specters of Marx: State of the Debt، the Work of Mourning and the New International (1993) الذي اعتبر فيه فوكوياما "قارئاً متأخراً" لكتابات ألكسندر كوجييف الذي تعرضت لنفس القضايا في الخمسينيات. ويرى دريدا أن الحماسة التي استقبل بها "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" في الغرب هي تعبير عن أعراض القلق اليميني والثقافي الباحث عن ما يؤكد "موت ماركس". من جهة أخرى مثلما فعل فوكوياما، فعل هنتنغتون الذي عكف على توسيع مقاله ليظهر كتاب "صراع الحضارات Clash of Civilizations في 1996، بحجة أساسية تقول إن  الصراع الراهن بين الأيديلوجيات صراع مؤقت لا يقارن في حجمه وتأثيره بالصراع بين الحضارات، والذي لم يحسم بعد. وخصّ هنتنغتون الحضارة الإسلامية باهتمام خاص زاعماً أن للإسلام "حدود دموية"، وقد أثبتت صحة زعمه أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والتي وجد فيها فريد زكريا "نهاية نهاية التاريخ." وزاد من تأكيد ذلك نجاح تنظيم داعش في تأسيس "الدولة الإسلامية". ولكن القضاء على تلك الدولة تكفل بترجيح كفة "نهاية التاريخ" على كفة "صراع الحضارات". ولا يزال هذا الوضع قائماً مع توالي التقدم والنكوص.

وقبل المضي قدماً في تناول فرضية الصراع بين الدولة الدينية كغول مقدس والدولة المدنية كتلفيق فكري والعلمانية، أود توضيح أني لن أحاول مناقشة مكونات الدولة المدنية لأني غير مقتنع بوجودها أساساً، وسأتعامل مع الدولة الدينية من منطلق المنظور الذي تجلى في تجربتها في السودان، كما لن أسعى إلى عرض المسطور في العلمانية إلا في حدود ما تقتضيه الضرورة. وفي محاولتي للربط بين بداية التاريخ ونهايته أقول لقد شهدت الساحة السياسة والفكرية مؤخراً في السودان، حيث ابتدأ التاريخ، حيوية مبعثها خليط من التفاؤل والغضب بعد توقيع رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان وقائد الحركة الشعبية عبد العزيز الحلو على إعلان المبادئ الممهد لمفاوضات السلام الشاملة. ومنذ اللحظات الأولى احتدم نقاش لم يتوقف حول الإعلان، وحول ما سيقود إليه. وأهم ما يميز الإعلان هو أنه  نصّ على "تأسيس دولة مدنية ديمقراطية فيدرالية في السودان تضمن حرية الدين والممارسات الدينية والعبادات لكل الشعب." كما جاء فيه "أن لا تفرض الدولة دينا على أي شخص وتكون الدولة غير منحازة فيما يخص الشئون الدينية وشئون المعتقد والضمير كما تكفل الدولة وتحمي حرية الدين والممارسات الدينية، على أن تضمن هذه المبادئ في الدستور". والذي يميز الجدل هو أنه قد حدث في معظم الأحيان بين الأطراف المؤيدة بشكل عام لما تضمنه الإعلان، وقد تركّز جزء كبير منه على مسمى الدولة المدنية التي وجد فيها الكثيرون الحمى من الدولة الدينية دون أن يثيروا أنصارها بمصطلح العلمانية.

وعلى الرغم من أن ظواهر الأشياء تشير إلى غير ذلك، فإنها ليست سخرية قدر أن يأتي بمبادرة إعلان"المدنية" الجنرال الإسلامي البرهان. كما أن الإعلان الذي قد يبدو وكأنه شقلبة Somersault أيديولوجية قام بها البرهان فإنه في حقيقة الأمر ليس كذلك على الإطلاق. إضافة إلى أنه لو كانت لهذه المبادرة حسنة واحدة فستكون في أنها قد حرمت أنصار الكومبرادورية الجديدة من قولة “شكراً حمدوك". ولكن من جهة أخرى فإن فصل الدين عن الدولة بالنسبة للكومبرادوريين الجدد هو في أحسن الفروض هو قطعة بطاطس ساخنة Hot Potato لا يريدون لمسها، وإن كانوا لا يمانعون  من أن يلتقطها لهم شخص آخر من النار ويقلبها بين يديه حتى تبرد ثم يقبلوا عليها في نهم وحماسة. فهنا وفي مواضع أخرى فإن عبد الله حمدوك تجسيد صادق لكلمات تيودور روزفيلت "تلك الأرواح الباردة والخنوعة التي لم تتذوق تصراً أو تتجرع هزيمة"”… those cold and timid souls who neither know victory nor defeat.” أما تعبير الكومبرادورية الذي أعادني إلى أيام خلت، فهو مأخوذ من  ممارسة صينية حيث كان بعضهم يعملون كوسطاء او وكلاء في خدمة ألاوروبي خلال حقبة الاستعمار، وخلال مرحلة التحرر الوطني في آسيا وإفريقيا صارت الكلمة تطلق على المديرين المحليين والوكلاء التجاريين للشركات الأوروبية. وبعد اكتمال حركة التحرر غابت الظاهرة وتوارى المصطلح حتى أعادهما إلى الوجود أمثال عبد الله حمدوك.

هنالك جدل كبير يدور حول ما تفعله الدولة الدينية وما لا تفعله. ولكن من بين الأشياء التي تجيد فعلها نصرة الدين، أي دين، حيث لا يحتاج لنصرة. تنصره حين يكون دين الأغلبية. أما الدولة العلمانية فهي تنصر الدين، اي دين، حيث يكون بحاجة لنصرة، حين يكون دين الأقلية. فالعلمانية تنصر الإسلام في الهند وسط الأغلبية الهندوسية، كما تنصره في الصين الشيوعية، ومينامار البوذية، وأوروبا المسيحية، والولايات المتحدة الأمريكية. كما تنصر المسيحية في السودان وسط الأعلبية المسلمة. ولكن الفرد الذي يناصر العلمانية يكذب إذا قال إن نصرة الدين هي عنده الغاية الأولى. ولكنه عندما يختار العلمانية منهجاً تشريعياً، ويرتضيها خياراً سياسياً، يدرك أنها ستزود عنه وعن دينه، وعن الآخرين وعن أديانهم. لأنها عندما تحول دون تغول دينه على الآخرين وعلى أديانهم، فإنها أيضا تحول دون تغول أديان الآخرين على دينه. وعندما يسعى مناصر العلمانية للزود عن قيم  الديمقراطية والحرية والعدالة وحرية التعبير وحقوق الإنسان فإنه يخدم الدين بشكل مقصود وغير مقصود. ومناصر العلمانية عندما يفعل ذلك ينضم إلى سلسلة من الرجال الذين يعرفون متى وأين وكيف يفرقون بين المقدس والدنيوي. وفي انتباهه لذلك يفعل مناصر العلمانية ويقول ما فعله وقاله عبد المطلب بن هاشم وهو يلاقي أبرهة القادم لهدم الكعبة مطالباً بإبله: "أنا رب الإبل وللبيت رب يحميه." وبعد عودته بإبله من عند أبرهة ذهب إلى الكعبة يلوذ برب البيت مناجياً له ومستغيثاً به أن يحمي بيته من الغازي الغاشم: "لَاهُمَّ إن المرء يمنع رحله فامنع حلالك/ لَاهُمَّ إن المرء يمنع رحله فامنع حلالك/ جروا جموع بلادهم والفيل كي يسبوا عيالك/ أيا رب لا أرجو لهم سواك/ يا رب فامنع منهم حماك/ امنعهم أن يخربوا قراكا/ إن عدو البيت من عاداكا." غاية القول هنا هي إن مناصر العلمانية هو رب إبل الحرية والعدالة وحرية الفكر والتعبير. ولكن هذا لا يمنع من أن تكون جزءاً من همومه سدانة المسجد أو الكنيسة أو الكنيس أو المعبد أو الضريح أو المزار. وهو يفعل ذلك مع اهتمامه غير المتغول بما يفعله ويقوله ويؤمن به الاخرون. وهو يمضي في ذلك محاكياً ومردداً ما قاله فولتير"ربما لا أتفق مع ما تريد قوله، ولكني سأدافع حتى الموت عن حقك في أن تقوله.“ ولهذا التفكير تبعاته، فشواهد التاريخ تقول إن الفرد الذي يناصر العلمانية قد يموت من أجل اختياره، ولكنه لن يقتل في سبيل فرض قناعاته على الآخرين. أما على الجانب الآخر فبينما قلما يموت رجل الدولة الدينية من أجلها، فإنه كثيراً ما يقتل في سبيل فرضها على الآخرين.

وعلى المواطن العادي الذي لا يكترث لعلمانية الدولة أو لديمقراطيتها تذكُر أن الدولة الدينية هي التي جعلت من انفصال جنوب أمراً مُحتما، وأنه ما لم نسدل على دعاواها الستار فإن أجزاء أخرى من الوطن ستحذو حذو الجنوب. وأن لا تغرنه للحظة دعاوى الجهاد الكاذبة التي ترتفع بها عقائر دهاقنة الدولة الدينية لأن أنصارها لا يدافعون عن كعبة أو ينافحون عن عقيدة، وإنما يزودون عن آلهتهم المزيفة، آلهة المنفعة والمصلحة والجاه والمال والسلطة. ولا أدري للحظة لماذا حرصوا على تسمية مؤسساتهم بالأسماء القرآنية ولم يسموها باسماء تليق بها وتعبر عن حقيقتها مثل هبل ومناة وأساف ونائلة وطاغوت واللات والعزى. ولذات السبب كانوا يتخيرون ساحات جهادهم في حرصٍ بالغ ليستهدفوا في حروبهم المقدسة الضعفاء ويفتكوا في جهادهم المزيف بالمستضعفين، ويتقوا دوماً صولة المستأسد الحامي. وقد فعلوا هذا في جنوب السودان، ولكنهم لم يقكروا للحظة في فعله في الصين حيث تخضع النساء المسلمات للتعقيم القسري، ولم يفكروا في فعله وهم ينظرون إلى القدس الشريف وهو ينتهك كل يوم. ومع أن لسان قولهم قد يقول أحياناً أشياء نشتم فيها استنفار الهمم، فإن أفعالهم تظل تقول بلسان حالهم للمدافعين عنه ما قالته بنو إسرائيل لموسى: "إذهب وربك قاتلا إنا هنا قاعدون." يقولون ذلك لأنهم يدركون أنهم لو ذهبوا إلى هناك، حتى ولو أخذوا معهم قرودهم المؤمنة، فسيرسلهم  الإسرائيليون دن إبطاء، لملاقاة الحور العين.

ودعك عن الفعل، فحتى على مستوى الفكر يسارع أنصار الدولة الدينية دائماً إلى نصرة الطاغوت، ليس لأن ذلك طبيعة ثانية فيهم، وإنما لأن الاستبداد هو جزء أصيل من تكوين الدولة الدينية. وعلى الرغم من إمكانية قيام دولة علمانية مستبدة فإن العلمانية تظل شرطاً أساسياً لتأسيس الديمقراطية. وبسبب عدم الإحساس بقيم الديمقراطية والحرية والعدالة والمساواة عجز فقهاء الإسلام ودعاة الدولة الدينية عن أن يأتوا "بلاهوت تحرير" كالذي جاءت به الكنيسة الكاثوليكية في أمريكا اللاتينية. ولن تفلح أرواحهم الخاوية، ومعارفهم الضحلة، ومخيلاتهم العقيمة في أن تأتي بشيئ يشابه، ولو من بعيد، الذي جاء به مفكرو "لاهوت التحرير" من أمثال جوستافو قويتيريز وخوزيه كومبلين وأوسكار رومييز. ونقيضاً لذلك جاؤنا بمثل ما يتقيأه أبو اسحق الحويني:

"إذا نحن غلبنا، شيئ طبيعي حنفرض أحكام الإسلام على البلد الذي دخلناها. أ حكام الإسلام بتقول إن كل الناس الموجودين في البلد أصبحوا سبايا وغنائم. رجال نساء أطفال أموال دور حقول مزارع كل دي بقت ملك الدولة الإسلامية. طيب الناس السبايا دول مصيرهم إيه في الشرع؟ مصيرهم أنهم كغنائم يوزعو على المجاهدين. وهناك قانون كما في الحديث أن من لم يحضر الغزوة لا نصيب له في الغنيمة. معروف كدا. ما يحضرش الجهاد الغزوة مالوش نصيب في الغنيمة. طيب أنا دخلت على بلد وتعدادها مثلا نصف مليون، نعمل إيه في النصف مليون دول، قال لك المجاهدين دول نشوف عددهم كم.، كان مية ألف‘ خلاص، كل واحد ياخد خمسة، كل واحد ياخد خمسة المسألة تتنوع، تاخدلك اتنين رجالة واتنين ستات وعيل، أو العكس، آه، تقسم، جيد، الناس دول أول ما يحصل هذه المنظومة لا بد أن يقابلها شيئ اسمه سوق النخاسة، سوق النخاسة اللي سوق بيع العبيد والإماء الجواري والأطفال. تمام، كل راس من هذه الرؤوس بقالو تمن، فأنا دلوقتي عندي خمسة رؤوس مش محتاج حد منهم ومعذور في قرشين أعمل فبهم إيه؟ أعلق لهم المشنقة واتخلص منهم ولا أعمل إيه؟ قالك لا تروح تبيعهم في السوق، خلاص. لازم علشان ابيعهم يكون في سوق وحنبتدي نساوم، تشتري من دي بكم ودا بكم، يقول بتلتمية، لا خليها تلتمية وأربعتاشر، لا تلتمية وخمسين، هات، اشتري، يقبض ويمشي خلاص. أنا عندي ذنوب الكفارة بتاعتها عتق رقبة، أن أجيب منين رقبة علشان أطلع من الذنب بتاعي؟ لازم أروح اشتري، لا بد يكون في سوق بطريق الحال، أروح اشنري رقبة علشان أقولها، اقول لتلك الرقبة أنت حرة...

والذي يثير كثيراً من القنوط أن أبو اسحق الحويني ليس نشازاً فيما قاله إذ أن هنالك الألوف من تابعيه ومتابعيه الذين يحلمون باليوم الذي سيتشاركون فيه السبايا والغنائم وزيارة أسواق النخاسة العصرية في منتصف القرن الحادي والعشرين.

ولبعضٍ من الوقت كنت أفكر في أيهما أكثر بشاعة وخطرا، ما أفرزه خيال الحويني المريض، أم ذلك الذي جادت به قريحة عبد الحي يوسف المريضة في جواز إبادة ثلث الشعب من أجل استمرار الحكم الاستبدادي. ولكن مع إدراكي أن ما نصح به عبد الحي كان قاب  قوسين أو أدنى من الحدوث بينما تظل أوهام الحويني الرغبوية أضغاث أحلام شيخ مخبول، عرفت أي الوضعين أكثر بشاعة. لقد كشف الشيخ محمد عثمان صالح رئيس هيئة علماء السودان، أن الشيخ عبد الحي يوسف أفتى للمخلوع البشيربأن الإمام مالك أجاز قتل ثلث الشعب إن دعت لذلك الضرورة. وقال الشيخ صالح... إن عبد الحي قال ذلك بحضورهم خلال لقائهم البشيرفي  حدائق بيت الضيافة، وأضاف الشيخ صالح أنهم أنكروا على الشيخ عبد الحي تلك الفتوى التي قالها للبشير خلال ذلك اللقاء، إلا أن عبد الحي قال: إنه لن يكتم العلم.

واستنكر الكثيرون تلك الفتوى من عبد الحي يوسف، ولكن الغريب أن الذين استنكروها على عبد الحي يوسف لم يستنكروها على الإمام مالك. ولو استنكروا تلك الفتوى على الإمام مالك لاكتشفوا أنه لم يقل ما نسبوه إليه. ولكن الفقهاء الآخرين الذين لا يعارضون قتل ثلث الأمة لصلاح ثلثيها وجدوا في تلك الفتوى المبنية على حجية المصالح المرسلة ضالتهم التي تتيح لهم مؤازرة حكامهم دون تجشم عناء الاجتهاد الفقهي للخروج بحكم خاص بهم يتحملون وزر تبعاته. ولهذا اكتفوا بأن يلصقوا ذلك بمالك دون أن يأتوا بدليل يثبت عليه ما يدعون. ولكن ترديد ذلك قد انحسر وتراجع بعد أن نجح فقهاء المالكية في دحض ذلك الإفتراء على إمام دار الهجرة. وكمالكي، كغالبية مسلمي السودان، أرضاني ذلك كثيراً، مع اعترافي بأن قناعتي التي ورثتها بالإمام مالك قد تضاءلت هي الأخرى كثيراً بعد أن عرفت أنه يبيح للمرأة السوداء نزويج نفسها بنفسها لأنها "دنيئة".

إن الذي يمكن استخلاصه، بل يجب استخلاصه، من أقوال الحويني والعشرات من فقهاء الدولة الدينية الجهادية، هو أن العلمانية ليست مطالبة بأن تبرر وجودها. وإنما الدولة الدينية هي التي بحاجة قصوى لكي تبرر مجرد أن تفكر في طرح نفسها، ليس كبديل، وإنما كمساهم في التعاطي الفكري والسياسي الإنساني الذي ينتظم الثقافات كافة في هذا العصر. إن التخلص من التركة المثقلة المتراكمة عبر سنوات التخلف عن ركب الحضارة يمثل تحدياً عملاقاً لكل من يريد للدين الإسلامي أن يلعب دوراً يؤثر فيه ايجابياً  على مجريات الحياة الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأدبية والفنية المعاصرة.

والذي يمكن استخلاصه، بل يجب استخلاصه، من نصيحة عبد الحي يوسف للبشير هو أنه من بين كل الأنظمة الاستبدادية التي حكمت العالم لم يكن هنالك نظاماً أكثر شراسة وضراوة وتبجحاً وعنجهية من نظام الإنقاذ الذي كان أيضاً من أكثرها فساداً. وفي ظني أن المفكرين السياسيين عندما فكروا ووضعوا اشتراطات وتوصيفات وأسس نظام الكليبتوقراطية  Kleptocracy كالتعبير الصريح والواضح لدولة اللصوص، أو الدولة اللصوصية، لم يخطر ببالهم أن تأتي مجموعة تأخذ على عاتقها مهمة أن تذهب بذلك المفهوم إلى غايته القصوى ودركه الأسفل في زمن قياسي، وفي إجادة تامة، كما فعلت عصابة المشروع الحضاري.

بشكل عام ترتبط الكليبتوقراطية بالديكتاتورية الأوليغاركية أو الحكومات العسكرية أو غيرها من أشكال الحكومات الاستبدادية مثل الدولة الدينية. وجميع هذه الدول والنظم التي ذكرت لا يكون فيها الإشراف الخارجي صعباً، وإنما مستحيلاً. أما في سودان الإنقاذ فقد تضافرت كل تلك الأنماط لتجعل من المشروع الحضاري كائناً خرافياً مفترساً تلتهم رؤوسه الأربعة، والتي هي الديكتاتورية والأوليغاركية والعسكرية والدينية، الزرع والضرع وجميع ما فوق الأرض وما تحتها. ورمت بالإنسان في غياهب السجون وبيوت الأشباح. وقد جعلت هذه التركيبة المرعبة من الرقابة أمراً لا يمكن حتى مجرد التفكير فيه. وقادت الزمرة الحاكمة الدولة الكليبتوقراطية الموغلة في الجموح إلى غور سحيق لا قرار له من شهوات البطن والفرج والجمع والتكديس والغصب والسلب والنهب. وافترست الدولة الدينية المتوحشة الرجال والأطفال، وبخاصة النساء في دارفور وكردفان والنيل الأزرق بدرجة مريعة ومخزية. وقبل مرور طويل وقتٍ تحولت خزانة الدولة عندهم إلى مخزون مباحٍ ومتاحٍ ينفقون منه على الضروريات والكماليات والنزوات والشهوات وغيرها من تعبيرات البذخ المنفلت من عقاله عليهم وعلى زوجاتهم ومحظياتهم. ومثلهم مثل الكليبتوقراطيين في كل مكان أتقن لصوص الإنقاذ عمليات تحويل الأموال سراً وعلانية إلى حسابات مصرفية خارجية في دول أجنبية مثل سويسرا وماليزيا وتركيا ودول الخليج، وذلك لضمان استمرار حياة البذخ  التي تعودوها حتى الإدمان وهم الذين كثيرا ما تباهوا "بما لدنيا قد عملوا."

إن الدولة الدينية هي دولة "أبارتهايد" من نوعٍ مخيف لأنها تستمد مبررات وجودها زوراً من السماء. ومثلما كان يقال في جنوب إفريقيا إن كل شخصٍ أبيض في دولة الفصل العنصري إما مرتكباً لجريمة أو مستفيداً منها، فإن كل شخص في نظام الأبارتهايد الديني الأيديلوجي الشمولي إما مرتكباً لجريمة أو مستفيداً من جريمة. فبداية من تبرير وتقرير حق أن تحكم الجميع عصبة مشوهة عاطلة من كل فكر وفن وأدب وثقافة، ومروراً بالسيطرة المطلقة على كيف يفكر الناس، وماذا يقرأون ويكتبون ويدرسون، وماذا يسمعون ويشاهدون، وكيف يلبسون ويغنون ويرقصون، ونهاية بكيف يموتون ويدفنون، عملت الدولة الدينية على تشويه موروثات الماضي، وتفتيت معطيات الحاضر، وتبديد إمكانات المستقبل. إضافة إلى ذلك فكل مشارك في نظام الأبارتهايد الإنقاذي، وبلا استثناء، مارس بعضاً من أشكال اللصوصية الكليبتوقراطية المفترسة التي تنهش اللحم، وتهرس العظم، وتلفظ الفتات لتقتات به الجموع المهمشة. فالكليبتوقراطي هو بالضرورة إما سارق لمال او عقار أو منصب أو موقع أو مستثمر لصلات أو علاقات. وقد استفاد من هذه اللصوصية الإخوان والأقارب والمعارف والأصدقاء، واستفادت منها بصفةٍ خاصة الزوجات والمحظيات. ولكن الكليبتوقراطية لا تسطو فقط على الحاضر، وإنما تسطو أيضاً على المستقبل بشكل بشع يضمن استمرارية ذاك السطو حتى بعد زوال دولتها. فالكليبتوقراطية الإسلامية أعطت الأبناء فرصاً غير عادلة لضمان استمرار تفوقهم على أندادهم. وتتجلى مظاهر ذلك السطو في المنازل الضخمة، والسيارات الفارهة، والمزارع الوارفة، وفرص التعليم  المتميز داخل السودان وخارجه، والمأكل والمشرب، والعناية الصحية. والأبناء تمتعوا، ولا يزالوا، بكل هذه المسروقات في كنف دولة لصوصية منحتهم أفضلية لا يستحقونها.

وعلى ذكر جنوب إفريقيا، يقول رئيس الأساقفة ديزموند توتو: "عندما جاء المبشرون إلى إفريقيا، كان لديهم الكتاب المقدس وكانت لنا الأرض. فقالوا دعونا نصلي فأغمضنا أعيننا، وعندما فتحناها كان لدينا الكتاب المقدس وكانت لديهم الأرض." وهذا تماماً ما فعله دعاة الدولة الدينية في السودان. قالوا للناس هيا بنا إلى المساجد، فدخلوها، ولما خرجوا منها وجدوا أن الكليبتوقراطيين الإسلاميين قد استولوا على الأراضي والمتاجر والمنازل والحدائق والمزارع والمطاعم والمصارف والطرقات ووسائل المواصلات ومصادر المياه والطاقة والثروات والمدارس والمؤسسات والشركات والوزارات والسفارات والإذاعات والتلفزيونات والصحف والمجلات والنساء الجميلات، وفرضوا على البلاد من أقصاها إلى أدناها سلوكهم وأزيائهم وعاهاتهم وعاداتهم وتشوهاتهم ورغباتهم وصلفهم وعجزهم وقصورهم.

إن نظام الدولة الدينية الكليبتوقراطية في السودان لم يكن فاسداً حتى النخاع، وإنما كان فاسداً من النخاع لأن قوانينه فاسدة لا تبرر فقط للفساد وإنما تشرعنه من خلال قوانين يصرحون بها بلا ذرة حياء مثل قوانين وسياسات التمكين والتحليل والصالح العام وفقه الضرورة وضرائب الجهاد والاستشهاد. والكليبتوقراطية عادة ما تتفوق على نفسها وسط أجواء ومعطيات الافتصاد الريعي. وقد جعل الكليبتوقراطيون الإسلاميون من ذلك حال اقتصاد السودان الذي صيروه ريعياً يعتمد تماماً على النفط،، وحكموا عليه أن يعتمد الآن على الذهب. ولهذا باضت فيه  دولة الفساد وأفرخت، وتكاثرت، وامتلأت حواصلها، وطالت قوادمها، واشتدت براثنها، حتى ظنت بنفسها الخلود.

والقول بتطابق الوجود، وتزامن المسيرة، وتلاحم المصير بين الدولة الدينية والفساد في السودان ليست حصيلة رأي شخصي متحيز، أو نتيجة تحليل سياسي متحامل، وإنما هو واقع تثبته المعايير الدولية العلمية الموضوعية والمقننة وعلى رأسها "مؤشر تصور الفساد" Corruption Perception Index والذي كثيراً ما وصفته أبواق نظام الإنقاذ بأنه متحامل ومتآمر على نزاهة نظام الدولة الدينية، وهو ليس كذلك. فمنذ إدراجه ضمن دول "المؤشر" احتل السودان مركزاً متأخراً، إذ كان ترتيبه 106 من بين 133 دولة في سنة 2003. ومع إزدياد عدد الدول المدرجة ضمن المؤشر، ومع اشتداد قبضة النظام الكليبتوقراطي وتفوقه على نفسه في ابتكار وإتقان أساليب الفساد والإفساد، تأخر السودان ليحتل مقعده الدائم في مؤخرة الدول كالدولة رقم 172 أو 174 أو 175 أو 176 بين الدول التي لا تتجاوز 180 دولة، وذلك في رفقة تضم في معظم الأحيان دولاً من بين فنزويلا، واليمن، وغينيا بيساو، وأفغانستان، والصومال، وجنوب السودان، والعراق، ومينامار، وسوريا.

وبعيداً قليلاً عن نظام الإنقاذ، عندما ينظر المرء إلى حال الإسلام والمسلمين ستترسخ عنده قناعة أن الإسلام دين حق، ولو لم يكن كذلك لفتك به المسلمون من زمن بعيد. ولكن الدين الحق الذي ظل وسيظل قائماً حتى يرث الله الأرض ومن فيها، ليس هو دين السبايا والغنائم وتفخيذ الرضيعة وإرضاع الكبير. وليس هو الإسلام الذي يغض الطرف عن عشرات الآلاف من المسلمات يتعرضن للإغتصاب كل يوم في ميناماروحناجرهن ترتفع بالاستغاثة "وا إسلاماه" ولا من مجيب يقول "لبيك"، إذ أنه لن يهب لنجدتهن أحد من الملتحين المدججين باللحم والشحم، الكانزين للذهب، المضمخين بالعطور، العاشقين للحلوى، والمولعين بالنكاح.

لقد أنتجت دولة الاستبداد، رغماً عنها ولكن بسببها، مئات الألوف من الشباب الذي قدموا للعالم ثورة تضاهي في جسارتها أعظم الثورات التي عرفها العالم، ولا زالوا يقدمون كل يوم نماذج رائعة من الوعي والتجرد والإدراك. كما أخرجت الدولة الدينية بعد ثلاثين سنة من التجهيل المتعمد مجموعات من الشباب المبرمج لكي يكون مُتنمراً يريد أن يكون إرهابيا ذا خطرٍ ولا يجروء أن يكون. ومن هؤلاء أصحاب دعوة "خلي سوطك قريب" ومن لف لفهم الذين عليهم إن أرادوا لأنفسهم دوراً جهادياً أن يذهبوا بسياطهم إلى حيث هنالك حاجة لها. إلى مينامار حيث تكشف الفتيات المسلمات رؤوسهن قهراً، ويفتحن أفخاذهن قسراً، ويمارسن الجنس عنوة. ولكنهم لن يفعلوا، لأن المعركة هناك لن تكون بسهولة جلد فتاة عزلاء في شوارع المدن السودانية التي تتكدس فيها النفايات. ولكن حتى إن فعلوا فربما تحتال أنفسهم على عجزهم لتسول لهم توظيف سياطهم في منع المغتصبات من رفع أصواتهن بالعويل. ومن سنين قال مظفر النواب لأمثالهم من أدعياء العفة والطهارة والشرف الذين يملأون المساجد خطابة وتوعداً وضجيجا:

القدس عروس عروبتكم؟؟

فلماذا ادخلتم كل زناة الليل حجرتها

ووقفتم تسترقون السمع وراء الابواب

لصرخات بكارتها

وسحبتم كل خناجركم، وتنافختم شرفا

وصرختم فيها ان تسكت صونا للعرض؟؟؟

فما اشرفكم!

ويبذل نفرٌ من المفكرين السودانيين المتميزين جهداً كبيراً في الترويج لمصطلح "الدولة المدنية"على حساب مفهوم العلمانية. ومن بينهم د. الواثق كمير الذي يقول في مقال بعنوان "العلمانية في السياق السياسي السوداني: العودة إلى القانون الجنائي المدني !!" "وعلى شباب الثورة التي سقوها بدمائهم أن يدركوا أن شعار "مدنيااااوو" الذي يهتفون به لا يعني المدنية مقابل العسكرية، أو تعيين المدنيين مكان العسكريين، إنما يعني في جوهره إرساء دعائم دولة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات." ولكن شباب الثورة ليس بمقدورهم تبني ما يقترحه الدكتور بأثر رجعي. فالمدنية التي كانوا ينادون بها، ولا يزالون، هي مُطالبة واضحة المعالم ومُناهضة للاستبداد العسكري. وهنا تكمن بعض إشكاليات الدولة المدنية التي تظل إلى حين إشعار آخر بحاجة إلى المزيد من البحث والفحص والتمحيص. فالدولة المدنية ليست Self-explanatory بمعنى أنها ليست قادرة على شرح نفسها بنفسها مثل الملكية والجمهورية والاشتراكية والأرستقراطية والعديد من المصطلحات السياسية الأخرى. ود. كمير، بصفته أستاذ سابق للعلوم السياسية، يدرك تماماً أن تصنيفات الدول والحكم سواءأ جئتها من ناحية هياكل السلطة (كالفدرالية مثلاً) أو مصدر السلطات (كالديمقراطية مثلاً) ليس من بينها هيكل سلطة أو مصدر سلطات اسمه "الدولة المدنية". والجميع يعلمون أن الجماعات الليبرالية عندما استبدت بها الجماعات الدينية بعد نجاحها في "تجريم" كلمة العلمانية لاذت - الجماعات الليبرالية - بالفرار لتختبئ وراء ستار "المدنية" دون أن تدري بالكيفية التي دخل بها المصطلح الحياة السياسية في البلدان العربية. ومن بينهم أيضاً الأستاذ بابكر فيصل الذي يجيب على سؤال طُرِح عليه في سياق إعلان المبادئ الذي نصّ "على تأسيس دولة مدنية ديمقراطية فيدرالية في السودان تضمن حرية الدين والممارسة الدينية والعبادات لكل الشعب" عما هو موقف التجمع الاتحادي من العلمانية، وكيف يرى هو العلمانية؟ بقوله "نحن في التجمع الاتحادي مع مفهوم الدولة المدنية الديمقراطية المحايدة تجاه الأديان. ولن ندخل في الجدل واللغط حول العلمانية. وكما ذكرت لك سابقا نتيجة الفهم الخاطئ له، لأنه نشأ وتتطور في بيئة مختلفة، وحدثت كثير من التغييرات فيه. إذن نحن مع وقوف الدولة على مسافة واحدة من جميع الأديان. وفي إطار الدولة المدنية الديمقراطية. والتي أعتقد أنها تكفل بما طالبت به حركة عبد العزيز الحلو وجميع الحركات الأخرى. وهي دولة تقوم الحقوق والواجبات فيها على أساس المواطنة." ويدهشني هنا عزوف الأستاذ بابكر فيصل، ومعه الحركة الاتحادية، عن العلمانية لأن المفهوم "نشأ وتتطور في بيئة مختلفة"! ومبعث دهشتي أن هذا هو حال الديمقرطية أيضاً، ومع هذا لم نشهد بعد في التجمع الاتحادي أو في غيره من أعرض عنها لذلك السبب.

إن"المدنية" التي يُعول عليها الكثيرون هي "حصان طروادة" تكمن، إن لم تكن تتربص، بداخله مجموعات متناحرة تنتظر أن تفتح لها "أبواب المدينة". فهنالك "العلمانيون" غير الراضين بكلمة المدنية كبديل للعلمانية، وهنالك المدنيون الذين يريدون مسك العصا من وسطها، وهنالك المدنيون الحقيقيون، والذين هم الإسلاميون الذين ابتدعوا مصطلح "الدولة المدنية" في خمسينيات القرن الماضي في مصر ليفصلوا بين توجههم المدني والطبيعة العسكرية لثورة يوليو، وليؤكدوا أيضاً على القيمة المدنية لدولتهم الإسلامية. وعندما أجرت الكاتبة السورية أنجيل الشاعر حواراً مع المفكر الكردي جاد الكريم الجباعي في مجلة "حفريات" بتاريخ 12/5/ 2020 وسألته: "في كتابكم في الدولة الوطنية، تحيلون فكرة الدولة المدنية إلى سيد قطب زعيم جماعة الإخوان المسلمين، هل نفهم أن جماعة الإخوان المسلمين وراء هذه المطالبة بالدولة المدنية أم لكم رأي آخر؟" فيرد عليها الجباعي: "لقد وصفت شعار الدولة المدنية بأنه "تلفيق فكري وتلبيس سياسي"، قد أكون مخطئاً، ولكنني ما زلت عند هذا الرأي. لأن الشعار المذكور روجه الأخوان المسلمون في مصر وسورية، مع أنه متناقض على طول الخط مع مقولات حسن البنا، موسس جماعة الإخوان المسلمين: "الإسلام دين ودنيا ودولة .. مصحف وسيف"، التي تتبناها الجماعة، ومتعارض بالقدر نفسه مع مبدأ الحاكمية عند الجماعة، ومع مبدأ الدعوة والجهاد، والدعوة أساس التطرف والجهاد أو النضال أساس الإرهاب، عند الإسلاميين وغير الإسلاميين، كالبعثيين والشيوعيين."

ومن أجل المزيد من الاستيثاق من حقيقة التأسيس والترويج الإخواني لمصطلح/مفهوم الدولة يمكن النظر أيضاً إلى "اليقظة العربية: الإسلام والشرق الأوسط الجديد" The Arab Awakening- Islam and the New Middle East، London: Penguin Group، 2012 (114-116)  للمفكر الإخواني الإسلامي طارق رمضان حيث يقول إن هنالك تحولات غير ملحوظة قد حدث في خطاب الأخوان المسلمين، وكذلك عند بعض الحركات الإسلامية الأخرى والتي أخذت تتبنى سياسة "الوسطية" في العالم العربي الإسلامي. ويعزي رمضان هذا إلى ازدياد هيمنة العولمة وإلى أن الظهورالمضطرد لحركات إسلامية جديدة حال دون تأسيس حركة إسلامية شاملة وجامعة. كما يشير رمضان أيضاً إلى فشل الثورة الإيرانية في تحقيق الطموحات الإسلامية العريضة التي تتجاوز الخلافات الطائفية. ونتيجة لذلك قامت الحركات الإسلامية المعتدلة، بحسب رمضان، بمراجعة مصطلحاتها وعكفت على إعادة تعريف مفاهيمها. وكنتيجة لذلك وضعت الكثير من الثقل على مصطلح "الدولة المدنية". وطارق رمضان، لمن لا يعرفه، هو حفيد حسن البنا مؤسس حركة الإخوان المسلمين، وقد كان يحتل مكانة مرموقة وسط المؤسسات الأكاديمية الغربية حتى سقوطه المدوي تحت طائلة القانون متهماً بأكثر من حالة اغتصاب وتحرش.

ووضعاً للذي ذكرت أعلاه في الاعتبار أود توجيه سؤال للأستاذ بابكر فيصل هل تكفي حقيقة نشوء مصطلح ومفهوم "الدولة المدنية" عند سيد قطب لترموا بها بعيداً كما رميتم بعيداً بمفهوم العلمانية؟ أم أنكم بحاجة إلى ما يؤكد لكم أنها، كما قال الجباعي، "تلفيق فكري وتلبيس سياسي؟" وأريد أن أقول هنا إن من بين الأشياء "المدنية" التي تحمل دلالات واضحة في حياتنا الهندسة المدنية، والمجتمع المدني، والعصيان المدني، والقوانين المدنية، والقضايا المدنية، والحريات المدنية، والخدمات المدنية، والسلطات المدنية، ولكن ليس من بين مسئوليات وتداعيات أيأ منها الفصل بين الدين والدولة. ويقودني هذا للقول إن العلمانية تعاني بين مناصريها والمتعاطفين معها من ثالوث الإغراق في الرصد التاريخي، والانشغال بالتفسيراللغوي، وضعف الاقتناع. وعلى الجانب الآخر تعاني العلمانية من ثالوث الجهل والكذب والعصبية الفكرية. والجدل الذي يدور حول العلمانية اليوم في السودان يستدعي ما قاله الشاعر الإيرلندي دبليو بي يتس “The best lack all conviction، while the worst are full of passionate intensity.”  "الأفضل يفتقدون كل قناعة، بينما يمتلئ أسوأهم بحماسة جياشة." وإذا كانت جزئية القول الأولى تنطبق على بعض مناصري العلمانية، فإن جزئيته الثانية تنطبق بشكل يكاد أن يكون كاملاً غلى مناوئيها.

وعندما أستعيد "بينما يمتلئ أسوأهم بحماسة جياشة" أجدني أفكر في عدد من المناوئين للعلمانية من بينهم د. محمد عبد الله كوكو الذي نشر في "أوراق برس" مقالاً بعنوان "للذين لا يعرفون العلمانية" يتحدث فيه عن العلمانية حديث العارفين، وهو لا يعرف. والدكتور هنا مثل معظم الذين يتحدثون عن العلمانية يظنون بأنفسهم حصافة تتيح لهم معرفةً محجوبةً عن بقية الناس فلا يضيعوا وقتاً قبل أن ينصبوا من أنفسهم عليهم نصحاء ومرشدين. والدكتور أيضاً مثل العديد من الناصحين الحصفاء لا يحرص على علاقة طيبة باللغة، ومثلهم أيضاً له من ضحل الثقافة وضعيف المعرفة نصيب كبير. فهو يبدأ حديثه قائلاً: "لايمكن أن نقبل تعريف العلمانية إلا من جهة أوربية رسمية، لماذا؟ لأن الأوربيين هم الذين أنتجوا العلمانية واخترعوها ومارسوها." ثم يمضي الدكتور للاستدلال بالمصادر "الأوربية" الثلاثة التي اختارها وهي: دائرة المعارف البريطانية، وقاموس ويبستر، وقاموس اكسفورد. ويكفي هذا القول وحده ليدرك القارئ المستنير أن هنالك ما ينذر بعواقب وخيمة لأن قاموس ويبستر أمريكي وعليه لا يجوز إدراجه ضمن المصادر "الأوربية" التي أكد الدكتورأنه لن يقبل تعريفاً إلا منها. ولكن لنضرب عن ذلك صفحا لنرى ماذا ينقل الدكتور عن ويبستر "الأوربي".

يزعم الدكتور أن القاموس "يقول عنها (أي العلمانية) (هي نظام من التطبيقات والمبادئ يرفض اي شكل من أشكال  الإيمان والعبادة) وفي موضع آخر يقول ويبستر: (هي نظام اجتماعي مؤسس على وجوب قيام الأخلاق على الحياة المعاصرة دون النظر إلى الدين)." بينما يقول القاموس عن العلمانية ما هو مكتوب أدناه. وقد حرصت على إيراد التعريفات التي وردت في المصادر التي ذكرها الدكتور في لغتها الأصلية قبل ترجمتها حتى يتسنى للقارئ التحقق منها ليدرك أن الدكتور لا يترجم، وإنما يؤلف.

“Definition of secularism: indifference to or rejection or exclusion of religion and religious consideration.”

"تعريف العلمانية: اللامبالاة تجاه أو رفض أو استبعاد الدين والاعتبارات الدينية."

“The belief that religion should not play a role in government، education، or other public parts of society.”

"الاعتقاد بأن الدين لا ينبغي أن يلعب دوراً في الحكومة أو التعليم أو الأجزاء العامة الأخرى من المجتمع." وهذا يعني أن ما أورده الدكتور، وبخاصة "يرفض أي شكل من أشكال الإيمان والعبادة" لا علاقة له إطلاقاً بقاموس ويبستر، إلا إذا هنالك فعلاً قاموس ويبستر "أوربي" كما يقول الدكتور، وكما يكتب أوروبي.

ويزعم الدكتور أن مصدره الثالث، وهو قاموس أكسفورد، يُعرف العلمانية "(بأن معناها : دنيوي أو مادي، ليس دينيا ولا روحيا) وفي موضع آخر يقول لا ينبغي للدين أن يكون أساسا للتربية والأخلاق)."

بينما يقول قاموس أكسفورد:

"Secularism is the belief that religion should not be involved in the organization of society، education، etc."

وترجمتها: "العلمانية هي الاعتقاد بأن الدين لا ينبغي أن يشارك في تنظيم المجتمع والتعليم وما إلى ذلك." وهي، كما هو واضح، لا علاقة لها "بدنيوي أو مادي أو ليس ديني أو روحي" كما يدعي الدكتور. إضافة إلى ذلك فإن الإدعاء بأن القاموس يقول "لا ينبغي للدين أن يكون أساسا للتربية والأخلاق" هي محاولة لا أخلاقية للتشويه. أما ترجمة education على أنها "تربية" فلا تدل على سوء النية بقدر ما تدل على ضعف اللغة.

وقاموس أكسفورد يقول أيضاً عن العلمانية:

"The term was coined c.1850 to denote a system which sought to order and interpret life on principles taken solely from this world، without recourse to belief in God and a future life. It is now used in a more general sense of the tendency to ignore، if not to deny، the principles of supernatural religion."

وترجمة ذلك: "تمت صياغة المصطلح في 1850 لتحديد نظام يسعى إلى ترتيب الحياة وتفسيرها وفق مبادئ مأخوذة فقط من هذا العالم، دون اللجوء إلى الإيمان بالله والحياة الأخرة ويتم استخدام المفهوم الآن بشكل أكثر عمومية ينحو إلى تجاهل، إن لم يكن رفض، المبادئ الغيبية للدين."

أما إذا جئنا إلى مصدر الدكتور الأول وهو "دائرة المعارف البريطانية" التي يزعم الدكتور أنها تقول عن العلمانية secularism "(هي حركة اجتماعية مضادة للدين وتهدف إلى صرف الناس عن الإهتمام بالدار الآخرة إلى الإهتمام بالدنيا وحدها)" فلا أقل من أن نقول أن الدكتور تغوّل عليها وتقوّل، لأنها تقول:

"SECULARISM، a term applied specially (see Secular) to the system of social ethics associated with the name of G. Holyoake (q.v.). As the word implies، secularism is based solely on considerations of practical morality with a view to the physical، social and moral improvement of society. It neither affirms nor denies the theistic premises of religion، and is thus a particular variety of utilitarianism. Holyoake founded a society in London which subsequently under the leadership of Charles Bradlaugh advocated the disestablishment of the Church، the abolition of the Second Chamber and other political and economic reforms."

وترجمة ذلك "العلمانية: مصطلح يطبق بشكل خاص (انظر علماني) على نظام الأخلاق الاجتماعية ويرتبط باسم جي هوليوك. وكما توحي الكلمة فإن العلمانية تقوم فقط على اعتبارات الأخلاق العملية بهدف تحسين الجوانب المادية والاجتماعية والأخلاقية للمجتمع. والعلمانية لا تؤكد ولا تنفي الافتراضات التوحيدية للدين، وبالتالي فهي نوع خاص من توخي المنفعة. وقد أسس هوليوك جمعية في لندن ودعا لاحقاً تحت قيادة تشارلس برادلو إلى إلغاء الكنيسة والمجلس الثاني (مجلس اللوردات) وتنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية." وعليه فإن "حركة مضادة للدين هي من "كيس" الدكتور، ويزيدها سوءاً أن "بريتانيكا" تقول إن العلمانية "لا تؤكد ولا تنفي الافتراضات التوحيدية للدين."

ويضيف د. محمد عبد الله كوكو إلى حشف نقده للعلمانية سوء كيلة موغل في التطفيف عندما يواصل حديثه محاولاً تشريح العلمانية باللجوء إلى شيئ من الاشتقاق Etymology. والاشتقاق مركب صعب بالنسبة للذين يعرفون، فما بالك بالذين لا يعرفون، والذي ينبغي عليهم أن يدركوا أن البحث يحتاج مع المعرفة والدراية الحزم والصبر والصرامة، وهذا جميعه تفتقده كتابة الدكتور التي تمضي إلى حيث يذهب بها الهوى. وكما قال أكثم بن صيفي "والحَزْمُ مَرْكَبٌ صَعْبٌ، والعَجْزُ مَرْكَبٌ وَطِيئٌ، آفَةُ الرَّأي الهوى، والعَجْزُ مِفْتاحُ الفَقْرِ..." وأشنع أنواع الفقر بؤس المعرفة. والذي جرني إلى الاشتقاق هن أن الدكتور يقول: "يبقى كلمة العلمانية (secularism) ما عندها اصلا علاقة بالعلم والعلماء فهي بعيدة عن كل ترجمات العلم ومشتقاته مثل: العلم science المعرفة knowladge التعليم learning والدراسة studiedness المعلومات information". وقد لا تكون للعلمانية علاقة بالعلم والعلماء، وهذا زعم مشكوك فيه. ولكن الأمر المؤكد هو أن علاقة د. محمد عبد الله كوكو بالعلم والعلماء جد ضعيفة. وهذا أمر مؤسف لشخص يحمل درجة الدكتوراة وقضى الجزء الأعظم من حياته المهنية يعمل في محال التعليم. فمن بين الكلمات الخمس التي اختارها الدكتور للتدليل على أن العلمانية "بعيدة عن كل ترجمات العلم والعلماء" أصاب في اثنتين وأخطأ في ثلاث. أصاب في العلم science والمعلومات information، وأخطأ في التعليم learning لأن التعليم هو education بينما learning هي التعلم. وعندما نأتي إلى المعرفة فهي knowledge وليست knowladge كما كتبها. أماstudiedness  فإنه حقاً يستحق عليها الثناء، لأنه أضاف إلى اللغة الإنجليزية كلمة لم توجد بها قبلاً.

ولا بد لي من التنويه هنا إلى أنني في تناولي لما طرحه د. محمد عبد الله كوكو حرصت على أن لا أنزلق إلى الخوض في نقاط جدلية تخضع للأخذ والرد، لأني لا أريد أن أتيح له مخرجاً ينفذ عبره من المأزق الذي وضع نفسه فيه: مأزق عدم الدراية في استخدام المصطلحات "الأوربية" والاشتقاق والترجمة من اللغة الإنجليزية وإليها. ولكني أريد التوقف عند نقطة واحدة عنده وهي قوله "مستحيل تقول أنا علماني ومسلم في نفس الوقت انت يا علماني يا مسلم." وكل من يقرأ ورقتي بشيئ من الاهتمام سيدرك أنني أيضاً لا أعتقد في إمكانية أن يكون المرء مسلماً وعلمانياً، ليس لسبب خاص بالإسلام، إذ أن هذا الرفض يمتد ليمنع أن يكون المرء مسيحياً وعلمانياً، أو هندوسيا  - أو أي دين أو معتقد آخر- وعلمانياً في نفس الوقت. ولكن ذلك ليس، كما يقول الدكتور، لأن "العلمانية والاسلام عبارة عن خطين متوازيين لا يلتقيان ابدا"، أو لأن على المسلم أو المسيحي أو الهندوسي أن يتخلى عن ديانته أولاً قبل أن يكون علمانياً، وإنما لأن هنا خط واحد لا غير، وهو خط الدين.  وهذا يعني بالضرورة عدم إمكانية أن يكون الفرد من أي دين وملة علمانياً على الإطلاق. فالدولة قد تكون علمانية أو لا تكون، ولكن الفرد لا يمكن أن يكون علمانيا أو غير علماني، ولكن بمقدوره أن يكون مناصراً للعلمانية أو مناوئاً لها إن شاء.

وذلك لأنه إن كان هنالك توصيف لشيئ "يسعى إلى ترتيب الحياة وتفسيرها وفق مبادئ مأخوذة فقط من هذا العالم، دون اللجوء إلى الإيمان بالله والحياة الأخرة"، و"يتم استخدامه بشكل أكثر عمومية ينحو إلى تجاهل، إن لم يكن رفض المبادئ الغيبية للدين"، ويتصف "باللامبالاة تجاه أو رفض أو استبعاد الدين والاعتبارات الدينية"، و"الاعتقاد بأن الدين لا ينبغي أن يلعب دوراً في الحكومة أو التعليم أو الأجزاء العامة الأخرى من المجتمع"، و"أن لا ينبغي للدين أن يشارك في تنظيم المجتمع والتعليم وما إلى ذلك"، والعمل على"تحسين الجوانب المادية والاجتماعية والأخلاقية للمجتمع"، بينما "لا يؤكد ولا ينفي الافتراضات التوحيدية للدين، وبالتالي فهو نوع خاص من توخي المنفعة،"، فمن المؤكد أن ذلك الشيئ الذي تناوله التوصيف هو نظام دولة، وليس ميول واختيارات فرد مهما كبر حجم قدراته وعظم قدر طموحاته.

ومع أن هذا لا يسعدني كثيرا، أجد صعوبة في الابتعاد عن ما كتبه د. كوكو دون أن أتسآل عما إذا كان يحق لأي شخص أن يطالب جامعة مرموقة مثل جامعة الجزيرة بسحب درجة الدكتوراة من شخص جلب لها سوء السمعة bringing it into disrepute بإظهار كل هذا القدر من الجهل في منبر عام؟ ولكن مثل هذا الطرح، بالمعاني كافة التي تحتملها الكلمة، ينادي بضرورة إنشاء هيئة متخصصة تقوم بمراجعة درجات الدكتوراة التي تغرق الساحة الفكرية بالضحالة والركاكة والإسفاف. أقول هذا مدركاً درجة الغلظة التي انتهجتها في تعاملي مع ما طرحه د. محمد عبد الله كوكو، ولكني لا استهدف الفرد هنا بقدر ما استهدف  ظاهرة ضعف الكفاءة الأكاديمية التي يزيدها سوء القصد قبحاً وقتامة. وعلى صعيدٍ موازٍ يثبت ما كتبه الدكتور أن مناصري الدولة الدينية يعتقدون أن الكذب براعة وأن التضليل مهارة. وهذه هي الوهدة التي تقبع بداخلها ثقافتنا التي أقعدوها بعجزهم وقصورهم. ومن بين جميع مثالبنا ليس هنالك أوجع من أن أعظم محفوظاتنا ضد الكذب حديث مكذوب (حديث أن المسلم لا يكذب)، وليس هنالك أسخف من أننا نكذب على أكبر كذاب في تاريخنا (مسيلمة الكذاب)، وليس هنالك أتعس من أنه إذا قال بعضنا "يحصل خير" فإنه لن يحدث، وليس هنالك أبشع من أن أحدنا إذا قال إن شاء الله فإنه لا يعنيها، ونعلم جميعاً أنه لا يعنيها.

وبسبب إعلان المبادئ انطلقت دعوات تنادي بتنفيذ المزيد من الدراسات لتفسير وتبرير العلمانية. ومع أني لا أرى ضرورة لذلك لأن ما كتب عنها (مثل كتابات جورج طرابيشي: العلمانية في الخطاب العربي، العلمانية مطلب إسلامي، هرطقات عن العلمانية كإشكالية إسلامية 1- 2، ) كافٍ لتوضيح ما هي  العلمانية وما هي التحديات التي تواجهها في العالم الإسلامي، فإن أي كتابات سودانية ستشكل مساهمات ذات قيمة وتأثير. ولكن الانتصار الوجداني والقبول العريض للعلمانية لن يتم على صفحات الصحف ومواقع الإنترنت التي تغشاها القلة المثقفة، وإنما على ساحة التفاعل مع قطاعات عريضة من المواطنين. ولهذا قد يقول قائل من بينهم إن النعي الذي أكتبه مشيعاً به الدولة الدينية مبكرٌ في توقيته لأنها لم تلفظ أنفاسها الأخيرة بعد. ولكن الذي لا شك فيه هو أن مرحلة طي الإسلام السياسي قد بدأت مع الانتباه إلى أن السودان كان ولا يزال مهيأ وجدانياً أكثر من غيره لاحتضان الدولة الدينية. فالعاطفة الدينية فيه جياشة ولا حدود لقدرتها على التطرف. وفي هذا السياق علينا أن نضع في الاعتبار أن السودان قد احتضن بشكل عريض، أكثر من أي بلد آخر، أقصى تعبيرات التطرف الإسلامي متمثلة في الوجود المعاش لفكرتي "المهدي" و"الختم".

ويزيد من تعقيد الأشواق والأوجاع والطموحات والمطامع الإسلامية في السودان، الطرائق التي دخلت بها الطوائف الإسلامية البلاد والتي جعلت منه غازياً ولاجئاً في نفس الوقت. فعلى جانب الغزو نجد طوائف التدين المتجهم الكئيب الذي جاءت به معاهدة البقط التي تكرس دونية بلاد السودان وأهلها، والتي ينص البند السابع فيها على التالي:

" وعليكم فى كل سنة ثلاثمائة وستون رأساً تدفعونها إلى إمام المسلمين من أوسط رقيق بلادكم غير المعيب، يكون فيها ذكران وإناث، ليس فيها شيخ هرم ولا عجوز ولا طفل لم يبلغ الحلم، تدفعون ذلك إلى والي أسوان.8. وليس على مسلم دفع عدو عرض لكم ولا منعه عنكم من حد أرض علوة إلى أرض أسوان. فإن انتم آويتم عبداً لمسلم أو قتلتم مسلماً أو معاهداً أو عرضتم للمسجد الذي ابتناه المسلمون بفناء مدينتكم بهدم أو منعتم شيئاً من الستمائة رأس والستين رأساً فقد برأت منكم هذه الهدنة  والأمان وعدنا نحن  وأنتم على سواء حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين."

وأزعم، وقد لا أكون بعيداً عن الصواب في زعمي، أنه من الممكن اقتفاء الجذور المموهة والمخفية للأيديلوجية "الكيزانية" المؤسسة على الاستعلاء والغصب والسلب والإتجار بكل شيئ في اتفاقية البقط، كما يمكن العثور على أصل مكونات سلوكهم الانتهازي المخادع والمخاتل والمتربح في النموذج الأوليprototype  الذي يمثله عبد الله بن أبي سرح. أي نموذج الشخصية التي تدعي وتلفق وتفتري، والتي كانت غزواتها في شمال إفريقيا حصداً للغنائم. عن هذا يقول الليث بن سعد "بلغ السهم للفارس ثلاثة آلاف دينار، وللراجل ألف دينار." والسودانيون يحتفون بعبد الله بن أبي سرح دون أن يعرفوا عنه إلا أقل القليل. والذين يعرفون عنه ما يكفي لا يكفون عن بذل التبريرات لتخفيف مثالبه، وهي جليلة. وتتلخص في أنه عندما دخل ابن أبي سرح الإسلام كان ممن يكتبون الوحي، ثم أرتد وعاد إلى مكة حيث كان يقول كاذبا ً متبجحاً إذا أملى علي محمد سميعا عليماً كنت أكتب: عليماً حكيماً،  وإذا أملى علي عليماً حكيماً، كنت أكتب: سميعاً عليماً، وهو لا يمانع. وكان يقول: إن كان محمد يوحى إليه فقد أوحى إلى، وإن كان الله ينزله فقد أنزلت مثل ما أنزل الله. كما وشى ببعض المسلمين الذين كانوا يتسترون على إسلامهم فأخذهم كفار قريش وعذبوهم حتى كفروا. ولهذا عند فتح مكة كان ابن أبي سرح واحداً من أحد عشر شخصاً أمر النبي بقتلهِم ولو وجدوا مُتعلقين بأستار الكعبة. ولما كان أخ عثمان بن عفان في الرضاعة إختبأ في منزله فأخذه عثمان معه حنى وقف بين يدي النبي وقال يا رسول الله: إن أمه كانت تحملني وتمشيه وترضعني وتقطعه وكانت تلطفني وتتركه فهبه لي، وأكب عُثمان على رسول الله يُقبل رأسه وهو يقول يا رسول الله، تُبايعه، فداك أبي وأمي يا رسول الله. فصمت النبي طويلاً ولم يبايعه إلا بعد الثالثة. وبعد رحيلهما التفت النبي إلى أصحابه وقال: "أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا حَيْثُ رَآنِي كَفَفْتُ يَدِي عَنْ بَيْعَتِهِ فَيَقْتُلُهُ؟" وحتى بعد مبايعته للرسول ظل لا يظهر وجهه له ويفر منه، وإذا قابله صدفةً يُسلم عليه ولا يضع عينه في عين الرسول خجلاً مما فعله. ويقول الطبري وبعض المفسرين إن "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ" نزلت في مسيلمة بن حبيب وعبد الله بن أبي سرح.

وعلى جانب اللجوء نجد الإسلام المتسامح والمتصالح مع نفسه ومع الآخرين الذي تسلل مع الرعاة وتناغم بسهولة مع التقاليد المحلية والأساطير النوبية ليشكل عقيدة، أو إن شئت طرقاً وفرقاً صوفية تجمع بين مخلفات الوثنية بقبابها وطبولها وألوانها وتراتيلها، والوحدانية بخشوعها وتبتلها. وتظل هذه الطرق في نهاية المطاف قوة محايدة قادرة على التعايش مع القديم، وعلى استعداد لاحتضان الجديد. ولعل أحد أروع مشاهد ثورة ديسمبر مشهد مسيرة الطرق الصوفية بطبولها وأهازيجها تعبر كبري النيل الأزرق في طريقها إلى ساحة الاعتصام. ولعل هذا التأرجح بين نزعتي الغزو واللجوء يفسر استعداد الشخصية السودانية للانتقال بسهولة بين نقيضي التسامح والتطرف، ولعله يفسر أيضا استعدادها لقبول فكرة الدولة الدينية والتكيف مع غيرها. وبالإضافة إلى أولئك هناك الجماعات المسيحية وقدرتها على الصمود مثبتة أن إدارة الخد الأيسر ليست مظهر ضعف وإنما دلالة قوة، وكذلك الجماعات غير العربية وغير المسلمة التي لا تعرف لنفسها غير "السودانوية" هوية.

وعودة إلى جدلية الصراع بين الدولة الدينية كغول مقدس والدولة المدنية كتلفيق فكري والعلمانية، أرى أن العلمانية هي قدر الشعوب. وأرى أيضاً أنها أفيون الشعوب. أقولها في استدعاءٍ واعٍ ومتعمدٍ لقولة ماركس المُفترى عليها"Die Religion ... ist das Opium des Volkes" . والذي لا ريب فيه ولا مراء هو أنه لم يكن لماركس في مجمل كتاباته رأي ايجابي في الدين، ولكنه يشيد هنا بقيمة الدين في تخفيف عذابات ملايين البشر المسحوقين تحت رحى البؤس والاستغلال. وأنا أترجم هنا من الإنجليزية

 "Religion is the sigh of the oppressed creature، the heart of a heartless world، and the soul of soulless conditions. It is the opium of the people".

والترجمة هي "الدين هو أنّة الكائن المقهور، قلب عالم بلا قلب وروح ظروف بلا روح. إنه أفيون الشعوب." وإذا كان هنالك من يعتقد أن في هذا التوصيف إزدراء للدين أو تحقير له فليراجع قدرته على الاستيعاب. أما أنا فمن فرط إعجابي بهذه المقولة فقد رأيت أن أستعيرها لكي تضفي على العلمانية التي أناصر قيمة أنها أيضاً "أنّة الكائن المقهور، وقلب عالم بلا قلب، وروح ظروف بلا روح. إنها أفيون الشعوب." فالعلمانية تخفف من عذابات ملايين البشر في الصين (الشيوعية) والسعودية (الوهابية) ومينامار(البوذية) والفلبين (الكاثوليكية) والهند (الهندوسية) وسودان الإنقاذ، وما بعد الإنقاذ، الذي يشهد نهاية لبعض التاريخ: نهاية عهد الدولة الدينية.

 

أحمد حسب الله الحاج

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم