صحيفة المثقف

سالي روني: الهدف الأخير

2393 Sally Roonالهدف الأخير المدهش لروبي برادي يؤثر في حياتنا الشخصية

ترجمة: صالح الرزوق

خابرها كونور من الصالة من جوار ستارة بلاستيكية. ستوشك هذه المكالمة على التهام رصيد هاتفه لو ردت، وعلى ضوء ذلك توقع شخصيا أن تتأخر ولا ترد، ولكن رغم ذلك وجد نفسه يأمل أن تكلمه. وكلمته. قالت له بصوت غريب ورقيق “ألو” كما لو أن هذه المخابرة جزء من طرفة مستمرة بينهما.

قال:”هل كنت تشاهدين ذلك؟”.

“آه. كنت أشاهده. كان الجو في الإستاد أشبه بالعيد”.

“كان جيدا، أليس كذلك؟”.

قالت هيلين:”أنا أحسدك قليلا. كنت أشاهدها بالإنترنت طوال آخر ساعة”.

شعر بالارتخاء واستند على جدار الصالة. كان الوقت متأخرا في لايلي لكن الجو في الخارج دافئ، حرارة ورطوبة، وكان يشرب منذ أواخر ما بعد الظهيرة.

قال:” المبارة؟. وهل تعرض الآن؟".

“أه - نعم. كما لو أنها مباشرة. مثيرة جدا بمعنى - حسنا، هل ترغب بسماع رأيي عن البرنامج أم أنك مشغول؟”.

“كلا، تابعي”.

“هل يتوجب دفع تكاليف تجوال؟”.

كذب بلهجة غير حاسمة وقال:”لدي مكالمات مجانية”.

على الطرف الثاني من الخط، لم تفكر هيلين بمصداقية كونور حول موضوع المكالمات المجانية، مع أنه في فرنسا، فهي لم تحمل كلامه محمل الجد، واعتبرت أنها إشارة منه لتتكلم معه عما كان يجول في ذهنها طوال الوقت السابق. جلست على سريرها، وظهرها على ظهر السرير. جلست كذلك طوال مشاهدة مباراة إيرلندا وإيطاليا والتي عرضتها الإنترنت حينما كانت وحدها، تلتهم من طبق النودلز السريع التحضير بواسطة عصا الطعام الرفيعة، وكان الضوء في نافذتها ينحسر بالتدريج من أزرق مبيض إلى أبيض رمادي قبل أن يحل الظلام أخيرا.

قالت: "يهمني مشاهدة إعادة أي حدث ثقافي كما تعلم. لكن مشاهدة الإنتاج الثقافي في حينه أفضل من وقت الإعادة. ولا أعلم هل أنا وحدي من يشعر بذلك؟".

“نعم. أنا أفهمك. وآه. أنا ثمل جدا ولن أكون دقيقا تماما، ولكن أريد أن أعبر، كما ترين، عن سقوط فكرة المؤلف”.

“تماما. هذا كلام دقيق. أنت دقيق جدا. ولا أعتقد أنك مخمور”.

قال:”أنا أهتم كثيرا ببرامج الإنترنت”.

حملت هيلين كومبيوترها المحمول من حضنها وتوجهت إلى الجزء الفارغ من السرير، كما لو أنها تريد أن تتعمق بالحوار.

قالت: “ولكن يصعب تحديد موضع القوة، وأن تحلل ثقافيا طرق عمل القوة. وأعتقد أننا اعتدنا على ذلك من خلال شخصية المؤلف المسيطرة، أو على الأقل من خلال بنية يمكن تحديدها، مثل استوديو صناعة الأفلام أو شركة دعايات تجارية".

“نعم، والآن تتطور مثل مشاركة جماهيرية آنية”.

“أعتقد يمكنك القول إن فضاء الإنترنت يتبع الجندر وهو مرتب بفئات متشابهة، لكن هل هي متساوية؟”.

قال كونور:”يجب أن لا ننسى الجندر. الجندر في كل مكان. هذا رأيي. هل تسمعين ضجة على الخط؟”.

غادرت مجموعة من المشجعين الحانة المجاورة للتو وفاضوا في الطرقات بهياج. وتحت الضوء المنسكب من البار كانت قمصانهم الجورسيه تبدو رخيصة مثل نايلون لماع. كانوا يغنون شيئا يذكرنا بألحان موسيقا الريف عام 1979 ولا سيما الأغنية المشهورة “اذهب غربا”. وتقريبا كل الكلمات، لسبب ما، كانت تشبه أنغام “اذهب غربا”. وأصبحت الكلمة المفردة والمستقلة صعبة على الأفهام، ولها معنى آخر وموحية ومن بنات أفكار المشاركين.

قالت: “قليلا. هل أنت بمكان مزدحم؟. كان هادئا من قبل واعتقدت أنك عدت إلى النزل”.

“لا. ما زلت في الحانة. مع، نعم - الجمهور الإيرلندي الأسطوري”.

“هذا أنت، أنت حاليا جمهور إيرلندي أسطوري. هل ترتدي الجورسيه؟”.

قال:”لا. أنا أحتفظ بمسافة عنهم. وأحاول أن لا أغني كثيرا، وأسخر من أي شرطي”.

“السخرية من الشرطة برأيي مشكلة دولية”.

“ضمنا الشرطة الفرنسية أيضا. شرطة الريف هم عنصريون تماما. ولكن عموما، انظري، نحن هنا الآن”.

بعد أن قال كونور ذلك، أدرك أنه كمن يريد تبديل اتجاه المحاورة لنقطة جديدة. ويمكنه عمليا أن يسمع صدى الانتباه المشترك، وأنه لم يشرح لماذا خابرها، وأنه خفف من أحماله قليلا خلال المكالمة والآن يجب أن ينتقل للشرح والتبرير، ولكن لم يكن لديه شيء يقوله، أو أي شيء يضيفه. وفكر أن يغلق السماعة، ثم يرسل لها رسالة إلكترونية يدعي بها أن الخط انقطع.

آخر مرة قابل فيها هيلين كانت قبل ستة اسابيع، في مطلع أيار. زارها في كامبريدج في عطلة الأسبوع. وبعد رحلة طويلة ومتعبة استغرقت يوما كاملا تخللها قلق مبهم حول النقود، وصل يوم الجمعة ليلا. وطوال اليوم كان يحول بذهنه الإسترليني إلى يورو بمحاولة لتحديد مقدار النقود التي أنفقها على تذاكر الحافلة وأكواب القهوة، والنثريات، لكن هذه الجهود المستمرة أنهكته وجعلته يشعر بالبؤس وضرورة الاستيقاظ. وكان الظلام قد حل حينما غادر الحافلة. ويتذكر الآن السطح الأزرق الساكن للحديقة المجاورة لموقف الحافلات، وهي مستسلمة لنور الشارع، وكانت رائحة الطقس تنتشر حوله، وتحول الهواء لشيء رقيق، بينما النهار يبرد تدريجيا بعدما كان حارا ودافئا. وهكذا قابل هيلين. كانت بانتظاره بسترتها القصيرة ووشاحها، وانتابته الدهشة لمرآها، وأطلق ضحكة خففت من عناء وثقل مشاعره.

وترافقا إلى شقتها، وهما يتبادلان أحاديث عشوائية. وتذكر الواجهة الحجرية المصفرة لمسكنها وهي تبحث عن المفاتيح في أعماق حقيبتها. وفي البيت حضرت الشاي وقدمت بعض الطعام. واستمرا بالمحادثة لوقت متأخر. وفي الخاتمة، في غرفتها، تخلصت من ثيابها للنوم. وجلس هو على الكنبة، حيث ألقى كيس النوم، وكلمته عن شيء يلزم لأطروحتها، وكم مرة قرأتها من قبل وتوجب عليها الآن أن تبذل جهدا صادقا ومخلصا، وجعلها ذلك تبدو ضعيفة قليلا، وحينما كانت تتكلم بهذا الشكل، كانت واقفة قبالة الخزانة وتحاول ارتداء منامتها. وكانت جزئيا، وعلى ما يبدو دون تحكم أو وعي، مختبئة خلف باب الخزانة المفتوح. ولكن أمكنه رؤية كتفها الأيسر العاري، وساعدها الأبيض النحيل. ألقت بلوزتها على حامل معدني، وعلقتها في الخزانة، ودون أن ترفع نظرها قالت:”هل أنت تراقبني؟”.

قال:”أنا أنظر نحوك بشكل طبيعي. ولكن لا - أراقبك-”.

ضحكت وأغلقت باب الخزانة. كان ثوب نوم أسود، طويل، بحمالات على الكتفين.

قال:”كنت استمع لكلامك”.

“آه. مفهوم. أنا حساسة جدا من فقدان انتباه من أكلمه”.

ووجد ردها مخيفا على نحو يدعو للسرور في ذلك الحين. والآن وهو معها على الهاتف انتظر أن تقول شيئا له، ولكن حسب قواعد المحادثات الطبيعية من الواضح أن “دوره” بالكلام قد حان. ووصلته الإشارة أنه عليه أن ينطق بشيء ما.

قال:”مباراة جيدة في كل حال”.

“تمنيت لو كنت حاضرة. هل جرفتك العواطف الملتهبة؟”.

“نعم. جرفتني قليلا. وذرفت دمعة”.

ضحكت وقالت:” هذا لطيف منك. هل بكيت حقا؟”.

“دمعة وصلت لمقلتي، ولا أعلم إن سالت منها أم لا”.

قالت:”كنت أشاهدها وحدي ولذلك لا يمكنني أن أشعر بالموجة العاطفية بكل عنفوانها”.

مثل أن تذهب إلى السينما لمشاهدة فيلم. أحيانا تضحك ولكن هذا لا يحدث في المنزل. وهذا لا يجعل الضحكة زائفة، أليس كذلك. الإنسان يفقد متعته حين يكون وحيدا.

“هل تشعرين بالوحدة؟؟”.

فكرت بالسؤال، فهي غير معتادة أن تسمع مثله من كونور، كانت هذه أول مرة، وضمنا المرة السابقة التي ادعى بها أنه مخمور، وتبادر لها احتمال أنه مخمور الآن.

قالت: “يجب أن اقول أنا لا أحب معظم الإنكليز كثيرا، لذلك نعم. الحياة في إنكلترا، تميل للعزلة. ربما أنا أحمل انطباعا سيئا عنهم ولا سيما مع اقتراب الاستفتاء”.

“نعم. هذا يبدو صعبا. أعتقد أنهم يفضلون البقاء”.

“آمل ذلك. مهما كانت النتيجة اكتشفنا أشياء مزعجة تماما”.

قال:”لا أحسدك لأنه عليك أن تعيشي هناك”.

وفكرت هي بدورها بزيارة عطلة الأسبوع، والطقس الرائع الذي استمتع به. استيقظا يوم السبت بوقت متأخر، كانت السماء زرقاء مشعة تتخللها غيوم صغيرة. جهزت إبريقا من القهوة، وتناولا الخبز المحمص مع البرتقال. وضبت أطباق الإفطار وحصل هو على حمام سريع، وارتاحت هي لصوت غلاية الماء الحار وصوت تدفق الماء من الحنفية.  وعندما برز مجددا في المطبخ كان بثيابه، بينما هي لا تزال بثوب النوم، مع حزام ملفوف حوله. وحان وقت لحظة تلاقي النظرات المباشرة، وشعرت كأنهما لم يتبادلا النظر منذ وقت وصوله. وخيم الهدوء من نظراتهما على الغرفة. وفكرت بالسخرية من هذه اللحظة قليلا لتقلل من جديتها، ربما بأسلوب ساخر وعاطفي، ولكن لم يسعها الاعتماد على العاطفة لتبدو هزلية بنظره وليس متوحشة. وعوضا عن ذلك تراجعت للخلف، وتعثرت، وتلكأ هو هناك دون أن يقول شيئا. كان يوما دافئا وتذكرت هيلين ماذا ارتدت للخروج: بلوزة بيضاء بسيطة، وتنورة شاحبة رقيقة، وحذاءها الخفيف. ولم تهتم، أو لا تتذكر أنها اهتمت بمظهرها فعليا، ولكن تعلم بشكل غامض أنها كانت تبدو متعبة أكثر من كونها تحاول أن تبدو معافاة. وتجولا حول متحف فيتزوليام فيما بعد الظهيرة، وهما يتبادلان الأحاديث. وبعد أن تناولا الغداء، شربا القهوة. وأخبرها كونور بحكايات مسلية عن العمل وضحكت هيلين كثيرا حتى أنها سكبت قهوتها على تنورتها، وكان ذلك من دواعي سروره. وعلمت أنه استمتع بضحكتها. وبدا أنها توفر له بعض الرضا الرخيص ولكن الخاص. وحينما تضحك كان يبدل نظرته قليلا، كما لو أن النظرة المباشرة شيء لا يستحقه.

كانت تقابل الكثير من الأشخاص الناجحين في كامبريدج، أشخاص لديهم كبرياء قوية، ويعبرون عن ذكائهم بها. وكانت نوعا ما تستمتع بالكلام معهم، وتتبادل معهم الثرثرة حتى تصبح الحفلة مضجرة ومقلقة. ولكن المتعة في النهاية تتلاشى، كما لو أنها تعاقبها وتلهو بها. هناك شيء خاص بذكائهم وهو لا يجلب لها المرح ولا الفضول. كان كونور يعمل في مركز مكالمات لتقديم خدمات الموبايل، وهو شريكها المثالي بالحديث، الشخص الذي تشعر حياله بالصفاء الذهني والمسافة القريبة. كانا متفاهمين بالكلام دون عناء، وربما لهذا السبب، أو ربما بسبب العاطفة الصادقة وطويلة الأمد، لم تتحول محادثاتهما إلى مبارزة. ووجدت هيلين فلسفيا أنهما اثنان متوافقان بكل شيء، و لا يزال لديهما أشياء كثيرة يمكن الكشف عنها.

قالت له:”معظم الناس هنا متحررون، وهم يغبطون أنفسهم على ذلك. ويمكن أن تلاحظ أنهم يقللون من شأن الناس العاديين، الذين لا يعرفون كامبريدج أو لا يحملون درجة جامعية. وأعتقد أن الحط من شأن الآخرين هو فعليا ما يهنئون أنفسهم عليه”.

“وهل أنا شخص عادي بنظرك؟”.

“هل أنت... تعترض على طريقة استعمالي لعبارة - ناس عاديين -، أم أنك تشير لعلاقتنا؟”.

ابتسم. كانت عيناه مرهقتين. أطبقهما. شعر بجفنيه رطبين نوعا ما. قال:”حسنا. أنا أحب أن أعتقد أنني خاص جدا على نحو من الأنحاء”. وسمع ضحكتها.

قالت:”أنا أريد أن أعرف لماذا اتصلت. ولكنني سعيدة بالكلام معك ولا أمانع إن لم يكن لديك سبب وجيه”.

“سأكون صادقا معك. لقد حركتني متابعة تلك المباراة. موجة العاطفة التي تكلمت عنها. وشعرت بدافع لمكالمتك. أردت أن أخبرك أنني أحبك، وهذا كل شيء”.

لعدة ثوان لم يسمع ردا. ولم يمكنه أن يقرر ماذا تفعل على الطرف الآخر من الخط. ثم جاء صوت خافت مثل ضحكة، ثم أدرك أنها تضحك.

قالت:”أنا أحبك. كنت أفكر بشيء لبق لأشير لمشاعرنا وللتعبير عن حبنا من خلال هذا التواصل الثقافي الطقوسي ككرة القدم، ثم اعتقدت، آه يا إلهي، اصمت. أنا أيضا أحبك وأفتقد لك”.

مسح عينيه بيده التي لا يمسك بها الهاتف. كان لصوتها بسمعه نبرة ناعمة وسائلة ترابطت مع أعمق مشاعر العزاء لديه.

قال:”عطلة الأسبوع التي أمضيتها معك، فكرت بشيء قد يحدث. ولكن لا أعلم. ربما الأفضل أنه لم يحصل”. بلع و تابع:”كذبت بشأن المكالمات المجانية. وربما لا يجدر بي أن أتابع لفترة أطول”.

قالت:”آه. حسنا. هذا شيء طيب. اذهب الآن واحتفل”.

ساد صمت نهائي. وشعر خلاله كلاهما بمشاعر متماثلة ومجهولة، باندفاع متشابه نحو تصرف غير مفهوم، وكل منهما يريد من الآخر أن يقول مجددا: أحبك، أحبك كثيرا، ولكن لم يكن بوسعه أن يقولها تلقائيا. ورغم هذا الشعور بالممانعة غير المتوقعة، بشيء لم يكتمل بعد، كما لو أنهما مسروران بانتزاع كل واحد منهما اعترافا من الآخر، كانت هيلين تعتقد أنها أكثر سعادة لأن كونور هو من بادر بالكلام، وكان كونور يعتقد أنه هو الأسعد بالحقيقة لأنها لم تكن مخمورة بل واعية. أخيرا تبادلا تحية الوداع بذهن شارد.

أعاد كونور هاتفه لجيبه، وابتعد عن جدار الصالة. وفي الطريق الرئيسي تدحرجت سيارة الشرطة، وإشارتها تدور صامتة، وحيا المشجعون الشرطة أو جهة مجهولة لا علاقة لها بكل الحكاية. وأعادت هيلين هاتفها لطاولة قرب السرير وسمعت صوت ارتطام باهت، زجاج يطرق على الخشب، ثم فكرت لحظة بسكون مطبق. ونظرت للجدار المقابل كما لو أن فكرة محددة تبادرت لذهنها للتو. ودون وعي لامست شعرها، لم تغتسل اليوم. ثم بحركة واحدة وتلقائية وطبيعية ظاهريا، أعادت كومبيوترها المحمول لمكانه فوق ساقيها المتقاطعتين ونقرت عليه بأصبعين ممدودتين لتشعل الشاشة.

***

.....................

سالي روني Sally Rooney كاتبة إيرلندية من مواليد عام 1991. أولى رواياتها هي “حوار مع أصدقاء”. وهذه القصة مترجمة عن نيوستايتمان. عدد 12 آب 2017.

 ت: صالح الرزوق

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم