صحيفة المثقف

عصمت نصَّار: محمد عابد الجابري بين حداثة المشروع وتجديد الخطاب (4)

عصمت نصارلقد تمرد الجابري على الأصغاء لصرير قلمه، وذلك بعد أدراكه أن نظارته الطبية لم تعد تدرك ما وراء السطور وما بينها؛ فما كان عليه إلا أن يصرح بأنه كان متعجل في نظرته للتراث العربي الإسلامي من وجهين:

أولهما: من حيث البناء الخارجي الذي كان يعتقد بأن دراسة المعارف العلمية وحدها تمكن العقلية التحليلية من تقييم ذلك البناء الذي اختلط فيه الخسيس بالنفيس والمقدس بالمدنس، كما عجز العقل أن يستنتج حكماً صحيحاً على ما يحويه هذا البناء الشاغل بالمتناقضات ولا سيما عند صدق قيمة الجزء، فإن هذا لا يعني تعميم هذا الحكم على الكل (فاذا صدقت القضية الجزئية ظلت القضية الكلية المتناقضة معها مجهولة) ومن ثم كان لزاماً على العقل الباحث عن الحكم العلمي والتقييم الصادق العدول عن هذا المنحى وذلك أن باقي المعارف التي تشتمل عليها الثقافة الإسلامية لا يصح أن نهمل أثرها على الشكل العام أو البناء الكلي الذي يعبر عما انتهت إليه خلال الفترة الممتدة من ظهورها حتى انكسارها.

ومن المؤسف أن الجابري لم يستطع تلافي أو اجتياز هذه الأخطاء.

أما الوجه الثاني؛ فيتمثل في ذلك التصنيف المتعجل للعلوم العربية الإسلامية فهو لا يخلو من الأخطاء الجينية أو العضوية التي تعكس ترابط أجزاءه وتأثيرها ببعضها البعض وتفاعلها في بناء السياقات والأنساق؛ فمن ذا الذي ينكر صلة علم النحو بعلم الفقه والكلام والبلاغة؛ فجميعها يعمل على ضبط الخطاب وبيان حقيقة بنيته، والكشف عن المعاني المستترة وراء الألفاظ. وعليه؛ فمن العسف إهمال العلوم التي تحمل الوعاء الذهني للمعارف الثقافية لأنها تمثل المعقول الديني العربي، ثم تأتي علوم أخرى لا تقل ترابطاً عن سابقتها وهي علوم العرفان وتشتمل على التصوف والفكر الشيعي والتنجيم والتفسير الباطني للقرآن وعلم السحر والطلاسم وهي علوم إشراقية حدسية -عند الجابري- تتميز عن غيرها بالتواصل والتجاذب أو التدافع؛ فجميعها يعمل في نطاق خارج العقل وهي تخضع كلها للامعقول العقلي.

أما المجموعة الثالثة من تصنيفه للعلوم، فهي تلك التي تعتمد على العلم الخالص والتجربة العملية وأحكامها يقينيه برهانية ويمثلها الرياضيات والمنطق والطبيعيات والإلهيات والميتافيزيقا، وأطلق عليها المعقول العقلي؛ لأنها تختص بوضع المقدمات الأساسية التي يحمد عليه كل ما يدرج ضمن المعقول وهي المسئول الأول أيضاً عن بناء الأنساق العقلية واستشراف المستقبل وتخطيط له. ويقول عن نظرته إلى الثقافة العربية الإسلامية بعد تعديله وتصنيفه واتساع نظرته لها (إذا كنا قد أبرزنا ركود الزمن الثقافي العربي من خلال ملاحظة هذه المظاهر الخارجية، فإن التصنيف الجديد الذي اعتمدنا فيه البنية الداخلية للمعرفة في الثقافة العربية قد جاء ليؤكد فعلاً أن الحركة داخل هذه الثقافة هي حركة اعتماد واهتزاز، حركة اصطدام وتداخل بين النظم المعرفية الثلاثة المؤسسة لها وليست حركة "نقلة" - أي حركة يتم الانتقال بها من مرحلة إلى أخرى ويتجاوز بفضلها اللاحق السابق) .ويبدو أن الجابري لم يتخلص بعد من الاضطراب المنهجي فقد وضع علم الكلام ضمن العلوم البيانية ووضع علم الطب والكيمياء ضمن علوم العرفانية كما وضع علم الإلهيات والميتافيزيقا ضمن العلوم البرهانية.

وفرق في هذا التقسيم بين المعقول الديني والمعقول العقلي؛ ثم عاد ليؤكد أن هذا التصنيف شكلي وذلك لأن كل هذه المعارف تخضع لقانون التواصل والتدافع أو التجاذب والتضاد؛ الأمر الذي حال بين الثقافة العربية الإسلامية وبين التقدم؛ فهي تجتر ذاتها دون أن تتقدّم. ومن المؤسف أن نجد الجابري يحاول عقد مقارنة بين رؤيته وتفسيره للثقافة الإسلامية وبين الثقافة الأوروبية الحديثة، ويتساءل متهكماً لماذا نجحت العقلية الأوروبية في اجتياز معوقاتها صوب التقدم ولم تفعل العقلية العربية؟ ويجيب مفكرنا شأن كل العلمانيين أن ما امتازت به العقلية الأوروبية ومن قبلها العقلية اليونانية التي ابتدعت الفلسفة هو التفكير العلمي.

بل أكثر من ذلك نجد الجابري يكرر أكذوبة المفكر الفرنسي الدومينيكاني أندريه جان فيستوجيير (1898م -1982م) الذي ذهب إلى أن علة اضمحلال الفلسفة اليونانية بعد أرسطو هي تأثرها بالفكر الشرقي القديم. ويقرر أن اهتمام اليونان بالفلسفة النظرية وإهمالهم التجربة العلمية كان له الأثر الأعظم في عدم قدرتهم على مواصلة التفلسف وإبداع النظريات والتصورات التي تقود العقل الإنساني إلى آفاق أوسع من التقدم. وينحاز الجابري إلى الرأي الأخير؛ ويقول (نحن نعتقد أن في هذا الرأي نصيباً كبيراً من الصحة).

وأعتقد أن آفة التعجل قد ظلت برفقة الجابري في هذه المرحلة أيضاً؛ فقد بات من المعروف أن اليونان لم يبدعوا الفلسفة وحدهم. وأن الشرقيين في مصر وبابل والهند والصين لم يهملوا العلم. وأن أوروبا لم تتطور بمناهج ديكارت وكانط بل بالعلوم العربية التي ورثت بدورها الجانب الأكبر من علوم الشرق واليونان معاً.

لذا ظلت الازدواجية والثنائية في بنية العقلية الأوروبية حتى الآن، فها هو ديكارت يصف المعرفة بشجرة تغوص جزورها في الميتافيزيقا وجذعها الفيزياء، وتتدلى فروعها (الميكانيكا والطب والأخلاق) ويجعل الله هو الضامن الأوحد لوجود الحقيقة. كما يؤكد كانط أن العقل وحده لا يمكنه تشكيل الضمير الإنساني على النحو العلمي لذا لا بأس أن يقوم الدين - بما فيه من غيبيات غير عقلية - من أداء هذا الدور. ناهيك عن مئات الدراسات التي استفاضت في تأثر جل النظريات الفلسفية والعلمية في العصر الحديث للتراث العربي وليس الفكر الديني الذي ساد أوروبا في العصر الوسيط. وعليه؛ يظل رأي الجابري في العقلية الأوروبية وليد معارف محدودة ومعلومات ناقصة (هكذا دخل العلم والتقنية في علاقة جدلية، علاقة أخذ وعطاء لا نهاية لها. هذا من جهة ومن جهة أخرى فبمجرد ما ظهر العلم التجريبي مع جاليليو كنمط جديد ومتجدد من المعرفة، دخلت الفلسفة الأوروبية التي كانت من قبل لاهوتاً، في مرحلة جديدة تماماً مع ديكارت الذي أعاد تأسيسها على العلم : على الرياضيات والفيزياء. وهكذا أرتبط التقدم الفلسفي في أوروبا بتقدم العلم والتجربة ارتباط معلول بعلة) .

وقد فات مفكرنا أيضاً أن بنية الثقافات وانتقالها من أمة إلى أخرى تختلف عن اقتناء الأمتعة ونقل الحقائب؛ فالعقلية اليونانية التي حطت من شأن العلوم التجريبية لم تفعل ذلك إلا لمعتقد وليد العادة مفاده : أن العبيد وحدهم هم الذين يتعلقون بالمعارف الحسية والتجربة العملية. كما أن الشرقيين قد تقدموا بفضل جمعهم بين فكرة الربوبية والنظريات المجردة والمعارف التطبيقية المجربة، وأن البوذيين لم يرفعوا من قدر الناسك البوذي على غيره إلا بقدر قناعتهم بأن خلاصهم وسعادتهم مرهونة بالعمل الصالح المستنير بمنأى عن فساد الكهنة وظلمهم ونظامهم الطبقي. ثم من ذا الذي زعم أن أوروبا لم تتقدم إلا بفصل النظر عن العمل؟ فمثل ذلك الحكم يحتاج كثيراً من المراجعة وبالتالي يوضح أن تحليلات الجابري الوضعية خاطئة. وليس أدل على ذلك من أنه ما برح يطرح السؤال نفسه بصيغة تقريرية فيقول : (إذن، فتقدم الفكر، كأداة ومحتوى، كان ولا يزال مرهونا بتقدم العلم. والسؤال الذي يطرح نفسة علينا الآن، بصدد التجربة الثقافية العربية الإسلامية، سؤال مضاعف يتجه بأصابع الاتهام إلى "العلم العربي". فمن جهة تطرح علينا الفلسفة اليونانية السؤال التالي: لماذا لم تتمكن الفلسفة في التجربة الثقافية العربية من الصمود والانتشار وتعميم العقلانية؟ هل يرجع ذلك إلى غياب العنصر المحرك للتقدم الفلسفي : العلم؟ ومن جهة أخرى تطرح علينا النهضة الأوروبية الحديثة هذا السؤال: لماذا لم تستطع النهضة العربية في القرون الوسطى أن تشق طريقها نحو التقدم المطرد كما فعلت النهضة الأوروبية، هل يرجع ذلك إلى غياب العنصر المحرك للتقدم العلمي، التجربة؟ واضح أن قيمة هذه الأسئلة ليس فيما يمكن أن يجاب به عنها. فهي تحمل في الحقيقة جوابها ضمن صياغتها).

وأعتقد أن هذا التنظير المضطرب والمفاهيم المغلوطة هي العلة الحقيقة وراء حملة "الجابري" على التراث في هذه المرحلة. فما أسوء من أن نراه يستنتج من قراءته أن ما يميز العقلية العربية هو تمكنها من علوم اللغة حيث منطقية النحو وسحر البيان والبلاغة وخيالية الشعر وأن عبقريتها تتجلى في الفقه وتدوين الأخبار، تلك العقلية التي كانت بفطرتها بعيدة كل البعد عن الفلسفة والعلم.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم : د. عصمت نصّار

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم