صحيفة المثقف

سامي عبد العال: "كلُّ عامٍ وانتم بخيرٍ".. كمقولة فلسفية!!

سامي عبد العالفي المناسبات الدينية والأحداث العامة، تتناثر عبارات التهنئة يميناً ويساراً، كأنَّها تُلبي حاجة ضروريةً للإحساس بالحياة. وقد تكون بالفعل مستوى من التعبير الرمزي الذي يضعنا في زخم الواقع كأفعالٍ على طريقة الفيلسوف الانجليزي جون اوستينJohn Austin حين رأى إمكانية انجاز الأشياء باللغة والكلمات. غير أنَّ تداول التهنئة مع حجب ثراء الحياة (ومع عدم قدرتنا على أنْ نكون نحن) ربما تعبر عن واقع مفقودٍ لا نشعر به عادةً، أو بفكرة واضحةٍ: ستمثل عبارات التهاني (مثل: كلُّ عام وانتم بخير) نوعاً من التزلج فوق أسطح مجهولة يمررها الأقوى للأضعف ويتلاعب بها إلى أقصى درجة.

لأنَّ عبارات من جنس هذه الأقوال تعد تهنئة خاصة بين الأفراد للشعور بالعلاقات الإنسانية الحميمة. ولكنها طالما توجد في الفضاء العامpublic space وبصيغة مجهولة، فإنها تخضع إلى قوى أكبر تتحكم في اللغة وإدارة المناسبات بما يخدم أهدافها. أي تدخل ضمن ما نسميه "سياسات الحقيقة" في تاريخ المجتمعات الإنسانية، معبرةً عما إذا كانت التهاني خطاباً عاماً آخر أم لا. فالتهنئة قد تفقد مسارها الخاص بين فرد وغيره إلى حد الضياع وسط واقع يوجهها لمصالح الأكثر هيمنةً (سواء أكانت جماعة أم سلطة أم أيديولوجيا أم أنظمة سياسيةً).

ومن ثمَّ، فإنَّ إدخال عبارات كهذه حيز الفلسفة يطرح إشكالية خطاب التهنئة كجزء من الوعي المزيف أحياناً مادام يغيَّب فهمنا لأمور أكثر حيوية ثقافياً وتتعلق بجوهر الحياة. وبخاصة أنَّ التفلسف يعطي الجانب الآخر من الأفكار مساحته من العمل والاشتغال فيما نفعل ونقول. وأنَّ عبارات التهنئة بهذا التوظيف تأبى إلاَّ أن تكون موضوعاً معقداً للتفكير بين اللغة والسياسة والاقتصاد والاجتماع. الفلسفة لا تهنئ متلقيها ولا تشعرهم بسذاجة المواقف رغم أنَّ أعماق الفكر مليئة بالسعادة والعزاء والاندهاش والاستغراق. لأن الفيلسوف حكيم محب للحكمة التي قد لا تكون تهنئة حصراً بقدر ما تعرف مكانها من نظام الأشياء والحياة. إنَّ التهنئة تطلق معناها الفلسفي عندما لا تجد موضوعها الحر والقائم على ترك دلالته إلى أخر مداها. لأن هناك نوعاً من التفاؤل كامن في كل عبارة تهنئة، والتفاؤل الفلسفي لا يكفي ليقول ما في جوفه مباشرة، بل يحتاج أشياء في المجتمعات مثل جوانب الفكر الحر و كسر القيود حول سلوك الإنسان وحياته... وهكذا.

ولئن كان ذلك جليّاً بصدد شيء، فإنه أمر جليٌّ بصدد شهر الصيام تحديداً، لأنَّه شريحة زمنية ميتافيزيقية ترفع أفعال الإنسان (بحسب الاعتقاد والإيمان) من مجرى الحياة بمعناها المعروف تطلعاً إلى الأعلى. كما أنَّ المعاني التي يستحضرها الصيام للغة (مثل الهدوء والسكينة والتراحم والإحساس بالآخر والعزاء والشفقة والعفو والتسامح) ترتبط بها معانٍ أكبر خاصة بنسق القيم والأخلاقيات. وهذا النسق تضخه (أو بالأحرى لا تتركه) السلطة بجوانبها المتلونة والسائدة في المجتمعات.

ولذلك قد يسقط نسق القيم أول ما يسقط في " فم الرأسمالية " mouth of capitalism كحوت عملاق سابح داخل حياتنا المعاصرة، يبتلع ما يقابله من أسماك وكائنات دقيقة، وذلك مع توحُش وشراسة مظاهر السوق والتكنولوجيا والأنظمة السياسية. فهذه الرأسمالية هي الوحيدة التي" تفطر- تأكل" حدَّ التخمة خلال شهر الصيام بينما كل المسلمين صيام من بداية اليوم حتى نهايته. ليس هذا فقط، بل قد تلتهم الرأسمالية وجود الإنسان (روحانياته ومعانيه ورموزه) تاركة المجال فسيحاً لتجار السياسة لممارسة أدوارهم الاقتصادية. وعلى المدى البعيد، قد يستقر الإنسان في" معدتها الاستهلاكية" الهاضمة لكل ما ينتمي له، دون أن يدرى هذا الإنسان الضعيف أنه يتحرك ويتنفس عبر ذلك العمق.

بالفعل تكونت تاريخياً طقوس (اعلامية واقتصادية وثقافية) مصاحبةٌ لشهر الصيام ليس أقلها ارتباطه بنمط من العادات الغذائية والاجتماعية المسيَّسة. وجميعها تصب بحسب أوضاع المجتمعات في إدارة القوة الشرائية للمواطن وإسالة الرغبات وإعادة الهيمنة على الوعي الجمعي، وتأكيد أنَّ الغرائز والأجسام وحتى العلاقة بين (الله والبشر) تحت السيطرة، أو بالأحرى بين قبضة نسق من الاخلاقيات والتراتب المراوغ في الفضاء العام. وتلك الممارسة تسري على الصيام والجوانب الروحية جنباً إلى جنب مع سريانها على قضايا الفكر وهذا هو أحد أسباب ضحالته في عالمنا العربي.

وهذه الجوانب تهجسُ بأنَّ هناك قوى اقتصادية سياسية خفية تهيمن على المشاهد وتحركها. ليس بنظرية المؤامرة هذه المرة، لكن بأنْ يُدفع جسد الصائم وإرادته إلى عجلة السلطة القائمة التي تريده ترساً في إطارها. دوماً ليس الأمر كون الصيام منصوصاً عليه في القرآن بآياته ومعانيه وشروطه، وقد غدا مناسبةً لإحياء العبادات والتقرب إلى الله بالطاعة والروحانيات ليلاً ونهاراً، لكن جميع ذلك يرتبط بنوع من" الاقتصاد السياسي" لعمليات جسدية وروحية تحقق أغراض ومآرب الفئات الغالبة ومنافعها في المجتمعات الإسلامية.

فعلى الصائم أنْ يصوم متمسكاً بإقامة الشريعة ومنهمكاً في مجانبة المحاذير التي تبعده عنها، لكنه دون وعي سينهمك في تنفيذ إرادة السوق الشائع في ضوء حركة البيع والشراء والتكالب على الترفيه وتمضية الأوقات ومعاقرة الرغبات وعُري الابهار البصري. وهذا يكشف أسئلة أخرى في مشهد التقوى الدينية بكونها تقوى (فوبيا) أخرى تحركها العلاقات الاجتماعية وتروضها السياسة كترويض الحيوانات المفترسة. وهنا يعد التواطؤ الرأسمالي- السياسي هو لب الحقيقة. وليس ثمة مغزى لحركة الصائم في الفضاء العام إذن دون معرفة جوانب هذا الوضع الغارق في تفاصيل كثيرة.

يثبت ذلك الأمر أنَّ الشيطان ليس كامناً في التفاصيل فقط، بل يمرح ويلعب ويحقق مكاسب طائلة لمن يقف منتظر في الخلفيات السياسية. فلئن كانت الشياطين (كما جاء في الأثر) تُصّفد في رمضان وتُغلَّق أبواب النيران وتفتح أبواب الجنان وتغفر الذنوب، فنحن البشر نستحضر شيطاناً آخر صامتاً يتلاعب بأفعال البشر، وماذا سيشاهدون وكيف سيتم إدارة الشهر على المدى البعيد؟ وبأية أساليب يتحول إلى شهر نهم وخدمات وتسالي تافهة تصب في مصلحة الرأسمالية المسيطرة؟!

الفكرة من ثم أن هناك دورات محكمة الإغلاق حول رقاب الصائمين (بقوانين وآليات الصيام نفسه) تتم بلا وعي وتستخدم موارد المجتمعات لخدمة أغراض رأسمالية شائعة هي الفاعل لجميع مظاهر الحياة الاجتماعية. و الناس إذ يهتمون بالصيام وشروطه ونواهيه وعباداته، سيجدون هناك اهتماماً آخر بالاستثمار الطفيلي في تلك العملية الروحية. فالدول العربية وفرت ترسانة ضخمة من الاعلانات والفقرات الفنية والمسلسلات وبرامج الترفيه والمسابقات المختلطة بالمرح لجذب الصائمين كزبائن لعمل ما يلي:

1- استهلاك الزمن الذي يدّخره الصائم للتفكير في أشياء مهمة ليتم تحويله إلى مجرد كائن اقتصادي واستنفاد طاقاته دون طائل. مما يعني أنه سيكون متكالباً على البضائع بأصنافها المغرية، تلك التي تبدأ من الاعلانات وتفرغ شحناتها في أماكن بيع السلع والأطعمة والملابس.

2- استهلاك الوعي وتسطيحه لدرجة التفاهة، بحيث يظل الصائم أسيراً لما يشاهد ويشتهي. وهذا في النهاية سيجعله مرهوناً بالقيم الرائجة التي تصب لصالح من يتحكم في الأوضاع العامة.

3- استهلاك العقل، لأن اسالة اللعاب المتواصل لا يجعل هناك أدنى فرصة لبناء أية عقلانية، وبخاصة أنّ وسائط التواصل الالكتروني والتلفاز تضع المُشاهد في ورشة يومية للتمثيل الزائف على غرائزه وإثارتها وإلهابها.

4- استهلاك الجوانب الروحية، فرغم أنَّ الصائم يعيش علاقة روحيةً مع الله، إلاَّ أن الرأسمالية الطفيلية تتاجر في هذه العلاقة، تصادرها لصالح المناظر البراقة في المساجد وحتى الملاهي والمراقص والأضواء التي تظهر مستويات المعيشة وتراوغ بها.

5- استهلاك الحرية الذاتية وصناعة كائنات لاهثة وراء احتياجات أولية لا غير. وشهر الصيام بدلا من كونه شهراً للرفض والتحرر والخروج من إصر العادات والتقاليد يصبح شهراً للتدجين والإقامة الجبرية أمام الشاشات وخلف الأسطح الإلكترونية اللامعة.

6- استهلاك الإنسان كوجود أصيل ليصبح وجوداً مفرّغاً من أصالته. هو عندئذ يغدو كائناً مرمياً إلى درجة النسيان بملء الكلمة على قارعة الأسواق.

7- استهلاك الإيمان وذلك عندما يتجسد في طقوس خارجية كل همها أن تأكل وتشرب من زمن الصائم ومن نسغ حياته فقط. ويعود الموقف الشره من الحياة إلى النظرة السلعية المتعاملة مع الروحانيان كبضائع.

8- استهلاك الميتافيزيقا، حينما تهبط النظرة السلعية الرأسمالية إلى فائض المقدسات في صور من الإشباع الحسي والجسدي. فعندما يكون المناخ السائد صور ووصفات وأيقونات للاستهلاك والتسوق، فإن الكلي (أو المقدس) عند الحد الأدنى من الوجود.

المسألة أنَّ التهنئة في الفضاء العام من قبل مؤسسات أو سلطة عامة أو شخصيات معنوية إلى الشعوب والأفراد، تدعونا للتساؤل: لمن تذهب هذه الصيغة البهيجة لدرجة السذاجة؟ هل هناك دورة لعبارات التهنئة تعرف طريقها للتحديد لو ضمنياً؟

الإجابة المفاجئة أنَّ التهنئة تعود بكل العوائد الاقتصادية والسياسية على مصدرها وما يدور في فلكه من رموز وقوى تتربح دلالياً ومادياً من تلك العبارات. وسيكون الصائم في هذه الحالة موضوعاً ليس أكثر ينتظر دوره في طابور طويل لتحقيق المراد له ومنه بالوقت نفسه. المراد له بأن ينتظم وفق الخطط الموضوعة لتدجين البشر ومنه بأن لا يريد إلاَّ ما يُراد له في نهاية الأمر. إن هناك استعمالاً عمومياً للصيام من قبل الأنظمة السياسية العربية تحتم عليها إطلاق عبارات تهنئة لا تذهب لشخص بعينه ولا تعرف معاني محددة. ولذلك لا يخرج الصيام عن كونه أحد أدوات تكملة أسواق الاستهلاك التي ترعاها الدول وتعسعس فيها الرأسمالية الطفيلية لدمج مواقف الدول مع ما تهدف إليه أنظمتها المستبدة. ومن هنا تمثل مسألة الصيام قضية مهمة، لأنها تروى باقي القصة في جوانب الحياة الأخرى، من تعليم وثقافة وحريات عامة وحقوق إنسان.

ولذلك ليس مصادفة أن نرى فئات معينة في المجتمعات العربية هم من يظهرون على الشاشات والوسائط الالكترونية أثناء شهر الصيام، مثل الفنانين ورجال الأعمال والساسة والرياضيين ورموز المجتمع والأطباء المشهورين. فهؤلاء هم نقاط إحداثية على خطوط الدوائر المغلقة سياسياً التي تتربح في إطار استعمال الصائمين لتحقيق المكانة والمنافع بقدر الإمكان. لقد بدا الوضع في الفضاء العام كسوق يتكالب عليه التجار للمضاربة، وكيف يتم جني ما يتسنى من أرباح سواء بالمسلسلات والدراما أم بالبرامج الترفيهية وفقرات المسابقات. ونتيجة الإنهاك في الحياة العامة، سيسلّم الصائم نفسه إلى هذه القوى، سيسلم وعيه وروحه وكيانه على مشارف العدم تاركاً لها أن تكْمل فيما تريد.

أساس الإغلاق لتلك الدوائر بين الفنون والإعلام والسياسة والاقتصاد هو التواطؤ على شغل تلك المساحة الذاتية من الصيام، لأنها هي المساحة التي يشعر فيها المواطنون بخصوصية العلاقة الرأسية (مع المقدس) والأفقية (مع الآخرين) بالوقت نفسه، وأن الصيام قد يدع صاحبه للتفكير عميقاً في الحياة والتاريخ. ومن ثم تتحسس الأنظمة السياسية العربية بغريزتها (كأنف ضخم بحجم الثقافة الجارية) ماذا يكون الصيام وكيف سيؤول إلى وسيط لأشياء أخرى خارج الذات. فالإنسان الذي يتحرر من الشهوات والأنانية بالامتناع عن الطعام والملذات إنما يمثل خطراً سياسياً بالمقام الأول. وكحال هذه الأنظمة تجند كافة أدواتها من فنون وإعلام وانشطة وملاهٍ وأسواق لدرء الأخطار قبل أن تقع.

إن مقولة (كل عام وانتم بخير) تقال قصداً لأصحاب الهيمنة على الفضاء العام، هي تعود عليهم بكل بخير وسعادة كأنهم يسمعون ما يفكرون فيه إزاء الآخرين، رغم أنها في طريقها الكلي تغمر رعايا الدول بمزيد من الحث على الحضور وسط كرنفالات الصيام المنصوبة هنا أو هناك. لكن هؤلاء الرعايا بعد حين سيكتشفون سرقة كيانهم الحر، أزمنتهم الحرة، حياتهم الحرة... وأخيراً إرادتهم الحرة لصالح من يستثمر ويتاجر في غذاء العقول والبطون!!

هكذا لعلَّ الفلسفة مهمة في التفتيش خلف المقولات العامة بصدد الصيام أو غيره من الموضوعات الدينية، ليس من جهة الحثْ عليها كضربٍ من الإيمان، بل لإفساح المجال لكي يكون إيماناً حراً أو لا يكون دون التدخل فيه. الأهم هو صقل "إرادة الاعتقاد" حتى نرى جوهر معتقداتنا بكل شفافيةٍ وصراحة ونقد وما يكتنفها من مثالب أو ايجابيات. لن يكون " رجل الفلسفة" " رجل دين" إطلاقاً، بل يجب أنْ يشترك الاثنان في إنسانية الإنسان. وما لم يلتقيا عند تلك النقطة دون عناوين سابقة التجهيز، فلن يكتشف الاثنان ما تتسلّط على الأديان من توظيفات سياسية بقدر ما تتسلّط على الفكر. فالهموم تجمعهما معاً ويجب تحرير نشاطهما بطرائق التفكير والتعقل الحر.

 

د. سامي عبد العال

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم