صحيفة المثقف

عبد الخالق الفلاح: جروح متجدد في الذاكرة

عبد الخالق الفلاحلقد شهد العراق بعد ثورة (14 تموز 1958) مجموعة من التغيرات الكبيرة في المجتمع العراقي والدولة الجديدة، والتي بلغت حوالي خمسة اعوام عمراً كي تكون رمزاً على انبعاث الأمل، والدليل الساطع على ثبات الهوية واثمر عن نبتة الكرامة والتحدي والحلم بغد مشرق، يداوي اوجاع المستقبل وما تحققت من التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي لازالت اثارها شاخصة من منجزات حيوية، فقد كانت فترة مليئة بالقرارات الثورية التي تخص الجماهير المسحوقة طول التاريخ، والمشاريع التنموية الجديدة، كما شهدت الساحة السياسية انفتاحاً غير مسبوق من الحرية ولكنها شهدت مصادمات حادة وأحياناً دموية بين التيارات السياسية القومية واليسارية والدينية . وكثيرة هي الذكريات المؤلمة التي مرت بي وانا اتذكرها بلحظاتها اثر التكالب عليها من قواً داخلية وخارجية، ولعل  58عاماً مرت على انقلاب 8 شباط الفاشي الاسود في سنة 1963 المشئوم رسم بصمة وخط كلمته بعنفوانه في ذاكرتي الموجعة والتي مازالت ثمة أقلام خبيثة تعشق سموم ذلك الانقلاب وتعتبره " ثورة " بدل من تكون مجزرة دموية مؤلمة لكل من عاشها، وإن تُعد قليلة ومحدودة  في عمرها، ومنهم من نعتها بتسميتها  ب "عروس الثورات"  بكل مظالمها وعنفها، أي عروس هذه التي مهرها وخضابها دماء آلاف من أبناء العراق، إن التاريخ يعيد نفسه ثلاث مرات في التاريخ الحديث في العراق .

 في المرة الأولى كمأساة عام 1963  الذي تميز بالعنف والدموية وروح الانتقام والثأر وشكل حزب البعث العربي الاشتراكي النواة الصلبة بيده  لقيادتها والهيكل الرئيسي والعقل المدبر والمنفذ الفعلي لها مع مجموعة من القومين العرب "الجناح القومي الناصري من الحركة السياسية العراقية "بني هذا التعاون السياسي في فترة الانقلاب في ضوء التحالف القديم الذي نشأ في العام 1959 بين القوى القومية بمختلف أجنحتها والقوى البعثية، والذي أطلق عليه في حينها بـ “التجمع القومي” رغم انفضاض عقده بعد سقوط الوحدة المصرية - السورية وانسحاب سوريا من تلك الوحدة الشكلية في أعقاب انقلاب اذار 1962 " واثرالموقف السياسي المشترك لدى القوى البعثية والقومية الناصرية المعارضة لحكم قاسم المصممة على إسقاط النظام ولم يدم بعد ان اطاح بانقلاب اخر عليهم المشير عبد السلام عارف في 18 تشرين، في مقابل التفكك في مواقف القوى المساندة لزعيم الثورة، والتي اكلت نفسها وانتهت على اشلاء الضحايا من ابناء الشعب العراقي " ولعل واحد من أهم معالم القمع والإرهاب الذي اسس فيه هو الحرس القومي حيث تم تشكيله بشكل رسمي في 28 شباط 1963 وهي شكلت بمجموعات ترتدي ملابس عسكرية تجوب الشوارع وعلى ذراعها شريط يميزها وتحمل السلاح (بنادق بوسعيد على الاكثر المهداة من الرئيس جمال عبد الناصر) فتزرع الخوف والرعب وتعتقل من تعتقل وتعذب من تعذب حتى على الارصفة واتخذت من المقاهي والبيوت مكانات للتعذيب ومقرات دون ضوابظ قانونية . وأخذت هذه المجاميع والعناصر الغير المنضبطة اخلاقياً في  اقامة  الحواجز وتفتش السيارات والعابرين في الشوارع  مدنيين وعسكريين والاعتداء على الفتيات والنساء واغتصابهن، حتى صارت منظمة للرعب لا يستطيع أحد مواجهتها أو الاعتراض على تصرفات افرادها، تبث الرعب والخوف بين المواطنين. لا يتوانون عن ارتكاب الرذيلة والفاحشة وبث الانحراف الاخلاقي  في مجتمعنا المحافظ.

 ويرتادون الحانات الليلية، فيفرضون على أصحابها ما يشاؤون، وارغام الفنانين والفنانات على المنكرات ورغم الجرائم البشعة التي ارتكبتهاهذه المجموعات، فمازال الكُتاب في حل من الكتابة عنها بانصاف، ولا تجد لها ذكر في كتاباتهم ومؤلفاتهم ومذكراتهم إلا القليل .

لقد كانت سيطرت جماعة عبد السلام عارف على السلطة في ردة تشرين كما سميت ولسنا في محل من أن نتابع حركة القوى المتصارعة حينذاك اي قبل الانقلاب  في هذا المقال وكيف كانت تعمل القوى التي تساند وتقف بمستويات مختلفة إلى جانب عبد الكريم قاسم، وكيف كانت تعمل القوى المضادة لحكمة؟

اما الثانية فقد كانت اكثر من الاولى اجراماً  عام  1968 والتي نصبت كمين لمجموعة من الأحزاب  في "جبهة وطنية" كيدية ومن ثم تصفية قياداتها بعد  كشف خيوط تنظيماتها حيث سجنت من سجن وقتلت من قُتل تحت التعذيب  او على اعواد المشانق وهرب من هرب الى جهات مختلفة والتي صبغت جدران المدن بالدم القاني وكانت اليد التي بطشت بأحلام كل الاطياف والقوميات والاديان والمذاهب وحكمت عليها بالموت بعد ان حاولت مسخ الهويات وصبها في مصب حزب البعث الفاشي .

 الثالثة هي الاحتماء خلف أيدي "الداعشيين" تحت راية دولة الخلافة الفاشلة.. كمهزلة وما حدث، في المرة الاولى تمثل في انتهاء دولة الوحدة بعد اقل من سنتين من عمرها وثم في انقلاب 8 شباط الدموي حيث ذهبت ارواح اختلط فيها العقيدة والبراءة وشمل اليساريين واليمينيين والمستقلين والعامل والمثقف والموظف أصحاب الشهادات العلياً الذين لم تكن لهم علاقة بالاحزاب او التشكيلات السياسية ولانها ضاع فيها الحابل بالنابل واختلفت جنسياتهم (ذكر وانثى) وسنوات العمر للضحايا ففيهم من هو في مقتبل العمر ومنهم قد بلغ عتياً بسبب تشكيلة الحرس القومي الذين شكل قياداته اعتى المجرمين ولم يتم الكشف عن تلك الجرائم إلا بعد سقوط ذلك  النظام بالانقلاب بالمقابل ضد حزب البعث في 18/11/1963. من قبل عبد السلام عارف  وتم الكشف عن فضائع لا تصدق وصدر في نفس العام كتاب (المنحرفون) عن  وزارة الاعلام في ذلك الوقت يبين اساليب الاعتقالات والتعذيب والاغتصاب والقتل ويصور فضائع تلك الفترة، وتضمن الكتاب صوراً لأدوات التعذيب من آلات قطع الأصابع إلى الخوازيق التي يجري إجلاس المعتقل عليها، إلى العصي والهراوات وألكيبلات، واغتصاب الفتيات والسيدات، لاخذ الاعترافات منهم  والاعتداءات على الناس والسرقة. كما تم الكشف عن العديد من المقابر الجماعية من ضحايا فترات الحكم البعثي ولغياب الروح الأنسانية عندهم ولم تكن تجمعهم عقيدة او أيديولوجية  إنما  الجبن والخوف وإلأجرأم والحقد الأسود.

 

عبد الخالق الفلاح

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم