صحيفة المثقف

كتاب ميثم الجنابي: بوابة التاريخ الأبدي

ميثم الجنابيصدر كتاب (بوابة التاريخ الأبدي) عن المركز الاكاديمي للابحاث. 2021. وعدد صفحاته 435

وغايته الاساسية هو النظر في فلسفة التاريخ وأثرها في تأسيس الفكرة السياسية. ومن ثم دورها بهذا الصدد في تاريخ الامم والحضارات. ويتكون الكتاب من مقدمة وخاتمة وسبعة اقسام هي على التوالي

المقدمة

فلسفة التاريخ اللاهوتي عند القديس اوغسطين

فلسفة التاريخ اللاهوتية

النقد اللاهوتي الفلسفي للوثنية

التاريخ والعناية الإلهية

البديل التاريخي النصراني

المضمون التاريخي لفلسفة التاريخ اللاهوتية

فلسفة التاريخ والحضارة عند ابن خلدون

فلسفة العبرة التاريخية

فكرة التاريخ وعلم التاريخ

علم التاريخ ونظرية التاريخ

التاريخ والعمران

العصبية ونشوء الدولة والسلطان

فلسفة الدولة والنظام السياسي (الملك)

طبيعة الملك والنظام السياسي

فلسفة الثقافة والحضارة

الانتقال من البداوة إلى الحضارة

ميكيافيلي- الترميم السياسي لعجلات الانقلاب التاريخي

الفكرة السياسية الجديدة

التجارب الشخصية والحصيلة  النظرية

فلسفة النصائح السياسية العملية

الفلسفة السياسية لعلاقة الغاية بالوسيلة

الاخلاق السياسية الجديدة

هيغل- فلسفة المسار التاريخي للروح المطلق

مناهج دراسة التاريخ

التاريخ الفلسفي للعالم ومجراه العام

مجرى التاريخ العام – مغامرة العقل والحرية!

العقل والتاريخ – الحكمة والحرية

الدولة: الكلّ الأخلاقي

حرية الروح وروح الحرية

ماركس- فلسفة التاريخ الحقيقي

الصيرورة الذاتية لماركس والماركسية

من منطق الروح الهيغلي إلى منطق التاريخ الفعلي

منطق الفكرة الماركسية عن التاريخ

بداية الوعي الفلسفي للتاريخ الفعلي

التاريخ وفكرة التاريخ الماركسية

التاريخ حامل البديل الثوري

القيمة النظرية والعملية لفلسفة التاريخ عند ماركس

دانيليفسكي – فلسفة الفكرة التاريخية الثقافية

المأثرة التاريخية لفكرة دانيليفسكي السلافية

فلسفة النمط التاريخي الثقافي

الأوهام الأيديولوجية واليقظة السياسية في وعي الذات الروسي

الفكرة السلافية السياسية الثقافية

العقيدة الثقافية السياسية للفكرة الروسية

روسيا واشكاليات "المسألة الشرقية"

فكرة الاتحاد السلافي والبديل الحضاري الذاتي

الجنابي - فلسفة البدائل المستقبلية

فلسفة المراحل التاريخية الثقافية

قانون التاريخ ومنطق الثقافة

ماهية التحول النوعي في المراحلة التاريخية الثقافية

الحضارة: وحدة المركزية الثقافية والمرجعيات المتسامية

التاريخ الفعلي وفلسفة الاحتمال العقلاني

فلسفة البدائل المستقبلية: فلسفة الاحتمال العقلاني

العالم الإسلامي ومرحلة الانتقال التاريخي المستقبلي

العالم العربي وآفاق مركزيته الثقافية والمستقبلية

الخاتمة

2398 ميثم الجنابي

من المقدمة

إذا كان إدراك حقيقة المطلق يحّصن الرؤية المستقبلية من التعثر أمام عقبات الزمن، فإن إدراك حقيقة التاريخ يحّصن الرؤية المستقبلية من البقاء في فلك الزمن الدائر. فالتاريخ هو مقدمة الوجود الفعلي والبدائل المستقبلية بمختلف مستوياتها ونماذجها. والقضية هنا ليست في أن عدم الأخذ بالعبرة من التاريخ سوف يجعل المرء والشعوب والأمم تكرر نفس هفواتها، ومن ثم البقاء في فلك الزمن الفارغ، بل ولأنها تقفل على العقل إمكانية الرؤية النقدية واستشراف المستقبل. ومن ثم البقاء في مراحل التاريخ المنصرمة.

فالرؤية التاريخية المستقبلية، أو ما ادعوه بتاريخ المستقبل هو ضمانة الانقاذ الدائم للرؤية المستقبلية نفسها من جهة، كما إنها تشحن الرؤية المستقبلية بقوة الإرادة، من جهة أخرى. بمعنى، إن هذا الموقف يهّذب الرؤية المستقبلية من التشاؤم وينفخ فيها روح التفاؤل المغري. ويستحيل بلوغ ذلك بدون فلسفة للتاريخ بشكل عام وفلسفة للتاريخ القومي بشكل خاص. وذلك لأن لكل قومية وأمة كبرى صيرورتها الخاصة في المسار التاريخي العام، وتجاربها الذاتية في مراحله الثقافية.

ففيما يخص المسار التاريخ العام، فإنه مشترك بالمعنى المجرد بالنسبة للوجود الإنساني. وبداية وعيه بالأسطورة واستمراره بالعقل المنطقي وتكامله بالعقل الفلسفي والعلمي. بينما تتحقق الفكرة التاريخية في مجرى تجارب الأمم بالشكل الذي يستجيب لمراحل التاريخ الثقافية.

من بدائية الرمز إلى بداية الرمز التاريخي

لقد كانت الأسطورة الحلم الأول للإنسان والبشرية على العموم. ومن ثم تعكس ملامح انفعالاتهما الأولية. لكنها تتمثل أيضا في اعماقها الهواجس العميقة لتأمل ما جرى ويجري. وبهذا تكون قد تضمنت في رمزيتها البدائية على ملامح الاكتشاف الأولي لمعنى وجودها وقيمة أفعالها في الزمن. فالأسطورة بهذا المعنى تعّبر عن المرحلة الأولية في تجريد الوعي. إنها تمثل مستواه الحسي الحدسي المباشر. الأمر الذي جعل من موضوعاتها التاريخية أجزاء متناثرة في ليل الماضي، شأن نجوم الكون اللامعة. ومن ثم الخلفية الجامعة والمبرّزة لها، بوصفها ظلمة المجهول التي تتحكم في كل ما كان ويكون على انه قدرا محتوما.

فالأسطورة ليست نظرية ولا منطقا. ومن ثم فهي تفتقد إلى صيغة التفكير المنَّظم، أو المنظومة العقلية، بوصفه النموذج الأعلى للتفكير المنطقي. إن الأسطورة تاريخ. بمعنى إن التاريخ يذوب فيها ويظهر بما في ذلك في خرافات الفكر والمواقف والتقييم، بحيث تجتمع فيها الحكمة العملية والرمز والإيحاء والقيم وكثير غيرها مما يشكل مضمون الحياة البشرية. وفي كل ذلك تبرز الملامح الأولية لوعي الذات الثقافي المتوّحد، وتجزئته الدائمة في عالم الثقافة المتغير.

وقبل أن تحصل فكرة التغير الدائم على محتواها الأعمق، باعتبارها أحد قوانين الوجود الكبرى، وقبل أن يبلغ الفكر العقلي تحرره من خرافات الأسطورة، كان لابد لها من المرور في كل دهاليز الوجود والوعي لكي تبلغ حريتها الجديدة. بمعنى تحرر العقل من السماع والانصياع الكامل له، شأن اندهاش وتلذذ الأطفال بحكايات الأمهات والجدات. حينذاك يتخذ التغير والتبدل في المواجهات والكفاح والخنوع والانتصار والهزيمة والأفراح والأحزان، باختصار في كل متناقضات الوجود الحي، هيئته المستقلة في الوعي المتأمل لما حدث ويحدث. عندها يظهر بالضرورة السؤال والفكرة المتعلقة بالقوة القائمة وراء كل ما يجري.

ومفارقة الأسطورة والفكرة الأسطورية تقوم في استبدالها للعقل والمنطق في الرؤية بأسلوب "التشويش" الخيالي، الذي تبتدع فيه ومن خلاله مختلف صيغ الاحتكاك بالواقع وتجاوزه إلى عوالم الوجود غير المرئية، أي كل ما يدغدغ الخيال التاريخي للأمم في مراحل تكونها المدني والثقافي. إذ ليس التكون الثقافي للأمم سوى الاستظهار الواقعي والرؤية الفاعلة للأنا الثقافية في وحدة مقوماتها المادية والروحية بوصفها كيانا تاريخيا متحققا في الدولة.

وإذا كان من الصعب الآن تحديد مكونات هذا الاستظهار كما جرى بالفعل في دهاليز وعي الذات الأسطوري للأنا الثقافية، فإن الأمر الذي لا شك فيه يقوم في تمثلها الحسي والحدسي لعلاقتها بنفسها وبالعالم المحيط. وفي هذه العلاقة المتبادلة مع العالم المحيط تبلورت عناصر الوعي التاريخي.

وبهذا تقترب الأسطورة من الشعر، أو أنها نفسها الصيغة الشعرية بفعل تداخل الاثنين في الأسلوب والغاية. فكلاهما ينحدر صوب الأعماق ويغوص فيها لكي يتسامى عليها. وكل منهما يدعي المطلق في احساسه وحدسه. ووراء هذه "المغالطة" المنطقية تكمن "سفسطة" التاريخ الطبيعية. فالوعي الأسطوري يبحث هو الآخر عن نقطة البداية (الأصل) والنهاية (التاريخ). ويكتشف في هذا البحث وحدة الفوضى والنظام، والظلم والعدالة، والحق والباطل، أي كل تناقضات الوجود في وحدتها، كما لو أنها تجل لحركة الطبيعة وتعاقب تجليتها الزمنية من ليل ونهار وحرارة وبرودة وصيف وشتاء وربيع وخريف، أي كل ما أعطى له واستثار فيه وحي الهرمية المبدعة في الكون. وسوف تدخل كل ذلك في الوعي الفلسفي الأولي.

إن اقتراب معضلات الأسطورة في صيغها الفكرية من حدود التفكير المنطقي، كانت تعني فيما تعنيه بالنسبة للرؤية الفلسفية عن التاريخ، اقترابها من أسلوب التفكير المنطقي في النظر إلى مختلف الحالات والظواهر والموقف منها، بمعنى إبراز هوية الذات الإنسانية واستقلالها تجاه تحديد الفعل ومضمونه وغاياته. وهو الشيء الجوهري بالنسبة للتاريخ.

لكن ما هو أكثر جوهريه يقوم في رؤية المسار الذي قطعه الفكر الإنساني في محاولاته تذليل الطابع الحسي والمضمون الحدسي للتفكير الأسطوري من خلال رفعه إلى مصاف المنطق والتعميم، باعتباره الأسلوب الضروري لبلورة المفاهيم الفلسفية، والرؤية الفلسفية عن التاريخ.

فلسفة التاريخ الثقافي

وهو ما اطلق عليه أيضا عبارة فلسفة تحقيق الفكرة التاريخية في مجرى تجارب الأمم وبما يستجيب لمراحل التاريخ الثقافية. فحالما ننظر، على سبيل المثال، إلى الشخصيات الكبرى التي اتناولها في هذا الكتاب، باعتبارها شخصيات جعلت من الفكرة السياسية قضية جوهرية في فلسفتها عن التاريخ مثل اوغسطين وابن خلدون ومكيافيلي وهيغل وماركس ودانيليفسكي، فإننا نلاحظ أن الاختلاف النوعي بينها مرتبط باختلاف المراحل التاريخية الثقافية. من هنا تباينها الظاهري في اللغة والتعبير والأسلوب واشتراكها في تأمل التاريخ الثقافي والبحث فيه عن مصير (اوغسطين) وعبرة (ابن خلدون)، ومصدر ومعين (مكيافيللي)، وميدان العقل والروح (هيغل)، واستشراف المستقبل (ماركس) ووعي الذات الثقافي القومي (دانيليفسكي)، وتوليفها النقدي وتذويبها في فلسفتي (فلسفة البدائل المستقبلية).

ففي شخصية وابداع اوغسطين وابن خلدون تنعكس بداية ونهاية المرحلة الدينية السياسية. فاذا اكن اوغسطين يمثل بداية المرحلة الدينية السياسية (النصرانية –الاوربية)، فان ابداع ابن خلدون يمثل نهاية المرحلة الدينية السياسية (العربية الاسلامية). من هنا اختلافهما ليس فقط في ما يتعلق ببداية ونهاية المرحلة التاريخية الثقافية (الدينية السياسية) بل وبفعل تباين التجارب الثقافية المختلفة.

بينما يمثل مكيافيللي بداية المرحلة السياسية الاقتصادية في التطور التاريخي الثقافي الاوربي. اما هيغل فوسطها، بينما يمثل دانيليفسكي وماركس بداية نضوجها واستكمالها الناضج على التوالي. وعند هذا الحد يقف الفكر الفلسفي عن التاريخ عند مشارف المسار المنعقد والافاق غير الجلية بالنسبة لآفاق التطور التاريخي اللاحق. من هنا تنوع المدارس التي لم تخرج في الاطار عما بلوره هيغل وماركس. أي أن أي منهم لن يتناول اشكاليات التاريخ المستقبلي. وهي القضية التي شكلت مضمون (فلسفة البدائل المستقبلية) التي اضع صيغتها الأولية المختصرة في هذا الكتاب. وهي فلسفة تسعى لتأسيس المستقبل بوصفه تاريخا مستقبليا يتأمل المسار التاريخي اللاحق ومراحله الثقافية الكبرى، ووعي المسار التاريخي الذاتي بوصفه مشروعا أو مشاريع محكومة بفكرة الاحتمال العقلاني القائم في صلب الإمكانيات الضرورية المستقبلية. وسوف أنشر صيغتها الكاملة قريبا.

لهذا لم اتناول مختلف المدارس الكبرى المهمة، التي جعلت من التاريخ، والتاريخ الثقافي، وتاريخ الحضارات موضوع اهتمامها الأساسي. وذلك لأنها جميعا كانت أقرب إلى الفلسفة المكتبية. وهذا لا يقلل من قيمتها الإبداعية الكبيرة والعظيمة أحيانا، لكن أهميتها تبقى محكومة ومقيدة بالتأثير الخفي والعميق لوعي الذات التاريخي والثقافي والحضاري، أي البقاء ضمن حدود العقل النظري التأملي. اضافة لذلك، إن ظهور الكثير من التيارات الفلسفية الكبرى عن التاريخ ليس إلا نماذج متنوعة من إعادة "قراءة" التاريخ.

لكننا نعثر في الوقت نفسه على تيارات مؤثرة من الناحية السياسية، رغم طابعها المكتبي. ولم يكن هذا بدوره معزولا عن الاثر المباشر وغير المباشر للماركسية. وبقدر ما ينطبق ذلك على ماكس فيبر، فإنه ينطبق أيضا على تراث التيار الفلسفي الداعي بالرجوع إلى كانط (الكانطية الجديدة) وبالأخص في مدرسة بادن واهتمامها النوعي بفكرة التاريخ وبالأخص عند كل من فيلهيلم فيندلباند وهنريخ ريكرت. والشيء نفسه يمكن قوله عن مختلف التيارات النقدية لليسار الجديد الذي اكتسح العالم على امتداد عقود، وبالأخص في ستينيات وسبعينات القرن العشرين، سواء في مدرسة فرانكفورت أو الوجودية (وبالأخص ياسبرس وتأملاته الفكرية عن التاريخ ومعنى التاريخ). وأخيرا كل نماذج وشخصيات "قراءة" التاريخ والنصوص من اجل إعادة بناء وتركيب الصورة التاريخية الفعلية للماضي والحاضر كما نراه عند غادامير وفوكو ودريدا وغيرهم. إضافة إلى مدارس التأويل الحديثة بل وحتى المناهضة للماركسية كما هو الحال على سبيل المثال عند والت وتمان روستاو في كتابه (مراحل النمو الاقتصادي: البيان غير الشيوعي")، أي ترديده لصدى الفكرة الماركسية عن مراحل التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية.

التيارات والشخصيات الحديثة

اما التيارات الفلسفية الكبيرة ومدارسها التي لعبت دورا كبيرا في بلورة اسس الرؤية النقدية العقلانية للتاريخ والثقافة والحضارات، فيعود اغلبها الى المدرسة الالمانية والفرنسية والانجليزية. فمن الناحية التاريخية والنظرية العامة يمكن تحديد أهمية وثقل مدارس الفلسفة الألمانية عن التاريخ وتأسيسي الفكرة التاريخية. ومع ذلك تكن ألمانية بالمعنى الضيق للكلمة، وذلك لأنها كانت، من حيث المنهج والرؤية، في صراع متوازي وتتنافس مع تقاليد المدرسة (التنويرية) للفرنسيين والعملية للإنجليز.

وخصوصية الفلسفة الألمانية ومدارسها بهذا الصدد تقوم في أنها مثلت من الناحية النظرية في ميدان الرؤية الفلسفية للتاريخ ما مثلّته مدارس عصر النهضة في مجال التأسيس غير المباشر لتهديم أسس ومرجعيات المرحلة الدينية السياسية وهيمنة الدين والكنيسة، وما مثلّته مدارس عصر التنوير في إرساء أسس الرؤية العقلانية والحداثة. وليس مصادفة أن تصبح الثقافة الإغريقية مثالا ملهما للثقافة الألمانية، بحيث يندر العثور على فيلسوف ألماني لم يتطرق إليها أو أن تكون بداية مساره الفلسفي. ولعل ما قاله غوته من "إننا كلنا يونانيون. ولا يمكن للمرء أن يكون عارفا ومثقفا وعصريا ما لم يكن يونانيا" سوى إحدى الصيغ البلاغية والوجدانية الشعرية عن هذه الحالة. اضافة إلى البواعث العميقة لفكرة المركزية الثقافية. من هنا إبداعها الكبير في التأسيس لإشكاليات وعي الذات التاريخي والثقافي. إضافة إلى حدس وتأسيس فكرة تنوع الثقافات وعوالمها الخاصة والأصيلة. من هنا امتلاء التقاليد الألمانية بصدد التاريخ وإشكالاته بهيمنة النظرة الفلسفية لمساره المعقد في تجارب الأمم، على خلاف النظرة الفرنسية العقلانية عن النوع الإنساني الواحد.

فقد توصل كانط إلى الفكرة القائلة، بأن التاريخ هو ملكوت الحرية، وانه يختلف عن مسار الطبيعة. بينما نرى نيتشه مثلا نموذجيا للرؤية الفنية أو الجمالية عن التاريخ. إذ اعتبر تاريخ الروح هو التحقيق الفردي للحياة، وتجسيد الطاقة غير العقلانية في المسار العقلاني لبلوغ الغاية والأهداف. من هنا فكرة ونموذج السوبرمان، الذي وجد نماذجه الجميلة في اليونان وروما. بينما انكسر هذا الروح والشخصية خلال سيطرة النصرانية. اما المرحلة الجميلة الأخرى للتاريخ فنراها في عصر النهضة. فهو العصر الذهبي بغض النظر عما فيه من نواقص. من هنا قوله "إننا مدينون لها بكل ما هو متنور من حب المعرفة والعلوم واحتواءها". غير أن القوة المحنطة للارستقراطيات التقليدية استطاعت سد مسار هذا التيار العارم للحرية والتنوير. واستمرت هذه التقاليد قوتها الجديدة زمن الانحطاط والرجوع القهقري في القرن الثامن عشر الأوربي كما نراه في صعود الحركة النسوية والاشتراكية والديمقراطية. أما البقعة الوحيدة النيرة الباقية فهي شخصية غوته وعبقريته التي لم تحصل على أتباع وأنصار، كما يقول نيتشه.

إن التاريخ بالنسبة لنيتشه هو استمرار الانحطاط، وكل ما يجري رفعه من شعارات وقيم هي في جوهرها انحطاط. من هنا فكرته عن القيم البديلة، بما في ذلك تقويم الزمن بالرجوع إلى زمن زرادشت والانطلاق منه كما نعثر عليه في كتابه (هكذا تكلم زرادشت). والشيئ نفسه نعثر عليه في الاستلهام العميق للتراث الهندي في فلسفة شوبنهاور. وحصلت هاتين المدرستين على تأويلها وتأسيسها المتميز في ابداع اوسفالد شبنغلر، والذي وضعها في منهجه المورفولوجي، بوصفه منهج التفسير الكبير للثقافات الكبرى وتأويلها الفني (ليس العلمي الدقيق).

لقد أنتجت المدرسة الألمانية إعداد كبيرة من جهابذة العلم التاريخي والفلسفي التاريخي، امثال غومبولدت، وريكرت، وديلتي، وفندلباند، وترويلج وغيرهم. ولا يغير من اهمية وحقيقة هذا الابداع الهائل، كون الهيغلية كانت تقبع في قاع أغلب إن لم يكن جميع المدارس الفلسفية الألمانية في مواقفها من التاريخ، وفكرة التاريخ العالمي، وفلسفة التاريخ.

فقد وضع ريكرت الصيغة العامة أو البرنامج العام للعلم التاريخي، ومن ثم فلسفة التاريخ. واستند في فلسفته هذه على أساس تعميم الحصيلة المعرفية للمسار التاريخي، ومن ثم جمع تواريخ الأمم في تاريخ واحد. إضافة إلى البحث عن معنى التاريخ، واخيرا وضع الأسس المنهجية للمعرفة التاريخية.

بينما اعتقد ارنست ترويلج كما نراها بشكل خاص في كتابه (النزعة التاريخية وقضاياها. القضية المنطقية لفلسفة التاريخ)، بان ما يميز الرؤية الألمانية هو طابعها الديني الصوفي، كما نراه في تمحورها حول خصوصية وفردانية الثقافة على عكس الفرنسيين والإنجليز الذين وجدوا مثالهم في حركة التنوير، أي في الطابع العقلاني والشامل المبني على أساس العلوم الطبيعية والمنطقية (الرياضية). بينما بدت هذه الفكرة المنهجية بالنسبة للفلاسفة الألمان مجرد صيغة مسطحة بالنسبة للوعي الفلسفي التاريخي. اما الصفة الاخرى فهي الدخول أو التغلغل إلى جوهر الأشياء كما يقول كارل بوبر في كتابه (بؤس النزعة التاريخية). وهي الفكرة التي أشار اليها ايضا ف. فينديلباند في كتابه (الروح والتاريخ) الذي نظر إلى الفلسفة الألمانية باعتبارها الوعي التام لما تناولته الفلسفة الإغريقية القديمة، وهي الفكرة التي شاطرها كارل بوبر ايضا.

اما فيلهلم ديلتي، الذي تاثر بفلسفة الحياة التي بلور معالمها نيتشه، ومن ثم اختلاطها بالنزوع اللاهوتي بحيث ادت الى بلورة موقف ومنهج خاص في نظرته إلى التاريخ. ووجد ذلك انعكاسه في الفكرة العامة القائلة، بان مهمة البحث الفلسفي في التاريخ تقوم في الكشف عن الطابع الشخصي الملموس والفردي والروحي المضمون في الدين والفقه والحقوق، والفلسفة والفن، اي كل ما يتحول إلى القوة الموجهة أو المحّركة للتاريخ. فالتطور، حسب ديلتي، يحتوي على معنى وقيمة وفكرة وبؤرة روحية موجهة. وبالتالي، فإن التاريخ هو تاريخ الروح وارتقاءها التاريخي الكوني. أما مضمون وغاية التاريخ عند ديلتي فيتطابقان مع منهج المعرفة والتعليم وتأثيرهما على الدولة والمجتمع. من هنا خلو فلسفته عن التاريخ من الفكرة النسبية والشكوك. ومن هنا أيضا فكرته عن أن القيم التاريخية هي التي تصبح بؤرة أو مركز الواقع الحي وتنوع ما فيه.

بينما سار اهتمام فيلهلم فيندلباند صوب خصوصية المقولات أو المفاهيم التاريخية، أي كل ما يساهم في بلورة الرؤية العلمية عن التاريخ أو ما يدعوه بملكوت الصور والأنماط. وانطلق في فلسفته عن التاريخ من أن هناك نمط تفكير صوري (من الصورة) عن التاريخ (التي سيحولها شبنغلر لاحقا الى مفهوم نمط الاشكال في تفسير التاريخ). وميّز العلم التاريخي وإشكالاته مقارنة بالعلم الطبيعي في كونه يهتم بملكوت الصور، على خلاف الطبيعي الذي تشكل القوانين ميدان اهتمامه وملكوته. ونظر إلى مفهوم التطور التاريخي، باعتباره منظومة أو مفاهيم المسار التاريخي أو العملية النفسية السببية. فالإنسانية تنتج نفسها من مختلف الشعوب والأقوام المتناثرة على سطح البسيطة بوصفها وحدة واعية لذاتها، وهو المقصود بتاريخها. ووضع هذه المقدمة النظرية العامة ومنهجها في موقفه من التاريخ الانساني وثقافاته. وحصرها في كل من أمريكا الوسطى، والآسيوية الشرقية، وحوض البحر المتوسط. وفِي هذه الأخيرة جرى بلورة أسس العلوم والفكرة العلمية (اليونان)، وفكرة الدولة والحقوق (روما)، وفكرة الإنسانية الجامعة (أوربا). فإذا كان افلاطون يمثل شباب الثقافة، فإن كانط يمثل نضوجها، بمعنى نضوج وتنوع الثقافة، وأولوية النقد على الإبداع.

في حين أنتج ماكس فيبر وأسس وبلور فلسفته عن التاريخ بمعايير منطق التاريخ. من هنا خلوها من الأحكام القيميية. أما فكرته عن الأنماط المثلى، فهي نتاج المقارنة المبنية على أساس وجود الصفات الجوهرية المتشابهة. وإن هذه الصفات مثالية، أي لا توجد في الواقع كما هو. انه حاول البحث عن الأنماط المثالية لكل مرحلة تاريخية. وإن النمط المثالي، بالنسبة لماكس فيبر هو البناء الذي ينتج تفكيرنا. وكذلك إمكانية قياس العلاقة أو الخاصية الفردانية، أي الصلات التي تكشف عن أهميتها في خصوصيتها مثلما هو الحال بالنسبة للرأسمالية، والنصرانية، وما شابه ذلك. وكانت غايته بهذا الصدد تقوم في تأسيس الفكرة القادرة على إزالة التصور السائد  والقائل بأن النمطية العادية المجردة تتطابق مع الأصل المجرد في الظواهر الثقافية. بينما لا وجود في الواقع لهذا التطابق.

إن هذا الاستعراض المكثف لبعض شخصيات ومدارس الفلسفة التاريخية الألمانية يكشف عن تغلغل الغائية والحتمية والعقلانية في مختلف مدارسها ومناهجها وشخصياتها الكبرى. إضافة إلى عمقها المعرفي ودقتها المنهجية وروحها العقلاني ونزوعها الإنساني أيضا.

فيما يخص المدرسة الفرنسية، فاكتفي بالإشارة إلى ثلاثة مدارس فكرية وشخصياتها الأساسية.

الاولى وتتجسد في شخصية جان أنطوان كوندرسيه، باعتباره الممثل النموذجي لفكرة التقدم الإنساني. ففي مواقفه ينعكس تراكم فكرة التطور والتقدم وآفاقها غير المتناهية بوصفها تمثلا لحقيقة العقل وتحقيقها غير متناه لما فيه. ووضع ذلك في كتابه عن (الصورة التخطيطية للوحة التاريخية لتقدم العقل الإنساني). وأسس لذلك في ما اسماه بالمراحل العشر التي يمر بها العقل الانساني وهي: مرحلة النظام القبلي ومزاولة الصيد والرعي، و المعارف الأولية البدائية، وكثرة الخرافات والأوهام، وبداية نشوء رجال الدين والعرافة والكهنة والسحرة؛ والثانية هي مرحلة الانتقال من الرعي إلى الزراعة. وهنا يتقدم العقل بمختلف الميادين؛ والثالثة هي مرحلة ظهور الخط والكتابة. حيث يظهر هنا التفاوت الطبقي والنظام السياسي، وكذلك ظهور المدن وطبقة الكهنة، وتحول الدين إلى أداة بيد الكهنة للسيطرة على عقول الناس عبر نشر وزرع الجهل والأمية بين العوام× والرابعة هي مرحلة العالم القديم (اليونان) حيث يأخذ العقل النظري بالتطور، اضافة إلى ظهور وتطور الملاحظة العلمية والعملية، وفي نفس الوقت تستمر الخرافات والأساطير؛ والخامسة هي مرحلة تطور وتنوع العلوم وتخصصها. وفيها خرجت مختلف العلوم من الفلسفة القديمة، لكنها تعرضت إلى السقوط بسبب سيطرة الدين النصراني؛ والسادسة هي مرحلة ما قبل الغزوات الصليبية، حيث اخذ الشرق بالانحطاط ولكن بصورة بطيئة، بينما سار الغرب بأثر الدور الذي قام به البرابرة في القضاء على روما وتحريرهم للعبيد. حينذاك بدأت مرحلة الإقطاعية الفلاحية؛ سابعا مرحلة النهضة حتى اختراع آلة الكتابة والطباعة. وهنا يبدأ التقدم. ومع اكتشاف البوصلة والبارود جرى التغير الهائل في التاريخ الإنساني. حيث يأخذ العقل بالانتشار في مختلف الأماكن، لكنه لم يتحرر كليا من القيود؛ الثامنة وهي مرحلة طباعة الكتب. إذ اصبحت كل الاكتشافات مسجلة ومنتشرة بين الجميع؛ تاسعا وهي المرحلة التي تبدأ من ديكارت حتى الجمهورية الفرنسية. فهنا يأخذ العقل بشق الطريق والثبات الدائم؛ واخيرا مرحلة العلم. إذ لا حدود مقيدة للعقل، وفيها تبدأ آفاق غير محدودة أمام العقل المتحرر.

بينما أرسى أوغست كونت رؤية للتاريخ على أساس تصنيف الذهنية العلمية. وإن مسار هذه الذهنية التاريخي وتطورها مرّ بثلاث مراحل هي على التوالي: المرحلة اللاهوتية، والمرحلة الميتافيزيقية، والمرحلة الإيجابية (العلمية) او الوضعية.

فالمرحلة اللاهوتية هي التي أخذ الانسان بإلباس ملامحه وصفاته على الطبيعة والحيوان والوجود ككل. وفيها جرى الانتقال من تعدد الآلهة إلى الوحدانية. أما المرحلة الميتافيزيقية فهي مرحلة انتقال الوعي والذهنية من الصيغة الطبيعية المباشرة (الحيوانية والنباتية) إلى الصيغة النظرية المجردة. وهنا تظهر المقولات الفكرية والفلسفية والعلمية عن الاسباب والنتائج، والجوهر والعرض، والوقع والمثال وما الى ذلك. بينما تشكل المرحلة الإيجابية قمة التطور. إنها مرحلة التنظيم العقلاني للمجتمع والوجود ككل. كما أنها مرحلة الدراسة العلمية الدقيقة للظواهر والكشف عن أسبابها الواقعية وارتباطها. وأخيرا، إنها مرحلة المهمات العلمية وكشف القوانين وإرساء أسس الرؤية العلمية للعمل والإنتاج.

ان خصوصية الفكر الفرنسية عن التاريخ تكمن في أن المدارس التي نشأت فيها في العصر الحديث ارتبطت بطبيعة وحجم وتكرار الأزمات السياسية الحادة. فالوعي الفرنسي بما في ذلك الفلسفي هو وعي سياسي اجتماعي ملموس ذو نزوع أدبي وفني. لهذا لم تتحرر الفكرة التاريخية منذ زمن غيزو وحتى فلسفة حوليات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي، التي وضع أسسها كل من لوسين فيفر ومارك بلوك. فقد كان لهذه المدرسة تاريخها الخاص او وعيها النقدي الذي جرى التأسيس لها في (الحوليات الفرنسية) والتي لم تكن بدورها معزولة عن تأثير المدرسة السوسيولوجية لأميل دوركايم. كما يمكن العثور فيها، وبالأخص عند لوسين فيفر على أثر الفلسفة الماركسية التاريخية الاقتصادية. بمعنى تركيزها على العامل الاقتصادي في دراسة التاريخ الإنساني الملموس.

والشيئ نفسه يمكن قوله عن تيار "ما بعد الحداثة" الذي لعبت فيه الشخصيات والمدارس الفرنسية دورا محوريا. فقد كان نقدها لتاريخ التقدم والحداثة استمرارا له ولكن بطريقة مقلوبة. غير أن قيمتها الجوهرية بالنسبة للتقاليد الأوربية بشكل عام والفرنسية بشكل خاص، تقوم في محاولتها إعادة تأسيس الرؤية التاريخية بطريقة تحررها من "العقل" السابق! من هنا نقد جميع تقاليد العلم والعقل القديمة، ومحاولة تفتيت اليقين الصارم للعلم والصورة الكلية للرؤية العلمية. ومن ثم تأسيس فكرة التنوع والآفاق المتنوعة للمعرفة والحقائق. من هنا أولوية الاهتمام بالعوالم الصغرى، والاتجاهات والمجريات الجزئية، والتيارات الذرية، والحالات الخاصة، والفردية والفردانية. ووجد كل ذلك تعبيره في المنهج الذي وضعه فوكو الذي اعتبر توجه ما بعد الحداثة هو تأسيس حق الانتفاض والتمرد ضد العقل (القديم أو التقليدي أو السائد في التاريخ العقلي الأوربي).

لقد ساهمت كافة هذه المدارس وكثير غيرها ما لم يجر التطرق إليه هنا في تعميق وتدقيق الفكرة التاريخية ومناهجها الخاصة. ومن ثم إرساء وتأسيس وتعميق الرؤية العقلانية والنقدية في الموقف من الماضي والحاضر. ومن ثم كان بإمكانها التأثير بصورة غير مباشرة في الحياة السياسية، لكنها لم تنظر إلى هذه المهمة، كما لو أنها مهمتها العملية.

لهذا لم اتناول في هذا الكتاب سوى بعض الفلسفات التي لعبت دورا سياسيا كبيرا في تاريخ الأمم والتاريخ البشري ككل. وذلك لأنها كانت تضع في صلب تصوراتها وهمومها وغاياتها مهمة تنشيط الإرادة العملية للتغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي، أي تلك التي ساهمت وتساهم في تأهيل المجتمعات والأمم للانتقال من مرحلة تاريخية ثقافية إلى أخرى أرفع. لكنها تختلف في تأسيسها لهذه المهمة التاريخية وغاياتها. ومع ذلك لم يستطع أي منها التحرر من ثقل الرؤية السياسية والأيديولوجية في الموقف من التاريخ.

أما ما اسعى إلى تأسيسه فهو فلسفة للتاريخ تقوم في استمداد الفكرة السياسية ومهماتها من التاريخ العام (قانون المسار التاريخي الثقافي) والتاريخ القومي (منطق العقل الثقافي) بوصفها تجربة ثقافية ضمن هذا المسار، وليس بالعكس.

 

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم